جمع وتحقيق الفقير إلى الله تعالى
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى أتْباعه المتمسِّكين بسُنَّته، والمُهتَدِين بهَديِه إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد:
فلأهميَّةِ الصلاة في الإسلام، وكونِها عِمادَ الدِّين، والصلةَ بربِّ العالمين، ولوجوب التعاون على البِرِّ والتقوى، والتواصي بالحقِّ، والصبر عليه؛ فقد ألَّفْتُ رسالةً إلى أئمَّة المساجد والمؤذِّنين والمأمومين، وتوسعتُ فيها حتى شملتْ أحكامَ الصلاة مِن أولها إلى آخرِها، وضُمَّ إليها فتاوى تتعلَّق بالصلاة، وخُطبةِ الجُمُعة، وفهارس بعضِ الكتب والخُطب ليُستفادَ منها ويُحذَى حذوَها، وبلغتْ 263صفحة من الحَجْم الكبير؛ لذا رأيتُ أن أختصرَ منها ما يتعلَّق بأئمَّة المساجد وخطباء الجوامع، الذين هم قُدوةُ الناس في هذه العِبادة الجليلة من أحكام وآداب.
وقد اشتملتْ على نصيحة في الحثِّ على العناية بالصلاة، وعلى مِقدار صلاة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعلى بيان واجباتِ إمام المسجد ومسؤوليته، وما يَنبغي له، وبيان الإمامة الصحيحة، ووظيفة الأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحُكم الجَهْر بالقراءة في المسجد، وعلى ذِكْر حالات المأموم مع إمامة في صلاة الجماعة، وتنبيهات على بعضِ الأخطاء التي يفعلُها بعضُ المصلِّين في صلاتِهم.
وعلى ذِكْر مسائلَ في السَّهو في الصلاة، وحُكم القنوت في صلاة الوتر، وصلاة الفَجْر، وحُكم إمامةِ مَن يَشربُ الدُّخان، وحُكم إمامةِ حالِقِ اللِّحية للصلاة، وعلى ذِكْر أسماء بعض الكتب التي تناسب قراءتُها على الجماعة في المساجد والمجالس وغيرها، وذِكْر ما يتعلَّق بصلاة الجُمُعة وخُطبتِها، وحُكمها وحِكمتها، وذِكْر أسماء بعض مراجع خُطب الجُمُعة والعيدين.
كما اشتملتْ على ثلاث نصائحَ لم يتخلَّفون عن أداء الصلاةِ مع الجماعة، وعلى ذِكْر الأمور التي ينبغي على الإمام مراعاتُها تجاهَ المأمومين في نُصْحهم وإرشادِهم، كما اشتملتْ على ذِكْر ما تيسَّر من أحكام الإمامة والائتمام، وذكر في آخرِها أسماء المراجع والفهرس.
وهي مستفادَةٌ من كلام الله - تعالى - وكلام رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكلام المحقِّقين من أهْل العِلم، أسأل الله - تعالى - أن ينفعَ بها مَن كَتَبها أو قرأها، أو سَمِعها فعمل بها، وأن يجعلَها خالصةً لوجهه الكريم، ومن أسباب الفوْز لديه بجنَّات النعيم، وهو حسبنا ونعمَ الوكيل، ولا حولَ ولا قوَّة إلاَّ بالله العلي العظيم، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نصيحة في الحث على العناية بالصلاة:
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى مَن تبلغُه هذه النصيحة من إخواننا المسلمين أئمَّة المساجد والمأمومين وسواهم، سلَكَ الله بنا وبهم صراطَه المستقيم، آمين.
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فغير خافٍ على الجميع شأْنُ الصلاة في الإسلام، إذ هي عمودُه، بها يستقيم دِينُ المسلم، وتصلح أعمالُه، ويعتدل سلوكُه في شؤون دِينه ودنياه متى أُقيمت على الوجهِ المشروع عقيدةً وعبادة، وتأْسيًا برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لِمَا لها من خاصية، قال الله عنها في محكم التنزيل: ﴿إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر﴾ [العنكبوت: 45]، وقال: ﴿قَدْ أفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ [المؤمنون: 1 - 2]، وكما أنَّ هذا شأْنها، فهي أيضًا مطهرة لأدران الذُّنوب، ماحية للخطايا.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((أرأيتُم لو أنَّ نهرًا بباب أحدِكم يغتسل منه كلَّ يوم خمسَ مرَّات، هل يبقَى مِن درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقَى من درنه شيءٌ، قال: ((فذلك مثل الصلواتِ الخمسِ؛ يمحو الله بهنَّ الخطايا))؛ متفق عليه.
فحريٌّ بالمسلم تُجاهَ فريضةٍ هذا شأْنُها ألاَّ يفرِّطَ فيها، كيف وهي الصلة بينه وبين ربِّه – تعالى؟! كما أنَّها جديرةٌ بالتفقُّه في أحكامها، وغير ذلك ممَّا شَرَع الله فيها، حتى يؤدِّيها المؤمن بغاية الخشوع، والإحسان والطمأْنينة؛ ظاهرًا وباطنًا؛ فعن عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما مِن امرئ تحضرُه صلاةٌ مكتوبة، فيُحسِن وضوءَها وخشوعَها إلاَّ كانتْ كفَّارة لِمَا قَبْلها من الذنوب، ما لم تُؤتَ كبيرة، وذلك الدَّهرَ كله))؛ رواه مسلم.
