الفصل الأول

وقفات و فوائد و آداب

أولاً: استقبال شهر رمضان:

كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يهنئ أصحابه بقدوم شهر رمضان، كما في الحديث الذي رواه سلمان رضي الله عنه أنه صلى الله عليه و سلم خطب في آخر يوم من شعبان، فقال: "قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر جعل الله صيامه فريضة، و قيام ليله تطوعاً، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، و من أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، و هو شهر الصبر، و الصبر ثوابه الجنة، و شهر المواساة، و شهر يزاد فيه في رزق المؤمن، من فطّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه، و عتقاً لرقبته من النار، و كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم شيء" قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، قال: "يعطي الله هذا الأجر لمن فطر صائماً على مذقة لبن، أو شربة ماء، أو تمرة، و من أشبع فيه صائماً، أو من سقى فيه صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، و خصلتين لا غنى بكم عنهما. أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، و الاستغفار، و أما اللتان لا غنى  بكم عنهما: فتسألونه الجنة، و تستعيذون به من النار"(أخرجه ابن خزيمة في صحيحه برقم 1887).

و روي أيضاً أنه عليه الصلاة و السلام كان يفرح بقدوم رمضان، فكان إذا دخل رجب يقول: "اللهم بارك لنا في رجب و شعبان، و بلَّغنا رمضان"

و هكذا كان السلف -رحمهم الله- يفرحون به، و يدعون الله به، فكانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم، فتكون سنتهم كلها اهتماماً برمضان.

و في حديث مرفوع رواه ابن أبي الدنيا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "لو تعلم أمتي ما في رمضان لتمنت أن تكون السنة كلها رمضان".

و نشاهد الناس عامة، مطيعهم و عاصيهم، أفرادهم و جماعاتهم، يفرحون بحلول الشهر الكريم، و يظهرون جداً و نشاطاً عندما يأتي أول الشهر؛ فنجدهم يسارعون الخُطا إلى المساجد، و يكثرون من القراءة و من الأذكار، و كذلك نجدهم يتعبدون بالكثير من العبادات في أوقات متعددة، و لكن يظهر في كثير منهم السأم و التعب بعد مدة وجيزة! فيقصِّرون، أو يخلّون في كثير من الأعمال! نسأل الله العافية.

ثانياً: من فوائد الصيام:

إن الله سبحانه و تعالى ما شرع هذا الصيام لأجل مس الجوع و الظمأ، و ما شرع هذا الصيام لأجل أن نعذب أنفسنا، بل لابد من فوائد لهذا الصيام قد تظهر و قد تخفى على الكثير، و من هذه الفوائد:

1- حصول التقوى:

فإن الله لما أمر بالصيام قرنه بالتقوى، كما في قول الله تعالى: ((كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون))(البقرة:183)، فجعل التقوى مترتبة على الصيام.

و لكن متى تحصل التقوى للصائم؟

التقوى هي: توقِّي عذاب الله، و توقي سخطه، و أن يجعل العبد بينه و بين معصية الله حاجزاً، و وقاية، و ستراً منيعاً.

و لا شك أن الصيام من أسباب حصول التقوى، ذلك أن الإنسان ما دام ممسكاً في نهاره عن هذه المفطرات -التي هي الطعام و الشراب و النساء- فإنه متى دعته نفسه في نهاره إلى معصية من المعاصي رجع إلى نفسه فقال:

كيف أفعل معصية و أنا متلبس بطاعة الله؟!

بل كيف أترك المباحات و أفعل المحرمات؟!!

و لهذا ذكر العلماء أنه لا يتم الصيام بترك المباحات إلا بعد أن يتقرب العبد بترك المحرمات في كل زمان؛ و المحرمات مثل: المعاملات الربوية، و الغش، و الخداع، و كسب المال الحرام، و أخذ المال بغير حق، و نحو ذلك كالسرقة، و النهب، و هذه محرمة في كل وقت، و تزداد حرمتها مع أفضلية الزمان كشهر رمضان.

