بقلم: شبل عسكر

إن الحمد لله تعالى أحمده وأستعين به وأستهديه وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه من خلقه وحبيبه بلغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح لهذه الأمة حتى كشف الله به الغمة وجاهد في الله حق جهاده حتى تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصل اللهم وسلم عليه تسليمًا كثيرًا عدد ما أحاط به علمك وخط به قلمك وأحصاه كتابك، وارض اللهم عن سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

في العام العاشر من الهجرة حج النبي- صلى الله عليه وسلم- حجته الأولى والأخيرة، وكان اختيار الوقت مناسبًا مع ما صل إليه الإسلام من امتدادٍ واسعٍ في الآفاق والأنفس؛ حيث أراد النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يعلن عن الأسس العامة والمبادئ الكلية للإسلام في تجمع ضخم يرى النبي- صلى الله عليه وسلم- ويسمع منه ويبلغه إذا رجع إلى أهله؛ ولذا جاء في الخطبة ما يحفز الهمم ويقوي الرغبة في التبليغ والإعلان "أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه..." وقوله: "فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع....".

وقد استخدم النبي- صلى الله عليه وسلم- وسائل ثلاثة لتعميق المعاني في النفوس وتأكيدها في العقول وضمان وصولها إلى الناس كافةً من غير نقصان، وهي:

1- استخدام النداء العام:

 مثل: "يا أيها الناس" ولم يستعمل الألفاظ الخاصة "أيها المؤمنون، أيها المسلمون. أيها الحجاج.." ليؤكد: أن الإسلام رسالة عامة وأنه هداية للناس كل يجتاز الزمان والمكان ويخترق الحدود والأسوار يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَةً للنَّاسِ بَشَيرًا وَنَذِيرَا وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسَ لاَ يَعْلَمُونَ) (سبأ: الآية 28)، ويقول أيضًا: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء 107).

2 - تكرار الخطبة في أوقات متقاربة وتضمينها نفس المعاني السابقة:

 فقد خطب النبي- صلى الله عليه وسلم- في عرفه وفي منى مرتين من أجل أن يستوعب الحجاج مرامي الكلام ويحفظوا معانيه.

3 - استخدام أساليب التنبيه والإثارة ولفت الأنظار:

مثل الاستفهام الوارد في كلامه- صلى الله عليه وسلم- "أي شهر هذا؟! أي بلد هذا؟!" رغم أنهم يعرفون اليوم والشهر والبلد وترديد هذه الجموع كلمة نعم بعد قوله -صلى الله عليه وسلم- ألا هل بلغت؟ وكانت هذه الخطبة بمثابة وضع اللمسات الأخيرة على بناء الإسلام الشامخ وإيذانا بتمامه وبلوغه درجة الكمال وما يقوي هذا الفهم أن تنزل على النبي- صلى الله عليه وسلم- هذه الآية الكريمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا) (المائدة: من الآية 3) بعد خطبته الجامعة يوم عرفة.

من مبادئ الإسلام العامة: 

 لقد ركَّز النبي- صلى الله عليه وسلم- في خطبته الجامعة على معاني جديرة بالاهتمام والدراسة والبحث والتعمق لتبقى نبراسًا للأمة تهتدي بها عبر مسيرتها الطويلة في الحياة، ومن هذه المعاني:

1 - احترام الكيان الإنساني وحرمة الاعتداء عليه:-

 

 فمن الحقوق التي صانها الإسلام ورعاها:

 الحق في الحياة، وهذا أول ما لفت النبي- صلى الله عليه وسلم- الأفكار إليه: "يا أيها الناس: إن دماءكم عليكم حرام"، ولقد حذَّر القرآن في كثيرٍ من آياته البينات من التجرؤ على إزهاق الأرواح بغير حق والتساهل في الاعتداء عليها يقول تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) (الإسراء: من الآية 33) والسبب في تحريم قتل النفس أنه: إفساد في الأرض وإشاعة للفوضى في المجتمع وقد قال الله تعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف: من الآية 56).

 

كما أنه إلحاق الضرر بالآخرين وقد قال- صلى الله عليه وسلم-: "لا ضرر ولا ضرار" (رواه ابن ماجة والدار قطني).