فعليكم - معشرَ المسلمين - بتقوى الله في أُموركم عامَّة، وفي صلاتكم خاصَّة؛ أن تُقيموها محافظين عليها، وحافظين لها عمَّا يُبطِلها، أو ينقص كمالَها؛ من تأْخير لها عن أوقاتِها الفاضلة من غير عُذْر شرعي، أو التثاقل عن أدائِها جماعةً في المساجد، أو الإتيان فيها بما يُذْهِب الخشوع، ويُلهي القلوب عن استحضار عَظمةِ مَن تقفون بين يديه - تعالى - وتدبُّر لكلامه وذِكْره، ومناجاته -جلَّ شأْنُه - من نحو تشاغُلٍ في أُمور خارجة عنها، أو حركات غير مشروعة فيها، كالذي يَحْدُث من البعض عبثًا، من تعديل لباسِه من غترة وعقال، ونَظَر إلى الساعة، أو تسريح شَعْر لحية، ونحوها، بعدَ الإحرام بها، كلُّ هذا ممَّا يُنافي الخشوعَ الذي هو لُبُّ الصلاة ورُوحها، وسبب قَبولها، وتحذيرًا من مِثْل هذا جاء الحديث: ((إنَّ الرجل ليقومُ في الصلاة، ولا يُكتب له منها إلاَّ نِصفُها، إلى أن قال: إلاَّ عُشرُها))؛ رواه أبو داود بإسناد جيِّد.
فعلى الجميع عامَّة، وعلى الأئمَّة خاصَّة، أن يكونوا على جانبٍ كبير مِن الفِقه في أحكام الصلاة، وأن يكونوا قدوةً حسنة في إقامة هذه الشعيرة العظيمة؛ لأنَّه يَقتدي بهم المأْمومون، ويتعلَّم منهم الجاهلُ والصغير، وربَّما ظنَّ البعضُ من العامَّة أنَّ ما يفعله الإمامُ - ولو كان خلاف السُّنَّة - أنَّه سُنَّة، ولا سيَّما بعضُ المسلمين الوافدين من بعض البُلدان الخارجيَّة، ممَّن لا يعرف أحكامَ الصلاة على الوجه المشروع، كما أنَّ ممَّا تساهل فيه بعضُ الأئمَّة وبعض المأمومين: العنايةَ بتسوية الصفوف، واستقامتها، والتراص فيها، وهو أمرٌ يُخشى منه للوعيد الوارد؛ فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يمسح مناكِبَنا في الصلاة ويقول: ((استووا، ولا تَختَلِفوا، فتختلفَ قلوبُكم))؛ رواه مسلم.
وفي المتفق عليه: ((لتُسوُّنَّ صفوفَكم، أو ليُخالفنَّ الله بين وجوهكم))، وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((سووا صفوفَكم، فإنَّ تسوية الصفِّ من تمام الصلاة))؛ متفق عليه.
فكانتْ سُنَّةُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الحثَّ على تسوية الصفوف، والحث على المحافظة على أداء الصلوات في المساجِد جماعةً، كما دَرَج عليها الصحابة والتابعون لهم بإحسان سَلفًا وخلفًا، وفي ذلك الأجرُ العظيم من الله؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن غَدا إلى المسجدِ أو راح، أعدَّ الله له في الجَنَّة نُزُلاً، كلَّما غدَا أو راح))؛ متفق عليه.
وعنه - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن تطهَّر في بيته، ثم مَضَى إلى بيت من بيوت الله؛ ليقضيَ فريضةً من فرائض الله، كانت خُطواتُه إحداها تحطُّ خطيئةً، والأُخرى ترفع درجةً))؛ رواه مسلم.
وإذا عُلِم هذا، فممَّا يجب الحذرُ منه ظاهرةُ التثاقُل من البعض عن صلاة العشاء، وصلاة الفجر في المساجد جماعةً، وهي عادة خطيرة؛ لأنَّها من صفات المنافقين؛ لِمَا صحَّ عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((أثقلُ الصلاةِ على المنافقين صلاةُ العِشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتَوْهما ولو حَبوًا)).
فلا عُذرَ ولا رخصةَ دونما عذر شرعي لِمَن سمع النداءَ فلم يُجِب؛ لقول النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن سمع النِّداءَ فلم يأْتِ، فلا صلاةَ له، إلاَّ من عذر))، واستأْذنَه رجلٌ أعمى ليس له قائد يُلازِمه: هل له رُخصةٌ أن يُصلِّي في بيته، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((هل تسمع النِّداء بالصلاة؟)) قال: نعم، قال: ((فأجِبْ))، وفي رواية أُخرى قال: ((لا أجِدُ لك رُخصةً)).
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "مَن سرَّه أن يَلْقى الله غدًا مسلِمًا، فليحافظْ على هؤلاءِ الصلوات حيثُ يُنادَى بهنَّ، فإنَّ الله شَرَع لنبيِّكم سُننَ الهُدَى، وإنهنَّ من سُنن الهدى، ولو أنَّكم صَلَّيتُم في بيوتكم، كما يُصلِّي هذا المتخلِّف في بيته لتركتُم سُنَّة نبيِّكم، ولو تركتُم سُنَّة نبيِّكم لَضللتُم، ولقدْ رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلاَّ منافقٌ معلوم النِّفاق، ولقدْ كان الرجل يؤتَى به يُهادَى بين الرَّجلَين حتى يقامَ في الصفِّ))؛ رواه مسلم.