و من المحرمات كذلك: محرمات اللسان؛ كالغيبة، و النميمة، و السباب، و الشتم، و اللعن، و القذف، و ما إلى ذلك. فإن هذه كلها محرمات في كل حال، و لا يتم الصيام حقيقة، و يثاب عليه إلا مع تركها.

روى الإمام أحمد في مسنده(5/431) عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم: "أن امرأتين صامتا فكادتا أن تموتا من العطش، فذكرتا للنبي صلى الله عليه و سلم، فأعرض عنهما، ثم ذكرتا له، فأعرض عنهما، ثم دعاهما فأمرهما أن يتقيئا فتقيئتا ملء قدح قيحاً و دماً و صديداً و لحماً عبيطاً! فقال: "إن هاتين صامتا عما أحل الله، و أفطرتا على ما حرم الله عز و جل عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يأكلان لحوم الناس".

و لأجل ذلك ورد في الحديث الشريف قول النبي صلى الله عليه و سلم: "ليس الصيام من الطعام و الشراب، إنما الصيام من اللغو و الرفث"(أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 4/270). و قال صلى الله عليه و سلم: "رب صائم حظه من صيامه الجوع و العطش، و رب قائم حظه من قيامه السهر".

و يقول بعضهم شعراً:

إذا لم يكن في السمع مني تصــاون          و في بصري غض، و في منطـقي صمت

فحظي إذن من صومي الجوع والظمأ          و إن قلت: إني صمت يومي، فما صمت!

فلا بد أن يحفظ الصائم جوارحه.

روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "إذا صمت فليصم سمعك و بصرك و لسانك عن الغيبة و النميمة، و دع أذى الجار، و ليكن عليك سكينة و وقار،و لا تجعل يوم صومك و يوم فطرك سواء"(ذكره ابن رجب في لطائف المعارف و غيره).

فالذي يفعل الحرام و هو صائم لا شك أنه لم يتأثر بالصوم، فمن يصوم ثم يرتكب الآثام فليس من أهل التقوى، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه و سلم: "من لم يدع قول الزور و العمل به و الجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه".

2- حفظ الجوارح عن المعاصي:

و من حِكَمِ الصيام و فوائده أن الإنسان يحفظ وجدانه، و يحفظ جوارحه عن المعاصي، فلا يقربها، حتى يتم بذلك صيامه، و حتى يتعود بعد ذلك على البعد عن هذه المحرمات دائماً.

فالإنسان إذا دعته نفسه إلى أن يتكلم بالزور، أو بالفجور، أو يعمل منكراً: من سب، أو شتم، أو غير ذلك، تذكر أنه في عبادة، فقال: كيف أتقرب بهذه العبادة، و أضيف إليها معصية؟!

ليس من الإنصاف أن يكون في وقت واحد و في حالة واحدة جامعاً بين الأمرين: الطاعة و المعصية! إن معصيته قد تفسد طاعته، و تمحو ثوابها. فالإنسان مأمور أن يكون محافظاً على الطاعة في كل أوقاته، و لكن في وقت الصيام أشد.

و كثير من الناس وقوا أنفسهم في شهر رمضان ثلاثين يوماً، أو تسعة عشرين يوماً عن المحرمات، فوقاهم الله بقية أعمارهم منها.

و كثير من الناس كانوا يشربون الخمر، أو الدخان، و ما أشبه ذلك، ثم قهروا أنفسهم في هذا الشهر، و غلبوها، و فطموها عن شهواتها، و حمتهم معرفتهم لعظم هذه العبادة ألا يجمعوا معها معصية، و استمروا على ذلك الحال، محافظين على أنفسهم، إلى أن انقضت أيام الشهر و كان ذلك سبباً لتوبتهم و إقلاعهم و استمرارهم على ذلك الترك لهذه المحرمات، فكان لهم في هذا الصيام فائدة عظيمة.