كما أنه سبب لتملك القوي للضعيف وإحداث اضطراب في المجتمع وانتزاع الأمن وإشاعة روح الثأر والانتقام، وقد اعتبر القرآن أن الاعتداء على نفس واحدة هو اعتداء على الإنسانية جميعًا، وأن الحفاظ على روح واحدة هو حفاظ على أرواح ونفوس الناس كافةً فقال تعالى: (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: من الآية32).

والسبب في أن الله تعالى جعل قتل نفس واحدة قتل للناس جميعًا: أن القاتل لا فرقَ عنده بين نفس ونفس فمن قتل زيدًا يمكن أن يقتل عمرًا وخالدًا، ولا يرضيه إلا إبادة الإنسان كله والآية تشير إلى سر عظيم وهو: أن نظرة الإسلام لحياة الفرد هو نفس النظرة لحياة الجماعة فكما أنه لا يمكن التضحية بحياة الجماعة لكي يعيش الفرد وكذلك لا يمكن أن يضحي بفرد بريء لمصلحة الجماعة.

وجاءت أحاديث النبي- صلى الله عليه وسلم- تترا محذرةً من التهاون في أمر الدماء مخوفة النفوس الجريئة التي لا تعبأ بحياة الآخرين من عاقبة السوء التي تلقاها يوم القيامة يقول صلى الله عليه وسلم-: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء"؛ وذلك لعظم أمر القتل لأن الابتداء يقع بالأهم.

وعن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- أنه سأله سائل فقال: يا ابن عباس: هل للقاتل توبة؟ فقال ابن عباس كالمتعجب من مسألته: ماذا تقول؟ مرتين أو ثلاثة ثم قال: ويحك أنَّى له توبة؟!! سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: يأتي المقتول معلقًا رأسه بإحدى يديه متلببًا قاتله بيده الأخرى تشخب أوداجه دمًا حتى يوقفا فيقول المقتول لله سبحانه وتعالى: رب هذا قتلني فيقول الله تعالى للقاتل: تعست ويُذهب به إلى النار" روى النسائي وعن الحسن قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ما نازلتُ ربي في شيء ما نازلته في قتل المؤمن فلم يجيني".

 وكان ابن عمر يقول: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم" هذا هو موقف الإسلام من الحفاظ على حياة البشر فماذا عن نظرة الحضارة الحديثة لهذا الكيان لقد استهانت به في سبيل أغراضها التوسعية وتحقيق مآربها في السيطرة والهيمنة على منابع النفط والثروات.

ففي الحرب العالمية الأولى "1915- 1918" أُصيب فيها واحد وعشرون مليون نسمة وبلغ عدد المقتولين سبعة ملايين نسمة ووصل مجموع نفقاتها سبعة وثلاثون مليار وتكلف قتل رجل واحد عشرة آلاف جنيه.

أما عن الحرب العالمة الثانية "1939- 1945" فقد أصيب فيها خمسون مليون وتكلفت الساعة الواحد مليون جنيه "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص 181 دار الإيمان القاهرة.

وفي أيامنا هذه: قتلت أمريكا زعيمة العالم المتحضر في العراق منذ احتلالها 2003 إلى الآن أكثر من مليون إنسان وكذلك في أفغانستان بلا ذنب غير أنهم قاوموا الغاصب ورفضوا أن ينصاعوا لهم وهناك فرق كبير بين الإعلان عن الحقوق وتطبيقها.

2 - احترام الملكيات الخاصة: 

 فقد منع النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته الاعتداء على الأموال والاستيلاء عليها بالباطل فقال: "أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا هل بلغت؟! اللهم اشهد"، وحرم أخذ الأموال دون رضا أصحابها أو رضا المجتمع الذي يملكها.

يقول صلى الله عليه وسلم : "أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة لا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفس منه ألا هل بلغت اللهم فاشهد".

كما حرَّم النبي- صلى الله على وسلم- احتكار المال واستغلال حاجة الناس إليه والتربح الفاحش على حساب الفقراء ذوي الحاجات فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ربا الجاهلية موضوع"، وبهذا وقى الإسلام الإنسان من جشع المرابين وعباد الغنى الطاغي وحمى المجتمع من صراعٍ طبقي وأحقاد تذهب بقوته وتماسكه أدراج الرياح.