فهذه الأحاديثُ وما جاء في معناها دليلٌ على وجوب حضور الجماعة حيثُ يُنادَى بالصلاة، وفي امتثالها طاعةُ الله ورسوله، وسعادةُ الدارَين، والبُعدُ عن مشابهة أهل النِّفاق وصفاتهم.
فأسأل اللهَ - تعالى - أن يُوفِّقنا وإيَّاكم لِمَا يُرضِيه، وأن يرزقَنا الاستقامةَ على دِينه، والمحافظةَ على هذه الصلوات الخمس حيثُ يُنادى بهنَّ، وأداءَهنَّ، والخشوعَ الكامل؛ رغبةً فيما عند الله، وحذرًا من عذابه، إنَّه وليُّ هذا والقادر عليه، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وآله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
مقدار صلاة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فينبغي لكلِّ إمام ومُنفرِد، وكلِّ مصلٍّ: أن يراعيَ هدي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في صلاته القائل: ((صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي))؛ متفق عليه، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ طولَ صلاة الرجل وقِصَر خُطبته مَئِنَّة (علامة) مِن فِقهه، فأطيلوا الصلاةَ، واقْصُروأ الخُطبة))؛ رواه مسلم.
وأمَّا قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا صلَّى أحدُكم بالناس فليخفِّف))؛ متفق عليه.
فقال ابن القيِّم: "التخفيف أمرٌ نسبيٌّ إضافي راجع إلى السُّنَّة، لا إلى شهوة الإمام والمأمومين، فكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُصلِّي صلاةً تامَّة متناسبة، كان إذا أطال القِيام، أطالَ الرُّكوع والسُّجود، والاعتدال بعدَ الركوع، والجلوس بين السجدتين، وإذا خفَّف القيامَ خفَّف الرُّكوع والسُّجود وما بينهما.
وكان يقرأ في صلاة الفجر من سِتِّين آية إلى مائة آية، وكان يقرأ فيها بسورة ﴿ق﴾ ونحوها من السُّور، وكان يقرأ في كلِّ ركعة من الركعتين الأُولَيَينِ من صلاة الظُّهْر بقدر ثلاثين آية، وفي الأخيرتين على النِّصف من ذلك، وكان يقرأ في الأُوليَين من صلاة العصر في كلِّ ركعة قدر خمس عشرة آية كالأخيرتين من الظُّهْر، وفي الأخيرتين على النِّصف من ذلك.
وأحيانًا كان يقتصر في الركعتين الأخيرتين من الظُّهْر والعصر على الفاتحة، وكان يقرأ في صلاة المغرب أحيانًا من قِصار المفصَّل، وأحيانًا من طواله، وطوالُ المفصل من سورة ﴿ق﴾ إلى سورة ﴿النبأ﴾، وأوساطه من سورة ﴿النبأ﴾ إلى سورة ﴿والضحى﴾، وقصارُه من ﴿والضحى﴾ إلى آخر القرآن، ووقَّت - عليه الصلاة والسلام - لمعاذ بن جبل بالقراءة في صلاة العِشاء بـ ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾، ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾، ﴿واللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾، ونحوها من السُّور من أوساط المفصَّل.
وكان مقدار تسبيحات الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الرُّكوع والسُّجود عشرَ تسبيحات، وكان الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُطيل القِيام بعد الرُّكوع والجلوس بين السَّجدتين، فكان إذا رَفَع رأْسَه من الرُّكوع مَكَث قائمًا، حتى يقول القائلُ قد نسي، وإذا رفع رأْسَه من السُّجود مَكَث جالسًا، حتى يقول القائل قد نسي.
ويُلاحَظ على بعض الأئمَّة عدمُ تطبيق السُّنَّة في ذلك، وفي إطالة القراءة في صلاة الفجر والركعتين الأُوليَين من صلاة الظهر، كما يُلاحظ على الكثير منهم أنَّهم يُطيلون القراءةَ في قيام رمضان، ويُخفِّفون الركوع والسجود، وكذلك في صلاة الكسوف، كما يُخفِّفون القيام بعد الركوع، والجلوس بين السجدتين، وهو خِلافُ السُّنَّة، والخيرُ كلُّه في هدي النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والاقتداءِ به - صلوات الله وسلامه عليه"؛ انظر مقدار صلاة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في كتاب "الصلاة" لابن القيم، وفي "زاد المعاد" له ج1.
المسؤولون عن المسجد وواجبات الإمام:
إذا كان المسجدُ بهذه المنزلة العظيمة، والمكانة الرفيعة، فلا بدَّ له من مسؤولين عنه، فأوَّل مسؤول عن المسجد هو الإمام؛ لذا يجبُ أن يُختارَ من ذوي العِلم والأهلية، وممَّن يُتقِنون القِراءة، ويُحسِنون التِّلاوة، وممَّن هم على جانب كبير مِن المعرفة بأحكامِ الدِّين والعِبادة، لا سيَّما الصلاة.