و هكذا أيضاً إذا حافظ العبد على قيامه، و استمر عليه، حمله ذلك على الإكثار من تلك العبادة فإذا تعبد الإنسان بترك المفطرات، و الصيام لله تعالى، دعاه إيمانه، و دعاه يقينه، و قلبه السليم إلى أن يتقرب بغيرهما من العبادات.

فتجده طوال نهاره يحاسب نفسه ماذا عملت؟ و ماذا تزودت؟

تجده طوال يومه محافظاً على وقته لئلا يضيع بلا فائدة؛ فإذا كان جالساً وحده انشغل بقراءة، أو بذكر، أو بدعاء، أو يتذكر آلاء الله و آياته.

و إذا كان في وقت صلاة، صلى ما كتب له من ليل أو نهار، و إن دخلت الصلاة أقبل عليها بقلبه و قالبه، و أخذ يتأمل و يتفكر ما يقول فيها؛ فيكون الصيام بذلك سبباً في كثرة الأعمال و القربات كما يكون سبباً للمنع من المحرمات.

3- حمية للبدن:

و من حكمة الله تعالى في هذا الصيام أيضاً أن فيه حمية للبدن عن الفضلات.

و لا شك أن الحمية من أقوى أنواع الأدوية والعلاجات، فالصيام يُكسب البدن المناعة و القوة، كما يكسبه أيضاً تدرُّباً على الصبر و احتمال الجوع والعطش، حتى إذا ما تعرض له بعد ذلك فإذا هو قد اعتاد عليه، فكان في ذلك منفعة عظيمة.

4- تذكر الفقراء و الذين يموتون جوعاً:

و من الحكم الجليلة التي شرع لها الصيام أن يشعر الإنسان بالجوع فترة الصيام فيتذكَّر أهل الجوع دائماً من المساكين و الفقراء، ليرأف بهم، و يرحمهم، و يتصدق عليهم.

فشُرع الصيام لأجل أن يتضرع الإنسان -إذا ما أحسَّ بالجوع- فيدعو ربه، كما ورد في الحديث: "إن النبي صلى الله عليه و سلم عرضت عليه جبال مكة ذهباً، فقال: لا يا رب بل أرضى بأن أجوع يوماً، و أشبع يوماً، فإذا جُعْتُ تضرعتُ إليك و ذكرتك، و إذا شبعت حمدتك و شكرتك"(أخرجه الترمذي برقم 2347 و قال حديث حسن). فذكر أن الجوع سببٌ للتضرع و الذكر. فالإنسان إذا أحس بالجوع تضرع إلى الله.

و من الحكم في الصيام أن الإنسان يقلل من الطعام حتى يحس بأثر الجوع، فيتضرع و يدعو الله، و يتواضع له، و يكون ذاكراً له، مقبلاً إليه، متواضعاً بين يديه.

و نلاحظ كثيراً من الناس أنهم لا يحسون بأثر هذا الجوع في هذه الأزمنة، و ذلك أنهم عند الإفطار يجمعون من المأكولات و المشتهيات ما يملؤون به بطونهم، و يستمرون في الأكل طوال ليلهم، متلذذين بأنواع المأكولات حتى إذا ما أتى النهار و قد مُلئت بطونهم مكثوا طوال نهارهم في راحة، أو في نوم أو ما أشبه ذلك إلى أن يأتي الليل فلا يحس أحدهم بأنه صائم، و لا يظهر عليه أثر الصوم.

و من المعلوم أن هذا الحال لم يكن من الصحابة و السلف الأولين، فإنهم كانوا يقللون من المأكل في إفطارهم و في سحورهم، و لا يأكلون إلا ما يقتاتون به و يقيم أصلابهم، كما أنهم كانوا طوال نهارهم منشغلين في أعمالهم الدينية و الدنيوية، و لذلك لا بد و أن يظهر عليهم أثر الجوع والتعب، و لكنهم يحتسبون ذلك عند الله. فينبغي للمسلم ألا يكون همه المأكل، و أن يعمل حتى يكون للصوم آثاره و فوائده.

