عندما نلقي نظرة عاجلة على وضع الدبلوماسية العربية نكتشف بسرعة مواطن الضعف و الخلل فيها . و إذا كان هناك تأثير متبادل بين السياسة بكل جوانبها ، والدبلوماسيا بكل مظاهرها ، فالوهن الذي أصاب السياسة العربية منذ استقلال الأقطار العربية ( و لا سيما منذ اغتصاب فلسطين ) انعكس سلباً على الدبلوماسية العربية .

ثم إن الهزائم العسكرية المتلاحقة التي شهدتها تلك الأقطار و تركت أعمق الأثر في نشاط تلك الدبلوماسية .

و لو بحثنا عن عوامل هذا الخلل الدبلوماسي العربي لوجدنا أنها تكمن ، في الدرجةالأولى ، في ثلاثة عناصر تعتبر الركائز الأساسية لنجاح كل عمل دبلوماسي على صعيد عربي: عنصر الرجال، و عنصر الوزارات ، و عنصر التنسيق .

1- فالسلك الدبلوماسي العربي يفتقر، إلى حدّ كبير، إلى رجال يتمتعون بالموهبة الدبلوماسية . وهذه الموهبة لا تكتسب ، كما ذكرنا ، بالشهادة أو المنبت أوالمباراة أوالانتخاب ، بل تولد مع الإنسان و تصقل بالعلم والممارسة والاطلاع .

قد يجد البعض مبرراً لهذا النقص في خضوع الأقطار العربية ، مدَّة طويلة ، للاستعمار أو الحماية أو الانتداب ، و في حرمانها من مناهل الثقافة السياسية .

و لكن الفترة الزمنية التي انقضت منذ نيل الاستقلال كافية لتلافي النقص و سدَّ الفراغ و إعداد الأطرالبشرية  اللازمة .

و نلاحظ أن معالم الخلل الدبلوماسي التي ظهرت في البداية لم يطرأ عليها ، بعد ثلاثين سنة أو أكثر من الاستقلال، أي تغيير مهم يُذكر. و يمكننا إجمال هذه المعالم بأمور أربعة :

أ – الأسلوب السّيئ في اختيار الدبلوماسي العربي : فالغالبية العظمى من الدول العربية لا تعتمد طريقة الانتقاء والكفاية والإعداد لاختيار رجال السلك الدبلوماسي فيها ، بل تعتمد الأسلوب العشائري العشوائي الذي يقوم على مدى الصداقة أو القرابة التي تربط السياسي بالدبلوماسي . وهناك دول عربية جعلت من السلك الدبلوماسي وسيلة رائجة لمكافأة المقرّبين و المتزلّفين ، أو للتخلص من السياسين المزعجيين ، أو لإبعاد العسكريين الخطرين ، أو لإرضاء أصحاب النزوات من الانتهازيين .

ب – الضعف الظاهر في المستوى اللغوي و الثقافي : فالقسم الأعظم من دبلوماسيينا لا يتقن لغة أجنبية واحدة . و منهم من لا يُجيد الغة القومية . و من الصعب على البلوماسي العربي القيام بمهمة على الوجه المقبول إذا كان يجهل لغة الدولة المعتمد لديها ، و الغريب أن انخفاض المستوى الثقافي لدى العديد من الممثلين الدبلو ماسيين العرب يكاد يكون ظاهرة عامة . فهم قلَّما يقرأون و يطالعون و يتبحَّرون في أمور السياسة الدوليّة ، و هم قلَّما يعكفون على الدراسة أوضاع الدولة المعتمدين لديها ليتعرفوا إلى معضلاتها وهمومها وتطلعاتها. و هم قلّما يشاركون في أوجه النشاط الثقافي و الاجتماعي الذي تشهده الدولة .

ج- الإهمال في تحسين المستوى الاجتماعي : فالدبلوماسي العربي يجد صعوبة في الاندماج في المجتمع الأجنبي، و ذلك بسبب البيئة التي ينتمي إليها ، أوالطريقة التي يختار بها ، أوالضعف اللغوي والثقافي الذي يُعانيه ، أو الزوجة العاجزة عن مساعدته في أداء رسالته لأنها ليست ، في الأصل ، مؤهلة أو مهيَّأة للعمل الدبلوماسي .

د- الشعور الدائم بعدم الاستقراروالاطمئنان. فالدبلوماسي العربي الذي يختاره الحاكم يشعر، في كل لحظة ، بأن مصيرة  مرتبط ببقاء هذا الحاكم . و بما أن الوطن العربي معرّض ، بشكل دائم ، و بسبب غياب الضوابط و الأصول الديمقراطية ، للتقلبات و الانقلابات السياسية و العسكرية ، فإننا نرى هذا الدبلوماسي يعيش في قلق أو حذر ، أو توتّر يعرقل عمله اليومي و يربك و يُجرّده من كل رغبة في الإِبداع و المبادرة .

