تنبع أهمية هذا الكتاب الذي يتناول طغيان الرأسمالية وتوحشها في عالم السياسة واجتياحها للديمقراطية في الولايات المتحدة والعالم,
من نقطتين اساسيتين, اولاهما صورة الترجمة الخاصة به في بداية العام الحالي الذي شهد ثورة52 يناير وما تضمنته من رفض لاجتياح رأس المال لعالم السياسة والسلطة في مصر وما نجم عنه من تقزيم وتهميش للديمقراطية ودور المواطن في الحياة السياسية.
بل ان عملية الرصد لهذا الاجتياح ومحاولات تجميل دور الرأسمالية من خلال صياغات المسئولية الاجتماعية للشركات, وما ارتبط بها من تساؤلات طرحها الكاتب روبرت ـ ب ـ رايش. في كتابه متتبعا للتحولات التي شهدها قطاع الأعمال والديمقراطية والحياة اليومية. اقرب ما تكون للواقع الذي عايشناه لثلاثة عقود. وما كشفت عنه تطورات مابعد ثورة52 يناير من توحش وليس مجرد طغيان رأس المال علي حساب الديمقراطية.
اما النقطة الثانية: فتببع من شخصية الكاتب ذاته, فهو مفكر اقتصادي ورجل سياسة في آن واحد, حيث عمل روبرت ب ـ رايش في ثلاث حكومات امريكية إبتداء من الرئيس فورد الي كلنتون مرورا بكارتر, وكان لتوليه منصب وزير العمل في حكومة بيل كلينتون, مع خلفيته كمفكر اقتصادي تخصص في مجالات السياسة العامة والسياسة الاجتماعية والاقتصادية في العديد من الجامعات الامريكية وعلي رأسها جامعة هارفارد واثرهما في تصدر كتبه قائمة الكتب الاقتصادية الاكثر مبيعا, ومنها الكتاب الذي نعرضه الرأسمالية الطاغية, كتاب بعد الصدمة ـ الاقتصاد التالي ومستقبل امريكا, فهو ليس بسارد لتطورات الاوضاع ولكنه محلل ومفكر, يخلص الي قناعات وآراء قد تبدو في غير اتجاه الريح علي الساحة الاقتصادية الأمريكية وخاصة في ظل سيطرة من أطلق عليهم اسم المحافظين الراديكاليين. ومن هنا كانت خلافاته الفكرية التي صاغتها في كتاباته مع وزراء المالية الامريكيين, سواء خلال حكم بيل كلينتون وحتي حكم أوباما انطلاقا من قناعته بان المسار الطاغي للرأسمالية ادي الي تقليص دور الطبقة الوسطي. وكانت نتيجته التلقائية ممثلة في التحديات التي واجهها الاقتصاد الأمريكي بعد الازمة المالية الاخيرة, وهي تحديات تواجه أي دولة طالما اطلقت العنان للرأسمالية, وحرصها علي المستثمر والمستهلك الفرد علي حساب المواطن, وهي ما صاغه في كلمات معبرة لقد ازداد التوجه نحو الرأسمالية وأصبحت اكثر تجاوبا مع ما نريده كمشتريين افراد وكمستثمرين, ولكن اصبحت الديمقراطية اقل تجاوبا مع ما ننشده مجتمعين كمواطنين. إذا كان دور النظام الرأسمالي هو توسيع وتكبير الكعكة الاقتصادية, فان تقسيم الشرائح متروك تقريرها للمجتمع وهو الدور الذي نسنده للديمقراطية, حيث ان الاخيرة تعني ماهو اكثر من مجرد انتخابات حرة نزيهة, فهي نظام لانجاز مالا يمكن تحقيقه إلا من خلال تعاون وتكاتف المواطنين مع مواطنين آخريين ـ لتقرير قواعد اللعبة التي تعكس نتائجها الصالح العام.
الراسمالية والديمقراطية.. مأزق التباعد
تلك هي الوقائع التي رصدها الكاتب والمفكر الاقتصادي روبرت ب ـ رايش في كتابه الذي ترجمته علا أحمد إصلاح, ولخصها في تساؤله لماذا اصبحت الرأسمالية منتصرة والديمقراطية ضعيفة الي هذا الحد؟ هل هذان الاتجاهات متصلان ببعضهما؟ وما الذي يمكن القيام به لتقوية الديمقراطية وتدعيمها؟
وقد جاءت محاولة الكاتب الاجابة علي هذا التساؤل والخروج من مأزق التباعد الي حل التواصل بين الجانبين, لتكون بمثابة ضوء كاشف لما شهده العالم علي مدي عدة عقود, إبتداء من الولايات المتحدة ذاتها, من اجتياح الراسمالية للديمقراطية وترجمة استطلاع للرأي العام, اشار فيه نسبة تزيد علي60% من المواطنين الامريكيين, الي اعتقادهم بان الحكومة تدار بواسطة قلة من المصالح الكبري( عام0002) بينما كانت هذه النسبة لا تتجاوز93% في عام(4691).