5- تخفيف حدة الشهوة:

و قد جعل النبي صلى الله عليه و سلم الصوم للشباب وجَاءً أي: مخففاً من حدة الشهوة كما في قوله صلى الله عليه و سلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر و أحصن للفرج، و من لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له و جاء". (متفق عليه). ذلك أن الصوم يكسر حدة شهوة النكاح.

و كثير من الناس الآن يصومون، لكنهم لا يجدون لهذا الصيام أثراً لتخفيف حدة الشهوة، و ذلك أنهم لم يذوقوا ألم الجوع و العطش و التعب، بل ظلت نفوسهم متعبة بالشهوات، و أنّى لهم أن يتركوها و قد أضافوا إلى صومهم كل ما تعف النفس عن رؤيته من أفلام خليعة و مسلسلات ماجنة.

ثالثاً: خصوصية الصيام:

إن الصيام عبادة بدنية قوامُها ترك المفطرات المعروفة، و لما كان ترك هذه المفطرات سراً بين العبد و بين ربه، فإنه مما لا شك فيه أنه متى تم هذا العمل فيما بين الإنسان و بين الله كان ذلك أعظم لأجره، و أجزل لثوابه. و قد ذكر ذلك كثير من العلماء، فقالوا: إن الصيام سر بين العبد و بين الله. و قالوا: إن ملائكة الحفظة لا تكتبه، لأن الإنسان إذا صام لا يطّلع عليه إلا الله.

فإذا صمت فمن الذي يراك في كل حركاتك، و في كل أوقاتك؟!

إن من يغفل عن مراقبة الله له يمكنه أن يفعل ما يريد فيتناول طعامه و شرابه دون ما خوف من الله عز و جل. و لكن العبد المؤمن يعلم أن معه من يراقبه، و أن عليه رقيب عتيد؛ يعلم أن ربه يراه قال تعالى: ((الذي يراك حين تقوم * و تقلبك في الساجدين))(الشعراء:218-219).

فإذا كان العبد يؤمن بأن الله تعالى هو المطّلع عليه وحده، كان ذلك مما يحمله على أن يخلص في عمله، كما يحمله على الإخلاص في كل الحالات، و يبقى معه في كل شهور السنة.

فإذا راقبت الله تعالى، و حفظت صيامك، في سرّك و جهرك، في الأسواق و في البيوت، و لم تتناول ما يفسد صومك، و عرفت أن الله يراقبك فلماذا تعود إلى هذه المعاصي بعد رمضان، و قد حرّمها الله عليك؟!

إذا كان الله تعالى قد حرم علينا الكذب، و القذف، و سائر المحرمات من محرمات اللسان، و محرمات الفرج، و محرمات اليد، و ما سواها. فلماذا نقدم عليها في غير رمضان؟!

أليس الذي يراقبنا في رمضان هو الذي يراقبنا في سائر الأوقات؟

فيجب على المسلم أن يستحضر ربه دائماً، فإنه عليه رقيب يعلم ما تكنه نفسه، يقول تعالى: ((و لقد خلقنا الإنسان و نعلم ما توسوس به نفسه، و نحن أقرب إليه من حبل الوريد))(ق:16).

 

 الفصل الثاني

أحكام الصيام

إن أحكام الصيام بحمد الله واضحة جلية ذلك لأن الصيام يتردد على المسلم كل عام و يصوم الاتقياء -إضافة إلى هذا- في أثناء السنة تطوعاً طمعاً أن يثيبهم الله تعالى عليه، و لكن لا بد أن نذكر شيئاً يسيراً من أحكام الصيام.

أولاً: الصيام الواجب و صيام التطوع:

إن الصيام الواجب الذي هو فرض من فرائض الإسلام، و ركن من أركانه، هو شهر رمضان، و ما سواه فإنه تطوع: ((فمن تطوع خيراً فهو خير له))(البقرة:184).

