أيها المبتلى.. لست وحدك على الدرب!!.
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً.
أما بعد....
(المصيبة العظمى)
فو الله إني لمتحير كيف أدخل إلى هذا الموضوع، ومن أنا أمام هذا الموضوع المدهش المحير المبكي؟! إنه موضوع وفاته عليه الصلاة والسلام، إنه موضوع انتقاله إلى الرفيق الأعلى عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن لا جدوى إلا بحديث يذكرنا بذاك الحدث الجلل، وكل حدث بعد وفاته هين سهل بسيط يسير.
وقد اخترت هذا الموضوع تحديدًا لشدته على المسلم الحق، ومن ثم يهون كل شيء وتسهل كل مصيبة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
ورحم الله امرأة قالوا لها بأن زوجها وابنها وأخوها قد قتلوا فلم تأبه لذلك وبادرت قائلة: ماذا صنع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قالوا: هو بخير. فقالت: لا حتى أراه. فلما رأته قالت: كل المصائب بعدك جلل يا رسول الله. (جلل: تعني هينة أو يسيرة)
ولكن الموت نهاية كل حي، فقد انفرد سبحانه وتعالى بالبقاء وكتب على جميع المخلوقات الفناء فقال الله عز وجل:(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) [الرحمن:26] وقال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ). [آل عمران:185]
ولم يستثن أحدًا حتى أكرم الخلق –صلى الله عليه وسلم- فقد قال الله عز وجل: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30] ويقول جل ذكره: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
فليبن أهل البغي والعدوان بروجاً من التحسين إن شاءوا، فو الله ليموتن ولو كانوا في بروج مشيدة، والموت وما أدراك ما الموت؟!
إنه مصيبة كما سماه ربنا تبارك وتعالى: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة:106].
ولكن ليست كل المصائب كفقده صلى الله عليه وسلم.
(طلائع التوديع)
ولما تكاملت الدعوة وسيطر الإسلام على الموقف، أخذت طلائع التوديع للحياة والأحياء تطلع من مشاعره صلى الله عليه وسلم، وتتضح بعباراته وأفعاله.
إنه اعتكف في رمضان من السنة العاشرة عشرين يوماً، بينما كان لا يعتكف إلا عشرة أيام فحسب، وتدارسه جبريل القرآن مرتين، وقال في حجة الوداع: (إني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً)، وقال وهو عند جمرة العقبة: (خذوا عني مناسككم، فلعلي لا أحج بعد عامي هذا)، وأنزلت عليه سورة النصر في أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع وأنه نعيت إليه نفسه.
وفي أوائل صفر سنة 11 هـ خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فصلي على الشهداء كالمودع للأحياء والأموات، ثم انصرف إلى المنبر فقال: (إني فرط لكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، أو مفاتيح الأرض، وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).
وخرج ليلة ـ في منتصفها ـ إلى البَقِيع، فاستغفر لهم، وقــال: (السلام عليكـم يـا أهل المقابر، لِيَهْنَ لكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شر من الأولي)، وبشرهم قائلاً: (إنا بكم للاحقون).
(مرض النبي صلى الله عليه و سلم)
ويوم الخميس، وما أدراك ما يوم الخميس؟!
يوم زار المرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر هذا اليوم شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: بأبي هو وأمي زاره المرض يوم الخميس. نعم، بأبي هو وأمي، وليت ما أصابه أصابنا، فإن مصابه رزية على كل مسلم، ولكن رفعاً لدرجاته وتعظيماً له عند مولاه.
ذكر ابن كثير بسند جيد قال: كان ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه يقلب الحصى في المسجد الحرام ويقول: [يوم الخميس، وما يوم الخميس -وهو يبكي- يوم زار المرض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم].
فديناك من حب وإن زادنا كرباً فإنك كنت الشمس في الشرق أو غربًا
وكان الصحابة يفدونه صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بقيع الغرقد وعاد وهو معصوب الرأس، فتقول عائشة - وقد فجعت رضي الله عنها وأرضاها-: {وارأساه!{ فقال صلى الله وسلم: (بل أنا وا رأساه) وصدق صلى الله عليه وسلم، فإن صداع الموت قد وصل إلى رأسه الشريف.
انظروا عباد الله هذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام عند مرض موته، وهو أكرم خلق الله على الله، فما بالنا نحن، وفينا ما فينا، الله المستعان.
ثم لما أحس صلى الله عليه وسلم بدنو الأجل كما عند البخاري في الجنائز من حديث عقبة بن عامر قال: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما وصل الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، ثم قال: (يا أيها الناس: والله ما أخاف عليكم الفقر، ولكن أخاف أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)}
وصدق عليه الصلاة والسلام، فو الله ما قطعت أعناقنا إلا الدنيا، وما أفسد ديننا إلا الدنيا، وما ذهب بأخلاقنا وآدابنا إلا الدنيا...
و عند أحمد في المسند بسند حسن عن أبي مويهبة قال: قال لي صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس: (يا أبا مويهبة! أسرج لي دابتي)، فأسرجت له دابته عليه الصلاة والسلام، فركبها فذهبت معه حتى أتى الشهداء في أحد، فسلَّم عليهم سلام المودع، وقال: (أنا شهيد عليكم أنكم عند الله شهداء)، ثم قال: (يا أبا مويهبة! خيرت بين البقاء وأعطى مفاتيح خزائن الدنيا وبين لقاء الرفيق الأعلى)، قال: أبو مويهبة بأبي أنت وأمي يا رسول الله! خذ مفاتيح الدنيا، وأطل عمرك في الدنيا ما استطعت، ثم اختر الرفيق الأعلى، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)}.