2- ووزارات الخارجية في الدول العربية ما زالت أجهزة ضعيفة أورديئة أوعاجزة عن التصدي للمشكلات الخارجية . و لعل ضعف الدبلوماسية العربية يعود إلى ضعف هذه الوزارات ، إذا لا يمكننا أن نتصوّر وجود سلك خارجي مزدهر في زوارة للخارجية متهالكة .

و الحقيقة أن وزارة الخارجية تعدّ الجهاز المركزي الذي يقوم بمهمتين أساسيتين :

الأولى هي تزويد الدبلوماسي بالتوجيهات و التعليمات المحددة و الواضحة التي تسمح له بإنجاز مهمة . والثانية هي تلقي التقاريروالبيانات منه ، و دراستها بعمق، و تحليلها بتأنّ ، و استخراج الصالح و المفيد منها ، و الاعتماد عليها لوضع الخطوط الرئيسية للسياية الخارجية . وهذا العمل يطلب وجود جهاز المركزي على مستوى رفيع من الثقافة و التنظيم . و يؤسفنا أن نلاحظ غياب هذا المستوى عن معظم وزارات الخارجية العربية، و ذلك لعدة أسباب ، أهمها أربعة :

أ – عدم الإهتمام و العناية بأوضاع هذه الوزارات ، على الرغم من أهميتها و تأثيرها على صعيد العلاقات بالخارج . وأول العيوب البارزة وضع هذه الوزارات في عهدة وزراء لا علاقة لهم ولااهتمام بالعمل الدبلوماسي . فكثيراً ما يُعهد بوزارة الخارجية أو ببعض السفارات إلى أطباء أو أدباء أو أشخاص لا يدل ملفهم السياسي على أي ميل أو معرفة أو استعداد للقيام بهذه المهمة . وما يقال في عدم اختصاص الوزير أو وكيل أو السفير. يمكن أن يقال في مؤهلات الموظفيين الكبار الذين يتولون إدارة الوزارة و إعداد الملفات و الدراسات فيها.

ب- وجود ازدواجية في إدارة السياسية الخارجية. ونعني بذلك وجود أجهزة ، أو إدارات ،أو مراكز قوى أخرى تتولى أمور السياسة الخارجية إلى جانب وزارات الخارجية ، وهذا الوضع يسفر عادة من نتائج سيئة ،أ برزها:

ضعف الثقة الدبلوماسي بوزارته ، ومحاولته توثيق الصلة بالأجهزة الأخرى صاحبة النفوذ ، و إضعاف الجهاز المركزي ، أي وزارة الخارجية ، المؤهلة للأشراف على العلاقات الخارجية و توجيه التعليمات و الإرشادات المقررة أو المطلوبة و تنسيق العمل و التنفيذ داخل الوزارة .

ج- قصور أو تقصير في إدراك كنه المهمة التي تتولاّها وزارات الخارجية . فهذه الوزارت ليست إدارات عادية تمارس أعمالاً روتينية ، و ليست مراكز بريد تتلقى التقرير من المبعوثين الدبلوماسيين و تبعث إليهم بالقرارات المتخذة على أعلى المستويات. إنها، في الحقيقة و الواقع ، مختبرات للتحليل و التمحيص و الغربلة ، و مراكز للأبحاث و الدراسات ، و مؤسسات للتوثيق و النشر . فمن مهامها الأساسية ، مثلاً ، وضع الملف كامل لكل قضية . غير أن إعداد الملف يتطلب وجود وثائق مبوّية ، و مكتبة غنية ، و خبراء فنيين ، و باحثين اختصاصيين . و يؤسفنا أن نلاحظ غياب هذه العناصر عن معظم وزاراتنا . ثم إن وزارات الخارجية في الدول المتقدمة تقوم ، من حين إلى آخر ، بنشر بعض الوثائق ، أو إصدار بعض المنشورات و المجلات ، للدفاع عن قضايا معينة ، أو لتبرير تصرفات معينة ، أو لتوضيح مواقف معينة .

و يؤسفنا ، أيضاً ، ان نلاحظ انصراف معظم وزاراتنا عن هذه الأمور كأن  بينها و بين القضايا الفكرية و التنظيمية عداوة مستحكمة .