> فالكاتب يري ان الفجوة بين الأفراد كمواطنين وبصفتهم مستهلكين مستثمرين تضيق وتتسع من مكان لآخر في عالم العولمة والانترنت والمدونات, فهناك جماعات وهيئات لحماية المستهلك. وجماعات آخري ضاغطة وفعالة لتسهيل مناخ الاستثمار وتدعمها مؤشرات دولية, ولكن الديمقراطية الحقيقية ـ وليس مجرد الالفاظ المطلقة ـ هي القضية الاساسية للمواطن ابتداء من شرق أوروبا الي امريكا اللاتينية مرورا بآسيا وافريقيا.
> إنه يري أيضا أن تلك الأنظمة ديمقراطية بالاسم فقط ويثقل كاهلها نفس المشكلات التي عوقت الديمقراطية الامريكية في السنوات الاخيرة, ولكن بدرجة أكبر فحسب, فهناك الفساد المستوطن والهيمنة السياسية من جانب النخب الصغيرة أو حكم الحزب الواحد, وكل هذه الأوجه لا يستطيع أي منها ان يصمد بفاعلية في وجه الآثار الجانبية السلبية للرأسمالية الطاغية التي أفرزتها سنوات السبعينات, وفرضت حتمية الدراسة التفصيلية للهيكل المتغير للاقتصاد السياسي في الولايات المتحدة باعتبارها المصدر الرئيسي لهذه المتغيرات وادت الي التغيرات المماثلة في بلدان أخري
الطبقة المتوسطة.. رحلة الصعود والانكسار:
فاذا كانت الرأسمالية شرطا اساسيا مسبقا للديمقراطية, طبقا لميتون فريدمان فان امريكا لايعتقد الكاتب ـ انها خير مثال لفكرة ان الرأسمالية والديمقراطية تشيران جنبا الي جنب, لقد اصبحت العلاقة بينهما أكثر توترا. حيث انتصرت رأسمالية السوق الحرة بينما ضعفت الديمقراطية, فلماذا؟
الاجابة عن هذا التساؤل تضمنها الفصول الستة للكتاب والتي من خلالها روبرت. ب. رايسن رصد عملية النمو للحصر الذهبي للرأسمالية الامريكية وتحليل الشوائب التي قللت من بريقه واكتمال صوره في الفصل الأول. ثم توالت التطورات المتلاحقة الناجمة عن الاتجاه المتنامي للرأسمالية الطاغية وما أفرزته من عقلية مزدوجة في التعامل مع مطالب المستهلكين والمستثمرين من جانب وعدم القدره علي تجميع قيم المواطن من جانب آخر وذلك في الفصلين الثاني والثالث. ومع تصاعد تلك التطورات. كانت النتيجة السلبية الحتمية ألا وهي اجتياح الديمقراطية تم تحويل مسار السياسة ذلك في الفصلين الرابع والخامس. أما الفصل السادس فقد انصب علي تحديد كيفية مواجهة المطالب الاجتماعية للرأسمالية الطاغية وفك عقدة الارتباط بين السياسة وجماعات الضغط, أو ما أطلق عليه الكاتب اسم مناوري الأروقة داخل المجالس التشريعية واللجان والادارات والاجهزة الحكومية إضافة إلي اموال الشركات التي تتدفق الي النظام بصورة يومية
ويري الكاتب أنه علي الرغم من نمو العصر الذهبي للرأسمالية الأمريكية والذي شابه العديد من الانتقادات التي أفقدته صفة التميز المطلق وجعلت الشوائب المدنية تقلل من ممثلة في حقوق المرأة والاقليات ونضالهم من اجل المساواة. بالاضافة الي تهديد الحريات المدنية من جانب حملات السيناتور جون مكارثي الا أن الرأسمالية الديمقراطية التي سادت علي مدي الفترة من5491 ـ5791, تحت التجربة الامريكية حظيت بالاعجاب والاستحسان علي نطاق واسع. فقد شهدت هذه الفترة مجموعة من المفاوضات المتواصلة بن اللاعبين الرئيسيين بصورة مباشرة مثل منشآت الأعمال الكبيرة والتنظيمات العمالية الكبيرة واحيانا أخري بصورة غير مباشرة ضمن الوكلات التنظيمية والمجالس التشريعية وكانت المحصلة النهائية ظهور طبقة متوسطة كبيرة ومتنامية عبر الولايات المتحدة ساهمت في تحقيق الاستقرار للنظام السياسي وكانت نتيجة لأداء أنظمة أقتصادية كبيرة الحجم ذات أنتاجية وربحية مرتفعة, واستقرار في الوظائف وتوسع في توزيع الأرباح, ومن ثم كانت الدائرة كاملة بين الأداء الرأسمالي والممارسة الديمقراطية.