و الدليل على وجوبه و فرضه قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون))(البقرة:183). أي: فرض عليكم. و قوله صلى الله عليه و سلم: "بني الإسلام على خمس:… و ذكر منها: و صوم رمضان".

و الصيام فريضة كان أو نافلة: هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس. و الذي يَلْزَمُهُ هذا الإمساك هو المكلف، أما غير المكلف كالمجنون أو الصغير الذي لم يبلغ سن التكليف فهذا لا صيام عليه، و كذلك الكافر الذي طلب منه شرطه و هو الإسلام.

فالصيام إذاً يجب على المسلم المكلف، يعني البالغ العاقل القادر؛ فالمسلم يخرج الكافر، و المكلف يخرج الصغير و المجنون، و القادر يخرج المريض و نحوه من المعذورين، و إن كان يجب عليه القضاء أو الفدية.

 ثانياً: مفطرات الصيام:

(أ) المفطرات الحسية:

إن المفطرات الحسية التي تنافي هذا الصيام معروفة و أهمها: الأكل، و الشرب، و النكاح، و لكن يعفى في الأكل و الشرب عن الناسي، فإذا فعل شيئاً منها ناسياً عُفي عنه لقول النبي صلى الله عليه و سلم كما في الصحيح: "إذا نسي فأكل و شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله و سقاه".

و نأتي على شيء من التفصيل في هذه المفطرات:

 1- الأكل و الشرب:

إذا أفطر بهما فليس عليه إلا القضاء إذا أفطر لعذر، أما إذا أفطر لغير عذر فقد وقع في ذنب كبير كما ورد عنه صلى الله عليه و سلم: "من أفطر يوماً في رمضان من غير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر، و إن صامه".

فالذي يفطر في شهر رمضان متعمداً دون أن يكون له عذر من مرض أو سفر، أو نحو ذلك، يعتبر قد تهاون بهذا الركن، و أقدم على ما يفسده فهو كمن يترك الصلاة عمداً.

و يذهب بعض العلماء إلى كفر من أفطر من غير عذر، و لا حاجة به إلى الإفطار، و إنما هو تهاون، و كذلك من ترك الصلاة بدون عذر فيذهب أيضاً بعض العلماء إلى أنه كافر لكونه تهاون بما فرضه الله دون أن يكون له عذر، و لكن مع ذلك عليه التوبة، و عليه الإنابة، و عدم العودة إلى هذا الفعل، و عليه إكمال شهره، و المحافظة عليه في بقية عمره.

2- النكاح:

إذا جامع الرجل أهله في نهار رمضان فإن عليه القضاء مع الكفارة التي هي كفارة الظهار، التي ذكرها الله تعالى في أول سورة المجادلة فقال تعالى: ((و الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به و الله بما تعملون خبير * فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً ذلك لتؤمنوا بالله و رسوله و تلك حدود الله و للكافرين عذاب أليم))(المجادلة:3-4). فكذلك كفارة المُواقع أهله في نهار رمضان.

و يقع هذا من كثير من الشباب الذين ينامون مع أزواجهم بعد صلاة الفجر فلا يملك أحدهم نفسه و خاصة إذا كان لا ينام مع أهله في الليل، فإذا نام في النهار لم يأمن أن تثور منه الشهوة. فلذلك يرشد الشاب المسلم أن ينام مع أهله في الليل، حتى يعطي نفسه شهوته المباحة، و يسلم من تناول هذه الشهوة المحرمة في النهار، و التي توقعه في كفارة كبيرة.

و هناك مفطرات أخرى غير الأكل و الشرب و الجماع، و من هذه المفطرات:

3- القيء:

ثبت أنه صلى الله عليه و سلم قال: "من استقاء عمداً فعليه القضاء، و من ذرعه القيء فلا قضاء عليه".