د- غياب الندوات الفكرية و حلقات التدريب و الخبرات الشخصية عن وزاراتنا . فهذه الوزارات لا تنّظم ، إلاّ فيما ندر، ندوات فكرية يشارك فيها أهل الرأي السديد و الخبرة الرفيعية ، و تعالج كل المشكلات و القضايا التي تطرأ على الساحة الدولية . و هذه الوزارات لا تعقد ، الاّ نادراً أيضاً ، حلقات دراسية تهدف إلى تدريب موظفيها و إطلاعهم على كل جديد و مستحدث في عالم الفكر السياسي و العلاقات الدولية . و هذه الوزارات لا تحاول ، إلاّ قليلاً جداً ، الاستفادة من خبرات بعض الشخصيات ، الوطنية أو الأجنبية،الموجودة خارجها . فهناك خبرات و كفاءات لا تعمل في هذه الوزارات ، و لكنها مستعدة ، عند الطلب ، لإمدادها بزبدة الأفكاروالعبر و الدروس التي حصلت عليها خلال فترة ممارستها الطويلة في مجالات السياسة و الدبلوماسية ، و خلال اطلاعهاعلى تجارب الآخرين و حضارات الشعوب. وبالإِمكان الإستعانة ، عند الحاجة ، بهذه الخبرات و الدراسات لإثراء العمل الدبلوماسي و تطعيم السياسة الخارجية بلقاح جديد .

3- والنقص الثالث الذي يشكو منه العمل الدبلوماسي العربي هو انعدام التنسيق بين السياسات الخارجية العربية. فكل دولة عربية سياسة خارجية مستقلة ، و أحياناً سياسة خارجية متناقضة أومتنافرة أو متناحرة مع سياسات الشقيقات الأخرى . ونظرة بسيطة إلى أوضاع هذه السياسيات ، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ،تقنعنا بفقدان كل تنسيق بينها .

فهناك سياسات شرّقت تارةً و غرَّبت تارة . و هناك سياسات شرّقت و غرّبت في  آن واحد. وهناك سياسات آثرت التزام الحياد فترةً ، ثم ندمت على ما فعلت و أضاعت معالم الطريق السوي .

إن جميع الدول العربية تعلن رفضها لاغتصاب فلسطين من جانب الصهيونيين ، و تعلن استعدادها لتحرير فلسطين، و تعلن عداءها للولايات المتحدة التي ساندت و موّلت و حمت الكيان الصهيوني ، و تعلن استنكارها لانتهاك حقوق الإنسان و حرياته الأساسية ، و تعلن مساندتها لحق تحرير المصير لكل شعب مضطهد ، و لكن تصرفاتها المجسَّدة في سياساتها الخارجية لا تتفق مطلقاً مع موقفها المعلنة .

و بسبب تناقض الفاضح بين الأقوال والأعمال ، أوالتناقض الصارخ بين التضامن اللفظي والتباعد الفعلي في المواقف العربية إزاء القضايا القومية المصرية ، مُنيت الدبلوماسية العربية بهزائم نكراء لا تقل وزناً عن الهزائم العسكرية .

و حاولت جامعة الدول العربية ، و خصوصاً في العقد الأول من عمرها ، أن تُدخل شيئاً من التنظيم على العمل العربي المشترك عن طريق إيجاد دبلوماسية مشتركة بين أعضائها ، و عن طريق تشجيع اللجوء إلى تمثيل دبلوماسي عربي مشترك ( لكل الأعضاء أو لمجموعات منهم ) لدى الدول الأجنبية . و أصدرت ، لهذا الغرض ، قرارات و توصيات ركّزت فيها على محاسن التعاون الدبلوماسي في الخارج ، و حسنات الدفاع الموحد عن القضايا العربية ، و حجم المكاسب المادية التي يجنيها الأعضاء  من جرّاء الاقتصاد في نفقات التمثيل . و دعت ، أكثر من مرة ، إلى وجوب عقد اجتماعات دورية لوزاراء الخارجية العرب من أجل تنسيق العمل السياسي و الدبلوماسي . غير أن الجامعة أخفقت في كل مساعيها، و راحت تقلَّد الدول الأعضاء في إنشاء سفارات خاصة لها في بعض العواصم الكبرى أطلقت عليها اسم : مكاتب الجامعة ، فزادت بذلك عدد البعثات الدبلوماسية العربية، و أسهمت في تشتيت الجهود و تضخيم الخلل و زيادة الأعباء المالية و الخلاصة أن الدبلوماسية سلاح . وهذا السلاح قد يكون، في بعض الظروف و المعارك ، أمضي من القوة العسكرية ، فهناك شعوب حققت ، بواسطة الدبلوماسية الواعية المتحركة ، انتصارات باهرة ضد الأعداء أو المعتمدين . و لا نجافي الواقع إن قلنا إن عدونا الصهيوني استطاع ، بالمهارة أو الحنكة أو المراوغة البلوماسية ، أن يتغلّب علينا ، دبلوماسياً ، في معظم المعارك التي خاضها ضدنا ، أو خضناها ضده ، في المحافل الدولية .

المصدر: المصدر: الدبلوماسية – الدكتور علي حسين الشامي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 52 مشاهدة

عدد زيارات الموقع

1,122