ويجب على الإمام أن يكونَ قُدوةً صالحة لِمَن يُصلُّون خَلفَه، فالإمام متقلِّدٌ أمرًا عظيمًا في إمامة المسلمين، وتولِّي شؤون المسجد الذي هو أمانةٌ في عنقه، سيُسأل عنها يومَ القيامة، فيجب عليه إذًا أن يبذلَ مهجتَه في نُصْح إخوانه المسلمين، وإرشادِهم وتوجيههم إلى الطريق الأسلم، والسبيل الأقوم، فهو المسؤول الأوَّل في المسجد الذي تولَّى إمامتَه، وتَقدَّم المصلِّين يَقتدونَ به في أعظم ركن من أركان الإسلام بعدَ الشهادتين، ألاَ وهو الصلاة، وبهذا يجب عليه أن يستشعرَ هذه المسؤوليةَ العظيمة، وأن يتقيَ الله في نفسه، وفيمن تقلَّد أمرَهم.
أيُّها الإمامُ الكريم، يقول رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مسؤول عن رعيَّتِه، الإمامُ راعٍ ومسؤول عن رعيَّتِه، والرجلُ راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيَّتِه، والمرأةُ راعيةٌ في بيت زوجِها ومسؤولة عن رعيَّتِها، والخادم راعٍ في مال سيِّده ومسؤول عن رعيَّتِه))[1]، فهذا الحديث يدلُّ على أنَّ الله - تعالى - سيسأل كلّ من استرعى على أمر ماذا عمل، وفيما استرعَى عليه، وبدأ بالإمام الأعظم، وانتهى بالخادم، ومعلومٌ أنَّ إمامة المسجد ولايةٌ عظيمة.
أيُّها الإمام، اتَّقِ الله في نفسك وجماعتِك، فإنَّهم أمانةٌ في عنقك، وستُسأل عنها يومَ القيامة، يوم تُعرض على الله.
كُن قدوةً لِمَن يأتمُّون بك، إذا وقفتَ أمامَهم فتصوَّرْ قدرَهم، ثم تصوَّرْ ما أنت عليه من أعمال وتصرُّفات، وهل هي مُرضِيةٌ لله، فأنت أهل لهذه الإمامة، أم أنَّ لك أعمالاًَ وتصرفاتٍ لا يعلمون عنها، وهي غير مُرْضِية لله، فتجنَّبْها لتكونَ قدوةً حَسَنة في سِرِّك وعلانيتك، كن ناصحًا لجماعتك مُتفقِّدًا لهم، كن حذرًا من حركاتك وتصرُّفاتك خاصَّة أثناء الصلاة، واعلم أنَّه يُنظر إليك من حيث تدري، ومن حيث لا تدري، اجعلْ لجماعتِك قيمةً في نفسك؛ ليكونَ لك قيمةٌ في نفوسهم، وبذا يحترمونك.
أيُّها الإمام، أصلِحْ نِيَّتَك، واجعلْ عملك خالصًا لوجه الله - تعالى - لأنَّ الإخلاص أساسُ نجاح الأعمال، اتخذِ الإمامة طريقًا للدعوة إلى الخير، محتسبًا الأجر عند الله، راعِ مصالِحَ الناس وظروفَهم وحاجاتِهم، لقد ورد في الحديث عن تميم بن أوس الداري - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((الدِّينُ النصيحة))، قُلْنا: لِمَن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمَّة المسلمين وعامتهم))[2].
فعِمادُ الدِّين ولُبُّه وقوامُه: النُّصْح لكلِّ مَن ذُكِر في الحديث، وذلك بحبِّ الخير لأئمَّة المسلمين وعامَّتِهم، وبذْل النُّصْح لهم، وإرشادِهم، والحِرْص على هدايتهم لكلِّ خير، وإبعادهم عن كلِّ شر.
عليك - رحمك الله ووفقك - أن تستشعرَ هذه القيادةَ الدِّينيَّة العظيمة، وأن تقوم بحقِّها، وألاَّ تجعلَها طريقًا للكسْب المادي، فليس هذا مِن شأْنِ المتقين، ومِن عِظم الإمامة ما ورد في الحديث: ((الإمامُ ضامنٌ، والمؤذِّن مؤتمن، اللهمَّ أَرْشِدِ الأئمَّة، واغفر للمؤذِّنين))[3].
وممَّا ينبغي للإمام أن يقومَ به: تعليمُ الناس وإرشادُهم، خصوصًا العاملين في المسجد كالمؤذِّن والخادم، فيبادر إلى تعليمِ المؤذن الأذانَ الصحيح، والإقامةَ الصحيحة، السالِمَينِ من الأخطاء والبِدع، أو تشويه الأذان كتلحينه والإطراب به.
كما ينبغي للإمامِ ألاَّ يبخلَ بالتوجيه والإرشاد لأهلِ الحي وجيران المسجد، فيُحسِن معاشرتَهم، ويَحضُّهم على الصلاة، ويتعاهدهم بالزِّيارةِ في منازلهم، ويتفقَّد أحوالَهم، ويَسعى في مساعدة المحتاجين، وفضِّ المنازعات، والإصلاح بينهم، ويعود مَرْضَاهم، ويُعلِّمهم الأخلاق الإسلاميَّة بالقول والفِعْل، ويتحبَّب إلى الأطفال، ويُرشِدهم إلى الصلاة، والأخلاق الحميدة.
وينبغي للإمامِ أن يُخصِّص بعضَ الأوقات للتدريس، كقراءة بعض الأحاديث وشَرْحها بشكلٍ موجز بعد صلاة العصْر، والقراءة على جماعته قبلَ صلاة العشاء، وأن يتحيَّن الفُرَصَ المواتية والمناسِبةَ لوعظِهم، أحيانًا بعدَ بعض الصلوات، خصوصًا إذا رأى خطأً من بعض المأمومين، أو نحو ذلك.