فمن تعمد إخراج القيء فإن عليه القضاء لكونه تعمد إخراج ما يفطر صومه، و من غلبه و خرج قهراً، فلا قضاء عليه، لكونه لم يتسبب في ذلك.

4- خروج الدم من جرح أو رعاف:

إذا خرج الدم عن غلبة فإنه لا قضاء عليه، و إذا تعمد إخراجه، فالقياس أنه يفطر كالقيء، و لكن إذا خرج بدون اختيار منه، أو كان بحاجة إلى ذلك كخلع ضرس و نحوه، فله أن يتحّفظ عن دخوله مع ريقه، أو ابتلاع شيء، فإن تحفظ فالصحيح أيضاً أنه لا يؤثر على صومه.

5- الحجامة:

ذهب الإمام أحمد إلى أن الحجامة تفطر، و استدل بحديث الرسول صلى الله عليه و سلم: "أفطر الحاجم و المحجوم". و هو حديث متواتر، رواه عدد من الصحابة كما في شرح الزركشي، و لو لم يكن منه شيء في الصحيحين، و لكن منه أحاديث ثابتة عن شداد و ثوبان و غيرهما لا طعن فيها على الصحيح.

و فطر الحاجم؛ في ذلك الوقت لأنه يمتص الدم و يكرر امتصاصه، فيختلط بريقه فلا يؤمن أن يبتلع منه شيئاً، و لكن في هذه الأزمنة وجدت محاجم ليس فيها امتصاص، إنما هي آلات يضغط عليها فتمسكه، و تمتص الدم، ففي هذه الحال قد يقال لا يفطر الحاجم إلا أن يكون لتسببه في إفطار غيره.

و أما المحجوم فإنه يفطر لخروج هذا الدم الكثير منه فيقاس على خروج دم الحائض.

6- نقل الدم بالإبرة:

لو أخذ الدم فيما يسمى بالتحليل، أو التبرع لمنحه للمريض، فإذا كان هذا الدم كثيراً فإنه يلحق بالحجامة، و أما الدم القليل بالإبرة، و ما يؤخذ للتحليل فالصحيح أنه لا يفطر لكونه ليس حجامة و لا يلحق بها.

7- الضرب بالإبرة:

و فيه تفصيل:

فإذا كانت الحقنة مغذية و مقوية فإنها تفطر، و ذلك لقيامها مقام الطعام، و الشراب. فالمغذي هو الذي يدخل مع العروق و يقوم مقام الطعام و الشراب، و على هذا فالإبر المغذية و المقوية التي تكسب البدن قوة تفطر؛ لأنها قامت مقام الأكل و نابت عنه.

أما الإبر الأخرى التي هي إبر يسيرة للتهدئة أو لتصفية الجسم، أو ما أشبه ذلك، فالأولى و الصحيح أنها لا بأس بها للحاجة، و لا تفطر الصائم.

(ب) المفطرات المعنوية:

و كما أن على الصائم أن يمسك عن المفطرات الحسية كالأكل و الشرب و غيره، فإن عليه أيضاً أن يمسك عن المفطرات المعنوية التي تنقص الصيام، كما ورد في الحديث الشريف: "ليس الصيام عن الطعام و الشراب إنما الصيام عن اللغو و الرفث"(سبق تخريجه).

فعلى الصائم أن يمسك عن الكلام السيئ الذي فيه مضرة على غيره و مشقة، حتى يحوز أجر الصيام كما تقدم.

 

ثالثاً: صيام أهل الأعذار:

إذا احتاج المرء إلى الأكل أو الشرب لمرض أو لسفر أو نحو ذلك، فإنه معذور فيأكل بقدر حاجته و يقضي كما أباح الله ذلك للمريض و للمسافر لقوله تعالى: ((فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر))(البقرة:184). و لمزيد من الفائدة فإننا نذكر بعض الأحكام الخاصة بصيام أهل الأعذار فمن ذلك:

1- صيام المسافر.

2- صيام المريض.

3- صيام الكبير.

4- صيام المرأة الحامل أو المرضع و الحائض و النفساء.

