كان الرجل مريضاً بمرض عضال لا يعرف له علاجاً. فكلما جلس فى مكان قال له ‏الناس: رائحتك كريهة، ألا تستحم؟ وتردد على الأطباء وفحص الأنف والجيوب ‏والحلق والأسنان واللثة والكبد والأمعاء، وكانت النتيجة لا مرض فى أي مكان ‏بالجسد ولا سبباً عضوياً مفهوماً لهذه الرائحة. وكان يتردد على الحمام عدة مرات ‏فى اليوم ويغتسل بأغلى العطور فلا تجدي هذه الوسائل شيئاً. ولا يكاد يخرج إلى ‏الناس حتى يتحول إلى قبر منتن يهرب منه الصديق قبل العدو.‏
وذهب يبكى لرجل صالح، وحكى له حكايته، فقال الرجل الصالح: هذه ليست رائحة ‏جسدك، ولكن رائحة أعمالك. ‏
فقال الرجل مندهشاً: وهل للأعمال رائحة؟ ‏
فقال الرجل الصالح: تلك بعض الأسرار التى يكشف عنها الله الحجاب. ويبدو أن الله ‏أحبك وأراد لك الخير وأحب أن يمهد لك الطريق إلى التوبة. ‏
فقال الرجل معترفاً: أنا بالحق أعيش على السرقة والاختلاس والربا وأزنى وأسكر ‏وأقارف المنكرات. ‏
قال الرجل الصالح: وقد رأيت، فهذه رائحة أعمالك. ‏
قال الرجل: وما الحل؟ ‏
قال الرجل الصالح: الحل أصبح واضحاً، أن تصلح أعمالك وتتوب إلى الله توبة ‏نصوحاً. ‏
وتاب الرجل توبة نصوحاً وأقلع عن جميع المنكرات، ولكن رائحته ظلت كما هي. ‏فعاد يبكى إلى الرجل الصالح، فقال له الرجل الصالح: لقد أصلحت أعمالك ‏الحاضرة، أما أعمالك الماضية فقد نفذ فيها السهم، ولا خلاص منها إلا بمغفرة. ‏
قال الرجل: وكيف السبيل إلى مغفرة؟ ‏
قال الرجل الصالح: إن الحسنات يذهبن السيئات، فتصدق بمالك. والحج المبرور ‏يخرج منه صاحبه مغفور الذنوب كيوم ولدته أمه، فاقصد الحج، واسجد لله، وابك ‏على نفسك بعدد أيام عمرك. ‏
تصدق الرجل بماله، وخرج إلى الحج، وسجد فى كل ركن بالكعبة، وبكى بعدد أيام ‏عمره. ولكنه ظل على حاله تعافه الكلاب وتهرب منه الخنازير إلى حظائرها. فأوى ‏إلى مقبرة قديمة وسكنها وصمم ألا يبرحها حتى يجعل الله له فرجاً من كربه، وما ‏كاد يغمض عينيه لينام حتى رأى فى الحلم الجثث التى كانت فى المقبرة تجمع ‏أكفانها وترحل هاربة. وفتح عينيه فرأى جميع الجثث قد رحلت بالفعل وجميع ‏اللحود فارغة، فخر ساجداً يبكى حتى طلع الفجر. فمر به الرجل الصالح وقال له: ‏هذا بكاء لا ينفع، فإن قلبك يمتلئ بالاعتراض، وأنت لا تبكى اتهاماً لنفسك بل تتهم ‏العدالة الإلهية فى حقك. ‏
قال الرجل: لا أفهم. ‏
قال الرجل الصالح: هل ترى أن الله كان عادلاً فى حقك؟ ‏
قال الرجل: لا أدري. ‏
قال الرجل الصالح: بالضبط، إن عدل الله أصبح محل شبهة عندك. وبهذا قلبت ‏الأمور، فجعلت الله مذنباً وتصورت نفسك بريئاً. وبهذا كنت طول الوقت تضيف ‏إلى ذنوبك ذنوباً جديدة فى الوقت الذى ظننت فيه أنك تحسن العمل. ‏
قال الرجل: ولكنى أشعر أنى مظلوم. ‏
قال الرجل الصالح: لو اطلعت على الغيب لوجدت نفسك تستحق عذاباً أكبر، ‏ولعرفت أن الله الذى ابتلاك لطف بك، ولكنك اعترضت على ما تجهل واتهمت ربك ‏بالظلم. فاستغفر وحاول أن تطهر قلبك وأسلم وجهك، فإنك إلى الآن ورغم حجك ‏وصومك وصلاتك وتوبتك لم تسلم بعد. ‏
قال الرجل: كيف، ألست مسلماً؟ ‏
قال الرجل الصالح: نعم، لست مسلماً، فالإسلام هو إسلام الوجه قبل كل شئ. وذلك ‏لا يكون إلا بالقبول وعدم الاعتراض والاسترسال مع الله فى مقاديره، وبأن يستوي ‏عندك المنع والعطاء، وأن ترى حكمة الله ورحمته فى منعه كما تراه فى عطائه، فلا ‏تغتر بنعمة ولا تعترض على حرمان فعدل الله لا يتخلف، وهو عادل دائماً فى جميع ‏الأحوال ورحمته سابغة فى كل ما يجريه من مقادير، فقل لا إله إلا الله ثم استقم، ‏وذلك هو الإسلام. ‏
قال الرجل: إنى أقول لا إله إلا الله كل لحظة. ‏
قال الرجل الصالح: تقولها بلسانك ولا تقولها بقلبك ولا تقولها بموقفك وعملك. ‏
قال الرجل: كيف؟ ‏
قال الرجل الصالح: إنك تناقش الله الحساب كل يوم وكأنك إله مثله، تقول له ‏استغفرت فلم تغفر لي، سجدت فلم ترحمني، بكيت فلم تشفق عليّ، صليت وصمت ‏وحججت إليك فما سامحتنى، أين عدلك؟ ‏
وربت الرجل الصالح على كتفيه قائلاً: يا أخي ليس هذا توحيداً. التوحيد أن تكون ‏إرادة الله هى عين ما تهوى، وفعله عين ما تحب، وكأن يدك أصبحت يده ولسانك ‏لسانه. التوحيد هو أن تقول نعم، وتصدع بالأمر مثل ملائكة العزائم دون أن تسأل ‏لماذا، لأنه لا إله إلا الله، لا عادل ولا رحمن ولا رحيم ولا حق سواه. هو الوجود ‏وأنت العدم، فكيف يناقش العدم الوجود؟! إنما يتلقى العدم المدد من الوجود ساجداً ‏حامداً شاكراً لأنه لا وجود غيره. هو الإيجاب وما عداه سلب، هو الحق وما عداه ‏باطل. ‏
فبكى الرجل وقد أدرك أنه ما عاش قط وما عبد ربه قط. ‏
قال الرجل الصالح: الآن عرفت فالزم، وقل لا إله إلا الله، ثم استقم. قلها مرة واحدة ‏من داخلك. ‏
فقال الرجل: لا إله إلا الله، فتضوع الياسمين وانتشر العطر وملأ العبير الأجواء ‏وكأن روضة من الجنة تنزّلت على الأرض وتلفت الناس، وقالوا: من هناك؟ من ‏ذلك الملاك الذى تلفّه سحابة عطر؟ ‏
قال الرجل الصالح: بل هو رجل عرف ربه
.

 

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 1592 مشاهدة
نشرت فى 6 فبراير 2008 بواسطة areda

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

4,177,871