ويَنبغي لأئمَّة الجوامع أن يعتنوا بالخُطَب، وأن يحرصوا على جَعْلها وافيةً بالمطلوب، تُعالِج المشاكلَ العصريَّة، وأن يتجنبوا التَّكْرار، وأن يتحقَّقوا من صِحَّة الأحاديث التي يُستشهد بها أثناء الخطبة، وأن يتجَّنبوا الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وعليهم أن يعتنوا بضبطِ الآيات المُراد الاستشهادُ بها في الخُطبة، وغيرها مِن كلمة تُلقى على الجماعة ونحوها، وأن تكونَ الخُطبة مستوفيةً لأركانها، وهي: حمد الله، والشهادتان والصلاة على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - والوصية بتقوى الله، وقراءة آية من القرآن.
كذلك يَنبغي لخُطباء الجوامع الاعتناءُ بالخطبة من ناحية التركيز على موضوع مُعيَّن والإعدادِ له؛ لاستيعاب جوانبه، مع الاعتناء بالخُطبة الثانية أيضًا، وعدم جَعْلها على وتيرةٍ واحدة، بلِ الأولى أن يجعلَها مناسبةً لموضوع الخُطبة الأولى، ومُكمِّلة لها.
وممَّا يَنبغي لخُطباء الجوامع التَّنبُّهُ له: عدمُ إطالة الخُطبة إطالةً مُمِلَّة؛ فقد ورد في الحديث عن عمَّار بن ياسر قال: سمعت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ طُولَ صلاة الرجل، وقِصرَ خُطبته مَئِنَّةٌ مِن فقهه، فأطيلوا الصلاةَ، واقْصُروا الخُطبة، وإنَّ من البيان سِحْرًا))[4]، ومعنى المئنة: العلامة والمظنَّة.
وعن عبدالله بن أبي أَوْفى - رضي الله عنه - قال: "كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكثِر الذِّكْر، ويُقِلُّ اللَّغْو، ويُطيل الصلاةَ، ويقصر الخُطبة، ولا يأنف أن يمشيَ مع الأرملةِ والمسكين، فيَقضيَ له الحاجة"[5].
ويَنبغي تجنُّبُ الخُطب التي عَفَى عليها الدهْر، والتي تعدَّاها منطقُ العصر وأوضاعُه، ويجب التركيزُ على دعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة السليمة؛ عقيدةِ السَّلف الصالِح، مع بيان عظمة الإسلام وكماله، وأنَّه صالح لكلِّ زمان ومكان؛ لتكونَ الخُطبةُ هادفةً تُعطي السامعَ عِظةً وعبرة من كلِّ حدثٍ يَجِدُّ على الساحة، وبذا يَجِدُ السامع في الخطبة متعةً يشتاق إليها وإلى استماعها، ويَرِقُّ لها قلبُه.
ويجب على خطيب الجُمُعة أن يلقيَ الخُطبة بصوت وحماس، وبذا يكون أداةَ تبيين وإرشاد، وتوعية ودعوة إلى الله، لا أداة تنويم وتمليل، أو تنفير عن الدِّين، و((كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا خَطَب، احمرَّتْ عيناه، وعلا صوتُه، واشتدَّ غضبُه، حتى كأنَّه منذرُ جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم))[6]، وهذا يدلُّ على مشروعية تفخيم أمْر الخطبة، ورفْع الصوت بها، وأن يجزلَ كلامَه.
الإمامة الصحيحة:
الإمامةُ هي مسؤوليةُ الإمام الكبرى لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الإمام ضامنٌ، والمؤذِّن مؤتَمَن، اللهمَّ أَرْشِد الأئمة، واغفرْ للمؤذِّنين))[7]، فعليه أن يتحرَّى إتمامَ الصلاة، وإتقانَ أفعالها، وعدم إنقاص شيء منها؛ فعن عقبة بن عامر الجُهني - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن أَمَّ قومًا؛ فإنْ أتمَّ، فلَه التمامُ ولهم التمام، وإن لم يتمَّ، فلهم التمامُ وعليه الإثم))[8]، وفي رواية أخرى: ((مَن أمَّ الناس فأصابَ الوقتَ وأتمَّ الصلاةَ، فله ولهم، ومَن انتقصَ من ذلك شيئًا، فعليه ولا عليهم))[9]، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يُصلُّون لكم؛ فإن أصابوا، فلكم ولهم، وإنْ أخطؤوا، فلكم وعليهم))[10]، وجاء أيضًا أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثةٌ على كُثْبان المِسْك: عبدٌ أدَّى حقَّ الله وحقَّ مواليه، ورَجلٌ أمَّ قومًا وهم به راضون، ورجلٌ يُنادِي بالصلوات الخمس في كلِّ يوم وليلة))[11].
والإمام يجبُ أن يكونَ مرضيًّا عنه أمامَ جماعته، غيرَ مكروه عندَهم؛ لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثةٌ لا ترتفع صلاتُهم فوقَ رؤوسهم شبرًا: رجلٌ أَمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأةٌ باتتْ وزوجُها عليها ساخِط، وأَخوانِ متصارمان))[12].
والإمام مرشِد، وهو القدوةُ للمأمومين في الصلاة؛ فلا ينبغي له أن يُطيلَها كثيرًا كي لا يفتن الناس، ولا يجعلها كنَقْرِ الدِّيَكَةِ، وخَطْف الثعالب، بل يجب عليه أن يطمئنَّ ويعتدلَ في صلاته؛ فعن أبي مسعود البدريِّ قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تُجزئ صلاةُ الرجل حتى يقيم ظهرَه في الرُّكوع والسُّجود))[13].