أما الرأسمالية الطاغية منذ بدأ الطريق اليها عبر التكنولوجيات التي أفرزتها
حيث حطمت نظام الانتاج الكبير القديم وزادت من المنافسة بصورة حادة في اطار من العولمة في الاستثمار والتنافس علي تجميع القوة الشرائية للمستهلك, وذلك علي حساب العمالة والمرتبات والاجور.
وكانت النتيجة الطبيعية تعاظم التكتلات التي تقوم بتجميع مطالب المستهلكين والمستثمرين بينما تراجعت المؤسسات التي دأبت علي تجميع قيم المواطن في ظل المفاوضات بين الاحتكارات الكبيرة والنقابات العمالية التي يغطي نشاطها صناعات بأكملها في الاقتصاد السياسي الاوسع.
مناورات الاروقة في عالم السياسة:
ثم كان اجتياح الديمقراطية من خلال تغلغل المال في عالم السياسة وكيف أن المواطن اصبح بين شقي الرحي. مابين المؤسسات الكبري التي حجبت وهمشت اصوات المواطنين لصالح المستهلكين والمستثمرين وكذلك دور هذه المؤسسات في تصعيد المنافسة علي تحقيق نتائج سياسية تمنحها ميزة عن منافسيها من خلال مناورات الأروقة والتي تعادل جماعات الضغط داخل المجالس التشريعية والاجهزة الحكومية بالاضافة الي أموال الشركات التي تتدفق لتمويل الانتخابات وإذا كان الكاتب يرصد ويحلل الوضع في العاصمة الامريكية واشنطن فانه لايبدو, بمعزل أو منفصل عما يحدث في العديد من العواصم الاخري فهناك حرية أمام المستهلك في اتخاذ قرار الشراء من عدمه, او التحول من منتج لآخر. وكذلك بالنسبة للمستثمر الفرد حامل الاسهم والصكوك. فهو يملك حرية البيع والشراء. أما بالنسبة لأصوات المواطنين فيكاد السياسيون لايسمعونهم بسبب تنافر نغماتهم, بل أن هذا المواطن في طريقه لفقد الثقة في ان ما يجب أن نقوله كمواطنين ذو أهمية ـ طبقا لرؤية روبرت رايش وذلك نتيجة تدفق الرأسمالية الي الحقل السياسي واحتياجها للديمقراطية في الولايات المتحدة ومنها الي اعديد من دول العالم. لقد اصبح صوت ضجيج الشركات الكبري ورأس المال اعلي من صوت المواطن تحول دون سماعه. فهناك حلقة مفرغة, تتمثل في ان المسئولين المنتخبين يدينون بالفضل للشركات الكبري التي تكدس الأموال لصالح حملاتهم الانتخابية, وعندما يتربع هؤلاء علي مقاعد السلطة ايا كانت نوعيتها, يقومون بنهب المزيد من المساهمات المالية من هذه الشركات عبر وسطائهم( مناوري الأروقة) بدافع الخوف من ان يحصل المنافسون في دوائرهم علي الاموال بدلا منهم, ومقابل ذلك تصور التشريعات وتتصاعد حمي الدعوات القضائية من جانب الشركات التي اصبحت تعامل كبشر, بينما المواطن البشر لم يجد سوي المدونات للتنفيس عن الاحباطات والتي تفتقر الي صلة مباشرة مع صانع القرار!!!
> ويؤكد الكاتب, أن المؤسسات الاقتصادية الحالية اقل قوة عما كانت عليه منذ ثلاثة عقود مضت, لكنها اصبحت تتنافس بصورة اشد شراسة واقوي عما مضي نظرا لتزايد اعدادها وبالتالي تناقص قواتها السوقية.