أمثلة عملية:

دعا النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته الجامعة إلى تناسي الماضي الأليم والتخلي عن أوزاره سواء في الدماء أو الأموال وقضى على ظاهرة الثأر بتغليب جانب العفو والصفح عن القاتل وضرب من نفسه وأهله مثلا، فقد وضع دم قريبه "عامر بن ربيع بن الحارث بن عبد المطلب" الذي قتلته هزيل "وتنازل عنه ليوطأ بذلك تنازل الناس عن ثاراتهم كما حرم مسلك عمه العباس بن عبد المطلب في جمع المال عن طريق الربا الفاحش ليهيئ للناس المرابين أخذ رؤس أموالهم دون زيادة عليها قال تعالى: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (البقرة: من الآية279) استمع إليه وهو يقرر في قوة وصرامة: "إن دماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضعه دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أضعه ربا عمي العباس بن عبد المطلب".

3 - المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات: 

 وهذا تأكيد لمكانة المرأة في الإسلام وإعلاء لشأنها وأنها مثل الرجل سواء بسواء في المسئولية والجزاء قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل:97) .

والنبي صلى الله عليه وسلم يعتبر بحق أول من منح المرأة حقها وأنصفها من الرجل وجعلها كيان مستقل عنه مماثل له قال تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة: من الآية228) واليهودية المحرفة تعتبر المرأة منبع الآلام وقد جردها اليهود من كثير من حقوقها المدنية، وجعلوها تحت ولاية أبيها وأهلها قبل الزواج وتحت ولاية زوجها بعد الزواج وكانت شريعتهم تبيح للوالد المعسر أن يبيع بنته بيع الرقيق مقابل ثمن يفرج به أزمته ولكي تدرك المكانة المزرية للمرأة عند اليهود أقرأ معي ما جاء في سفر الجامعة من التوراة: "درت أنا وقلبي لأعلم وأبحث ولأطلب حكمة وعقلاً، ولأعرف الشر أنه جهالة والحماقة أنها جنون فوجدت أمر من الموت المرأة التي هي شباك وقلبها إشراك ويدها قيود الصالح قدام الله ينجو منها، أما الخاطئ فيؤخذ"، وقال أرميا: "المرأة باب الجحيم وطريق الشر وسم الأفعى".

أما في المسيحية فالمرأة عندهم ينبوع المعاصي وباب الدخول إلى جهنم وجمالها سلاح إبليس يقول "كراي سوستام" من كبار المسيحية: "هي شر لابد منه ووسوسة جميلة وآفة مرغوب فيها وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتَّاكة ورداء مطلي مموه".

أمّا في الإسلام فقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم خيرًا، وجعلها كيانًا إنسانيًّا له حقوقه الكاملة في خطبته الجامعة يوم عرفة: "أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقًّا ولكم عليهن حق لكم عليهن أن لا يطئن فرشكم أحدٌ تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" .

4 - إعلان المساواة بين الناس عامة دون اعتبار جنس أو لون أو وطن أو قومية: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) وإذا كان أصلنا آدم وآدم من تراب فلا يحق لأحد من البشر أن يفضل غيره بسبب لونه أو عنصره فالبيض والسود والعرب والعجم يجمعهم أب واحد وإنما جعل الله تعالى الناس قبائل مختلفة وسلالات متنوعة ليعرف بعضهم بعضا فالمعرفة هي سبب الحب والحب سبيل التعاون والكافل، وأساس التافضل ليس قيمة مادية إنما هي درجة خلقية ترفع مكانة الإنسان إلى مقامات رفيعة جدا؛ إنه التقوى الصلة الحقيقية بين الإنسان وربه فتميز الإنسان عن أخيه الإنسان بقدر ارتباطه بالله وهو الذي يرفع أقواما بالانتساب إليه والاستمداد منه ولو كانوا بلا مال ولا وجه حسن ويخفض آخرين بانقطاع الحبل الممدود بينهم وبين ربهم ولو كانوا من سادات الناس وكبرائهم وفي هذا يقول النبي- صلى الله عليه وسلم- في خطبته الجامعة يوم عرفة: "لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي عل عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب" وصلى الله على محمد وآله وسلم.

 

ard

يلا بينا نبنى مصر (أرض الكنانة)

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 139 مشاهدة
نشرت فى 28 أكتوبر 2012 بواسطة ard

نهضة الكنانة

ard
الإعلام الهادف والمصداقية منطلقنا »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,242

أكتب دستورك بنفسك

للمشاركة فى صناعة مستقبل وطنك وللأجيال القادمة شارك فى كتابة الدستور (علق -أشطب أضف )عن طريق الدخول على هذا الرابط  http://dostour.eg/sharek/static/landing/index.html