وعن أبي قتادةَ قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أسوأُ الناسِ سرقةً الذي يَسرِق من صلاته))، قالوا: يا رسولَ الله، كيف يسرق مِن الصلاة؟ قال: ((لا يُتمُّ ركوعَها ولا سجودَها، أو لا يُقيمُ صلبَه في الركوع والسجود))[14].
والواجبُ أن يكونَ الإمام مؤهلاً عِلميًّا، سليمَ العقيدة، حتى لا يُضلِّلَ الناس في عقائدهم، عالِمًا بالفروع؛ كي يُصحِّحَ العبادات، ويُجيبَ على أسئلة المأمومين، وأن يكونَ نبيهًا صالِحًا، تقيًّا ورعًا زاهدًا، غير مجاهر بمعصية، يُطبِّق ما يقول؛ لأنَّ ذلك أدعى إلى قبول الموعظة منه.
تنبيهات:
1- يَنبغي للإمام إذا سلَّم من صلاته ألاَّ ينصرفَ عن القبلة إلى المأمومين حتى يستغفرَ الله ثلاثًا، ويقول: ((اللهمَّ أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام))؛ لحديث عائشة، رواه مسلم.
2- إذا صلَّى النِّساء مع الرِّجال في المسجد، مَكَث الرِّجالُ قليلاً حتى ينصرفَ النساء؛ لحديث أُم سلمة، رواه البخاري.
3- ينبغي للإمام ألاَّ يُطيلَ الجلوس في مصلاَّه لحديث أُمِّ سلمةَ المتقدِّم ذِكرُه: أنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - "كان يَمكُث في مكانه يسيرًا قبلَ أن يقوم"؛ رواه البخاري.
1- مسؤولية الإمام:
الإمام مسؤولٌ وضامن، وعليه أن يتحرَّى إتمامَ الصلاة، وعدم إنقاص شيء منها، والإتيان بها على وجهِها؛ فعن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((مَن أمَّ قومًا؛ فإن أتمَّ، فله التمام، ولهم التمام، وإن لم يتمَّ، فلهم التمام، وعليه الإثم))[15].
وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة: أنَّ رسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يُصلُّون لكم؛ فإن أصابوا، فلكم ولهم، وإن أخطؤوا فلكم وعليهم)).
وقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثةٌ على كُثْبان المسك: عبد أدَّى حقَّ الله وحقَّ مواليه، ورجلٌ أمَّ قومًا وهم به راضون، ورجلٌ يُنادِي بالصلوات الخمس في كلِّ يومٍ وليلة))[16].
فالإمام يجب أن يكون مرضيًّا عنه غير مكروه[17]؛ فعن ابن عباس عن النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ثلاثةٌ لا تُرفع صلاتُهم فوقَ رؤوسهم شبرًا: رجلٌ أمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأةٌ باتتْ وزوجُها عليها ساخِط، وأخوانِ متصارمان))[18].
والإمام مرشِد، وراعٍ مسؤول عن رعيته، فهو الذي يتحرَّى الصلاةَ في الوقت، وهو الذي يتحرَّى القِبلةَ واتجاهَها، وهو الذي يُسوِّي الصفوفَ عمليًّا ويرصُّها، وهو الذي يعهد إلى أولى الأحلام والنُّهى أن يلوه في الصفِّ؛ ليحلُّوا محلَّه إذا أصابه عذر، أو يفتحوا عليه إذا الْتبستْ عليه القراءةُ، أو ينبهوه بالتسبيح إذا أخطأ.
وهو الذي يأمرُ بسدِّ الخلل في الصفوف وبتقارُبِها، وهو الذي يأمر بتأخُّر النِّساء، وتَقدُّم الرجال في الصفوف؛ ففي "صحيح مسلم": ((خيرُ صفوف الرِّجالِ أوَّلُها وشرُّها آخِرُها، وخيرُ صفوف النِّساء آخرُها وشرُّها أوَّلها)).
وهو الذي يَرقُب حركاتِ المصلِّين والمتوضئين ويُصحِّحها.
والإمامُ هو القدوةُ في الصلاة، فلا يُطيلها كثيرًا؛ كي لا يفتن الناس، ولا يجعلها كنَقر الدِّيك[19]، بل يطمئنُّ ويعتدل، ويُسمِع صوتَه في الصلاة الجهريَّة، ويُرتِّل القرآن ترتيلاً حسنًا، ويقف على رؤوس الآي، فلا يصلها بما بعدَها، ويُحسِّن صوتَه بالقرآن[20]، ولا يتقعَّر، ولا يجعله غناءً، أو نواحًا، ولا يتخصَّر[21] ولا يلتفت[22] في صلاته، ولا يَقِف أعلى من المأمومين[23]، ويَنتظر إن أحسَّ داخلاً؛ ليدركَ فريضةَ الجماعة، ويمكث قليلاً بعدَ الصلاة كي ينصرفَ النِّساء.