  

الفصل الثالث

قيام الليل

لا شك أن الصلاة من أفضل القربات، و أنها عبادة دينية لا تصلح إلا لله تعالى، و اختصت بأعمال من القربات، مثل: الركوع و السجود، و القيام و القعود، و الرفع و الخفض، و الدعاء و الابتهال، و الذكر لله، و القراءة، و غير ذلك مما اختصت به فكانت أشرف العبادات البدنية.

و لما كانت الصلاة كذلك فقد فرضها الله تعالى على عباده فريضة مستمرة طوال العام و العمر، و كررها في اليوم خمس مرات، لما لها من أكبر الأثر في حياة المسلم.

و لما كانت من أهم الأعمال و القربات لله تعالى، فقد شرع لعباده أيضاً أن يتقربوا بنوافلها. فمدح الذين يكثرون من الصلاة، و خصوصاً في الليل، فأمر نبيه صلى الله عليه و سلم بقوله: ((يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً * نصفه أو انقص منه قليلاً * أو زد عليه و رتل القرآن ترتيلاً))(المزمل:1-4).  و قال تعالى: ((و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً))(الإسراء:79).

فأمر نبيه أن يتهجد من الليل بهذا القرآن، و الأمر له شريعة لأمته، فإن أمته تبع له، فهو أسوتهم و قدوتهم.

قيام النبي صلى الله عليه و سلم:

لقد امتثل النبي صلى الله عليه و سلم أمر الله تعالى: ((يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلاً))(المزمل:1-2)، فكان يقوم نصف الليل، أو ثلثه، أو نحو ذلك طوال سنته، و كان يصلي من الليل ما شاء، و يطيل في الصلاة.

و قد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم كان يخص شهر رمضان بمزيد من الاهتمام، فقد قال صلى الله عليه و سلم: "من قام رمضان إيماناً و احتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". متفق عليه.

و قيام رمضان هو قيامه بالتهجد، بالصلاة ذات الخشوع، و ذات الدعاء في هذه الليالي الشريفة.

و قد حث عليه السلام أمته على هذه الصلاة، فكانوا يتقربون بها، تارة يصلونها وحدهم، و تارة يصلونها معه صلى الله عليه و سلم، فتوفي و هم يصلون أوزاعاً. يصلي في المسجد جماعة، أو ثلاث جماعات، أو أربع، و قد صلّى بهم صلى الله عليه و سلم في حياته ثلاث ليال متوالية جماعة، يصلي بهم نصف الليل أو ثلثه، أو نحو ذلك.

لكنه و بعد أن رأى حرص الصحابة على قيام الليل معه و مداومتهم على ذلك و ازدحام المسجد بهم خشي أن يُفرض عليهم ذلك القيام و الاجتماع، فيعجزون فلا يحافظون و يستمرون عليه، فأمرهم أن يصلوا فرادى في أماكنهم.

ثم إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمعهم على هذه الصلاة التي تسمى صلاة التراويح، فجمعهم عليها لما أمن أنها لن تفرض عليهم؛ لأنه قد انقطع الوحي بوفاة النبي صلى الله عليه و سلم .

فأجمع المسلمون أهل السنة على هذا التهجد خلافاً للرافضة، و بقي كذلك إلى هذا الزمان يصلون في مساجدهم جماعة عشرين ركعة، أو ثلاث عشرة، أو ستاً و ثلاثين، أو إحدى و أربعين، على حسب اجتهادات العلماء.

فرأى بعضهم أن يصلي إحدى و أربعين ركعة كما أثر ذلك عن مالك و غيره من الأئمة.

و رأى آخرون أن يصلي سبعاً و ثلاثين في صلاة الوتر، أو تسعاً و ثلاثين، و قالوا: إن هذا يخفف على الناس، و يكون فيه قطع لليالي في الصلاة.

و رأى آخرون أن يصلي ثلاثاً و عشرين، و اختار ذلك أكثر العلماء كما حكاه الترمذي عن أكثر الأئمة.