وعلي النقيض من الأفكار السائدة التي تربط بين الرأسمالية الطاغية وكل من رونالد ريجان ومارجريت تاتشر. او القادة المحافظين. يؤكد الكاتب ان الادارة الديمقراطية للرئيس بيل كلينتون. شهدت الطفرة الحادة في عدد مناوري الاروقة الممثلين للشركات الكبري في العاصمة الامريكية, كما ان التغيرات الاقتصادية فرضت بدايتها قبل وصول ريجان للحكم. وحتي بالنسبة للنظريات التي تشير الي الليبرالية الجديدة او الاقتصاد الكلاسيكي الجديد. او المذهب المحافظ الجديد او الاجماع الواشنطوني واثرها في طغيان الراسمالية الامريكية يري الكاتب ان هذه الافكار موجودة منذ تنبأ بها آدم سميث في القرن الثامن عشر, ولم تحدث تحولا بل أضفت عليه صبغة شرعية علي الاكثر. حيث ركزت علي الاسوا اكثر من الاعتماد علي الحكومة واهتمت بالكفاءة اكثر من العدالة.
وإذا كان الوضع كذلك. فكيف يكون المخرج؟
الاجابة من وجهة نظر روبرت. ب. رايش تتمثل في وضع قواعد جديدة للعبة, اكثر عدالة ونزاهة تعكس قيم المواطن وايضا قيمته كمستهلك ومستثمر, وحيث ان الرأسمالية الديمقراطية الامريكية التي سادت الخمسينات والستينات لن تعود, فانه يمكن تشكيل المستقبل بطريقة تخدم اهداف ومصالح المواطنين ـ إن تفهم الحد الفاصل المناسب بين الرأسمالية والديمقراطية, وبين اللعبة الاقتصادية وكيف يتم وضع قواعدها لكي يتسني الدفاع عنها بصورة افضل. فالتحدي الاساسي الذي يواجهنا كمواطنين. من وجهة نظر الكاتب: هو منع الشركات من ان تضع هي القواعد والحيلولة دون امتداد وتغلغل الرأسمالية الطاغية الي داخل الديمقراطية, وهي أجندة التغيير البناءة في وجه الآثار السلبية للرأسمالية الطاغية.
مابعد الصدمة.. الاقتصاد التالي ومستقبل أمريكا
إمتدادا لوجهة النظر والرؤية التحليلية الخاصة بروبرت ب. رايش جاء كتابه في تحليل الازمة المالية الاخيرة.. والذي يعد كتابه عن الرأسمالية الطاغية, بمثابة الجذور الاساسية به. فقد ركز علي اختلافه مع وجهة نظر وزير الخزانة الامريكي تيموثي جينتر في ان الازمة المالية ناجمة عن توسع الامريكيون في الانفاق بينما تتضاءل قدرتهم علي الادخار: حيث يري روبرت رايش ان السبب الاساس هو ركود الطبقة المتوسطة من حيث مستويات الدخول وانفجار فجوة عدم المساواة في المجتمع الامريكي, واوضح ان المشكلة الرئيسية لم تكن في أداء شارع المال وول ستريت ولكن في تركز الثروة في ايدي حفنة قليلة من الاغنياء حيث يستحوذ1% من اغني اغنياء الولايات المتحدة علي نسبة52% من اجمالي الدخل القومي, بينما الطبقة المتوسطة تواجه بارتفاع تكاليف المعيشة مع ثبات اجورها. مما ادي الي افراطها في المديونية.
وهذا يقتضي ضرورة التزام الدولة الامريكية بالعدالة والمساواة في الفرص وان تتضمن خطة المستقبل للعقود القادمة, مزيدا من الممارسة الانسانية في أداء النظام الاقتصادي الامريكي. فتنافسية الدولة. تعتمد علي التعليم ومهارات أفراد شعبها والبنية الاساسية التي تربطهم ببعض.
وهو ذات الخط الذي انتهجه الكاتب في سلسلة كتبه, وركز فيه علي ان الأفراد هم رأس المال البشري للدولة, ويشكلون المصدر الذي يعتمد عليه في قياس مستوي المعيشة المستقبلي لها وليس ربحية الشركات ومراكزها الرئيسية من خلال أرقام رؤوس اموالها, ومن ثم فإن الاستثمار العام هو حجر الاساس في السياسة الاقتصادية.
أشرف عاصى
ساحة النقاش