فالإمام الحق: هو الذي يَقتدي برسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويفعل كما يفعل - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين كان يَؤمُّ الناس، فلقد روى ابن خزيمة في "صحيحه" عن البراء بن عازب، قال: كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأتي الصفَّ من ناحية إلى ناحية، فيَمسحُ مناكِبَنا أو صدورنا، ويقول: ((لا تختلفوا، فتختلفَ قلوبُكم))، وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ الله وملائكته يُصلُّون على الذين يَصِلُون الصفوفَ الأُولى))؛ رواه أبو داود.
وروى البخاري في "صحيحه" عن أنس قال: أُقيمت الصلاةُ، فأقبل علينا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بوجهِه، فقال: ((أقيموا صفوفَكم وتراصُّوا، فإنِّي أراكم مِن وراء ظهري))، وفي رواية البخاري: ((فكان أحدُنا يُلزِق مَنكِبَه بمنكبِ صاحبه، وقدَمه بقدمِه))، وفي روايةٍ عند أبي داود عن النعمان بن بشير: "فرأيتُ الرجل يُلزِق منكبَه بمنكب صاحبِه، ورُكبتَه بركبةِ صاحبه، وكعبَه بكعبه)) وسنده صحيح.
ويُشترطُ في الإمام - لا سيَّما إذا كان هو الخطيبَ أيضًا - أن يكون عالِمًا بالعقائد الصحيحة، حتى لا يزيغ، ويُضلِّل الناس، وعالِمًا بالفروع؛ كي يصحِّحَ العباداتِ، ويجيبَ عن أسئلةِ المأمومين، وعالِمًا باللُّغة العربية؛ كي يؤلِّف الكلامَ البليغ، والموعظة الحسنة، وأن يكون نبيهًا، فطنًا، وجيهًا تهابُه القلوب، وتُجلُّه العيون، صالِحًا تقيًّا، مهذَّبًا ورعًا، قنوعًا زاهدًا، غير مجاهر بمعصية، يفعلُ ما يقول، فذلك أدْعى إلى قَبولِ الموعظة منه والإرشاد[24].
ومما ينبغي للإمام:
إحياءُ دروس العِلم في المساجد؛ لأنَّ طلب العلم وتعليمَه فريضةٌ على كلِّ مسلم، لا سيَّما إذا كان ممَّن له ولايةٌ على أبناء المجتمع، كإمام المسجد إذا كان ممَّن آتاه الله - تعالى - حظًّا وافرًا من العِلم، فيجب عليه إذًا ألاَّ يبخلَ بعلمِه، وأن يُنيرَ الدَّرْب، ويضيءَ الطريق للراغبين في الخير والإصلاح، وأول ما يجب تعلُّمُه وتعليمه كتابُ الله، وسُنَّة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال الله - تعالى -: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].
وقد حثَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على تعلُّمِ القرآن وتعليمه، قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خَيرُكم من تعلَّم القرآنَ وعلَّمه))[25].
وقد وَعَى الصحابةُ ومَن جاء بعدهم من السلف الصالح هذه الأوامرَ، فكانوا يجعلون من بيوت الله مكانًا ومنطلقًا لتعليم الناس، وتبصيرهم بأمور دِينهم، ومن ذلك الحين والمسجدُ يُعتبرُ منارةَ الهدى، ومكانَ الإصلاح.
فجديرٌ بِمَن وَلِي هذه الولايةَ، وآتاه الله عِلمًا أن يقومَ بما أُنِيط به خيرَ قيام، وأن يشكر ربَّه على ما أنعمَ به عليه مِن نِعمة العِلم، وأن يُزكِّي هذه النعمةَ ببذْلها لِمَن يحتاجون إليها، وورد في الحديث: ((فضْلُ العالِم على العابد كفضلي على أدناكم، إنَّ الله وملائكتَه، وأهلَ السموات والأَرَضين، حتى النملة في جُحرِها، وحتى الحوت - لَيُصلُّون على مُعلِّم الناسِ الخيرَ))[26]، فعلى أئمَّة المساجد - وخصوصًا الجوامع - أن يَعُوا هذا الأمرَ، ويُعطوه حقَّه من العِناية والاهتمام.
وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون مع مراكز الهيئة:
وهناك أمرٌ مهمٌّ يجب التنبُّهُ له، والحرص عليه، ودعوةُ الناسِ إليه، وهو الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكر، فيجبُ على إمام المسجدِ أن يقومَ بهذا الأمر، وأن يتعاهدَ سُكَّان الحي بالنُّصْح والتوجيه والإرشاد، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبٌ على كلِّ مسلِم، فيكونانِ متعيِّنَيْن على مَن يَعنِيه الأمرُ أكثرَ من غيره، كالإمام والمؤذِّن مثلاً، وفي المسجد آكدُ من غيره؛ لأنَّه مكانُ التعاون على البرِّ والتقوى، ومكان التناصُح، وهو مكانُ اجتماع المسلمين، وقد كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأُمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويتعاهَدُ أُمَّته بالنُّصْح والتوجيه؛ فقد روى مسلم عن أبي قتادة، قال: دَخلتُ المسجدَ ورسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جالسٌ بينَ ظهراني النَّاس، قال: فجلستُ، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما مَنَعَكَ أنْ تَرْكعَ رَكْعتَيْن قَبْلَ أنْ تَجْلِس؟))، قال: فقلتُ: يا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: رَأيْتُك جالسًا والنَّاسُ جلوس، قال: ((فإذا دَخَلَ أحدُكم المسجدَ، فلا يَجْلِسْ حتَّى يَرْكعَ رَكْعَتَين))[27].
وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى جانبِ أمره بالمعروف، ينهى عن المنكر حيثُ يراه، فمِن ذلك إنكارُه على المسيء صلاتَه، وقال له عدَّةَ مرَّات: ((ارجِعْ فَصَلِّ فَإنَّكَ لَمْ تُصَلِّ))، حتى قال له هذا الرجل: والَّذي بَعَثكَ بالحقِّ ما أُحْسِنُ غَيْرَ هَذا فَعَلِّمْنِي، فعلَّمه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كيفيةَ الصلاةِ بقيامِها، وركوعِها، وسجودِها، وقعودِها[28]، ولَمَّا رأى - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً وقد توضَّأ، وتَرَك على قدمِه مثل موْضع الظُّفر، قال له رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ارْجِعْ فَأحسِنْ وُضُوءَك))[29].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يُحَدُّ بِحَدٍّ، بل إنَّه من الواجب على إمام المسجد أن يُوسِّعَ دائرةَ هذه الوظيفِة، وألاَّ يحصرَها في المسجد، بل يتعاهد سُكَّان الحي بالنُّصْح والتوجيه والإرشاد والمتابعة الجادَّة، وأن يقومَ بالتنسيق والتعاون مع الجِهات المعنيَّة، كمراكز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراكز الدَّعوة، ومع عُمدةِ الحيِّ ونحوهم؛ لأنَّ المسلِمَ مأْمورٌ بالتعاون مع إخوانه المسلمين على البرِّ والتَّقوى، والتواصي بالحقِّ والصبر عليه؛ كما قال - تعالى -: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَان﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾ [سورة العصر].
كما أنَّ المسلِمَ واحدٌ بنفسه، كثيرٌ بإخوانه، فإذا وُجِدَ التعاونُ والتناصحُ والتكاتفُ مع الجهاتِ المعنيَّةِ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّه يزول من الشُّرور، ومن هذا المنطلق تحيا وظيفةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نفوسِ الناس، ويَكْثر الخيرُ، ويقلُّ الشرُّ، وتحصل الخيرية لهذه الأُمَّة بعدَ قيامها بهذه الوظيفة، ويحصل المرادُ من قوله - تبارك وتعالى -: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110].
فالواجب على أئمَّةِ ومؤذِّني المساجد أن يتعاونوا بأنفسِهم مع مراكز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يَحثُّوا الناس على ذلك، وأن يبذلوا قصارَى جهدهم في هذا السبيل؛ لأنَّ الأجر والثواب لا يحصل إلاَّ بعد جهْد ومشقَّة، وصبر ومصابرة؛ كما قال - تعالى -: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 200].
فإذا تعاوَنَ الأفرادُ مع مراكز الهيئة، سَهُل القضاءُ على كثير من المنكرات، وزال الكثيرُ من المشاكل، وأصبح لهذه المراكز وقْعٌ في النفوس، ومن التصوُّرات الخاطئة لَدَى كثير من الناس، وخصوصًا بعض أئمَّة المساجد، والتي يجب تلافيها: تصوُّرهم أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقصورٌ على مراكز الهيئة، وأنَّه بوجودِ هذه المراكزِ ترتفعُ اللائِمةُ عنهم، وكذا تزولُ عنهم مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا لا شكَّ أنَّه تصوُّرٌ خاطئٌ، ومجانبٌ للصواب؛ لأنَّ كلَّ مسلمٍ يُعْتبَر مسؤولاً عن ثَغْر من ثُغُور الإسلام.
كما أنَّ لفظَ العمومِ الواردَ في الحديث الصحيح عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من قوله: ((مَن رَأى مِنْكُم مُنكَرًا فَلْيُغيِّرْه بِيَدِه، فإنْ لمْ يَستطعْ فبِلِسانِه، فإنْ لم يَسْتَطعْ فَبقَلْبِه، وذلكَ أضْعَفُ الإيمان))[30] يدلُّ على أن تغييرَ المنكر مسؤوليةُ كلِّ مسلِم، فليس الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر مقصورًا على رِجالاتِ الهيئة فحسبُ، وإن كان عليهم مسؤوليةٌ أعظم من غيرِهم، لكن يدخل في هذا الحديثِ كلُّ مسلِم، لا سيَّما أئمَّة ومؤذِّني المساجد.
فلو تكاتَف الناسُ، وتعاونوا، وشدَّ بعضُهم أزْرَ بعض، لكثُر الخير، وقلَّ الشرُّ واضمَحَلَّتِ المنكرات، وزال كثيرٌ من أسبابها.
فليتقِ الله كلُّ مسلِم، وليعملْ بقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، ولْيَبْذُلْ مِن وقتِه، ومن جاهِه بالتعاون مع تلك المراكز، وكلُّ مشقَّةٍ تهونُ مع الصبر، واحتساب الأجر على الله.
والله الموفِّق للصواب، وصلَّى الله وسَلَّم على نبيِّنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
2- مسؤولية الإمام والمأموم:
فمن مسؤوليات الإمام:
أن يحرصَ على إكمال الصلاة، بحيثُ تكون مثلَ صلاة النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أصحابه - رضي الله عنهم - فإنَّها أتمُّ صلاة وأخفُّها؛ كما قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: ((ما صليتُ وراءَ إمام قطُّ أخفَّ صلاةً، ولا أتم صلاةً من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم))[31]، فالإمامُ لو صلَّى وحدَه، لكان له الخيارُ بين أن يَقتِصر ع
ساحة النقاش