و رأى آخرون أن يصلوا إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة.

و الكل جائز، و لكن لابد أن تكون الصلاة باطمئنان و خشوع و خضوع و حضور قلب، حتى تحصل الحكمة و الفائدة التي لأجلها شرعت الصلاة.

و قد أجاز العلماء الزيادة على إحدى عشرة ركعة، و اعتبروا ذلك بالزمان، فقالوا: إن من صلى تسعاً و ثلاثين ركعة في ساعتين كمن صلى إحدى عشرة في ساعتين، فيكون الأجر على قدر الزمان، لا على قدر العدد، أو كثرة الركعات.

قيام السلف رضي الله عنهم:

كانت سُنة السلف رحمهم الله أنهم يصلون هذه الصلاة في نصف الليل، أو في ثلثه؛ أي ثلاث ساعات، كلها في تهجد، فإذا كان الليل طويلاً صلوا أربع ساعات أو أكثر، و إن كان قصيراً صلوا نحو ثلاث ساعات كلها في التراويح. هكذا كانت صلاتهم، فإما أن يقللوا عدد الركعات و يطيلوا القيام و الركوع و السجود، و إما أن يزيدوا في عدد الركعات و يخففوا الأركان، و يقللوا القراءة، حتى تكون بمقدار هذه الساعات الثلاث أو الأربع أو نحوها. و قد روى مالك و غيره أنهم أحياناً يحيون الليل فلا ينصرفون إلا قرب الفجر بحيث يستحثون الخدم بإحضار السحور.

و لكن في هذه الأزمنة، نشاهد أن الناس قد استولى عليهم الكسل و شغلتهم أمور دنياهم، فصاروا ينظرون لمن يصلي ربع هذه الصلاة أو ثلثها، فيعدونه مكثراً، بل يعدون القراءة المتوسطة، طويلة! و إذا قرأ إمامهم عليهم سورة فأطالها، يقول قائلهم: أطلتَ فخفِّف!!

و لا شك أن الذين يملُّون من هذه الصلاة هم الكسالى الذين لا يرغبون في هذه العبادة، ذلك أن من فضل هذه الصلاة أن يجعلها المؤمن سرور قلبه، و راحة بدنه، و ينبغي أن يجعلها المؤمن قرة عينه كما كانت قرة عين النبي صلى الله عليه و سلم.، و ينبغي للمسلم أن يجعل جنس الصلاة راحة بدنه، و شفاءه و دواءه، و أن يستعين بها على حاجاته، أليس الله تعالى يقول: ((و استعينوا بالصبر و الصلاة))(البقرة:45)؟!

و روي أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. فإذا دخل في الصلاة نسي همومه و غمومه، و خلي بربه، و سُرّ قلبه بأنسه بالله تعالى.

فهذه هي الحكمة من إطالة الصلاة و من الركون إليها. فالذين يستثقلون هذه الصلاة إذا صلى أحدهم في ساعة، أو نحوها أو أقل من ذلك عَدُّوا ذلك إطالة و تنفيراً هم الكسالى مع أن هذا نقص للصلاة و عدم طمأنينة، و إخراج لها عن ماهيتها؛ فإنا مأمورون في الصلاة أن نقرأ و نرتل، و مأمورون أن لا ننقص في رمضان عن ختم القرآن مرة أو مرتين.

و لقد كان السلف رحمهم الله يقرؤون، و يزيدون في القراءة؛ فكانوا يقرؤون سورة البقرة في ثماني ركعات -و هي جزآن و نصف الجزء تقريباً- و نحن نرى أن بعض أهل زماننا يصلي سورة البقرة في ثمانين ركعة!!

فأين الفرق بين أولئك، و هؤلاء؟!!

FONT-SIZE: 13.5pt; FONT-FAM

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 1342 مشاهدة
نشرت فى 19 سبتمبر 2007 بواسطة areda

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

4,178,009