انظروا إليه عليه الصلاة والسلام وهو في مرض موته يعلم أمته الدروس الوجيزة المفيدة، وخلاصة تلك الحياة العامرة في الدعوة لدين الله تبارك وتعالى والتي يصل بها العبد إلى أعلى المراتب الإيمانية ومن هذه الدروس:-
1-عدم الركون إلى الدنيا والتنافس عليها لأنها أهلكت من قبلنا.
2-أن من يحب الله جل وعز يكون دائما في اشتياق إلى لقائه، و(من أحب لقاء الله أحب الله لقائه).
3-المؤمن لا يفتر أبدًا عن حمل هم الدعوة حتى ولو كان على في مرض الموت.
(على فراش الموت)
ووقع صلى الله عليه وسلم على فراش الموت، وعصب رأسه، وأخذت الحمى تنفضه عليه الصلاة والسلام، فكما جاء عند الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط).
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا حزن ولا مرض، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه).
ويقول عليه الصلاة والسلام كما في كتاب الطب والمرض للبخاري: (إن المؤمن كالخامة من الزرع، لا تزال الريح تفيئها يمنة ويسرة، وأما المنافق كالأرزة، لا تزال قائمة منتصبة حتى يكون انجعافها مرة واحدة).
المؤمن يحم، المؤمن يصاب ويمرض ويجوع، لكن المنافق يسمن ويترك حتى تأتيه قاصمة الظهر مرة واحدة.
ولا ذنوب له صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولكن رفعت درجاته عليه الصلاة والسلام، جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:{دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك -أي: في مرض موته- فمسسته بيدي- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- فقلت:يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً. قال: نعم. إني أوعك كما يوعك رجلان منكم. قلت: ذلك بأن لك الأجر مرتين يا رسول الله. قال: نعم. ثم قال: ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها}.
فيا من ابتلاك الله بالمرض لا تيأس ولا تحزن واصبر واحتسب فإن هذا خير لك إذا صبرت واحتسبت ورضيت بقضاء الله تبارك وتعالي.
فقد قال عليه الصلاة والسلام (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له). رواه مسلم.
فلا تحزن عبد الله إذا أصابك مرض وانظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يتألم كما يتألم الرجلان وهو من هو، ورغم ذلك يبشرنا أيضًا وهو على فراش الموت فيقول:(ما من مؤمن يصيبه هم أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها)
الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر.
ما أجملها من بشرى..
(قبل الوفاة بخمسة أيام)
ويوم الأربعاء قبل خمسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة في بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال: (هريقوا علي سبع قِرَب من آبار شتي، حتى أخرج إلى الناس، فأعهد إليهم)، فأقعدوه في مِخَضَبٍ، وصبوا عليه الماء حتى طفق يقول: (حسبكم، حسبكم).
وعند ذلك أحس بخفة، فدخل المسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دسمة حتى جلس على المنبر، وكان آخر مجلس جلسه، فحمد الله وأثني عليه، ثم قال: (أيها الناس، إلي)، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وفي رواية: (قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وقال: (لا تتخذوا قبري وثناً يعبد).
خرج بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام على الناس، يقول ابن عباس كما جاء من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة في الصحيحين: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وهو عاصب على رأسه بعصابة دسمة، -وقيل: سوداء- وهو بين علي والعباس، على كتفيهما رضوان الله عليهما، وأقدامه من المرض تخط في الأرض، فأجلساه على المنبر، فلما رأى الناس قال: (يا أيها الناس: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. زاد البيهقي كما قال ابن كثير: يا أيها الناس: إني ملاقٍ ربي، وسوف أخبره بما أجبتموني به، يا أيها الناس: من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله فليقتص مني الآن قبل ألا يكون درهماً ولا ديناراً، قال أنس: فنظرت إلى الناس وكل واضع رأسه بين رجليه من البكاء، ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس: اللهم من سببته أو شتمته أو أخذت من ماله أو ضربته فاجعلها رحمة عندك} وعند أبي داود: {إني أخذت عند ربي عهداً أيما مسلم شتمته أو سببته أو ضربته، أن يجعلها كفارة له ورحمة} فاستبشر الناس بهذا، وأخذوا يقولون: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله! وعاد إلى فراشه.
وعرض نفسه للقصاص قائلاً: (من كنت جلدت له ظَهْرًا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرْضاً فهذا عرضي فليستقد منه).
ثم نزل فصلى الظهر، ثم رجع فجلس على المنبر، وعاد لمقالته الأولي في الشحناء وغيرها. فقال رجل: إن لي عندك ثلاثة دراهم، فقال: (أعطه يا فضل)، ثم أوصي بالأنصار قائلاً:
(أوصيكم بالأنصار، فإنهم كِرْشِي وعَيْبَتِي، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)، وفي رواية أنه قال: (إن الناس يكثرون، وتَقِلُّ الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام، فمن ولي منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم).
ثم قال: (إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده). قال أبو سعيد الخدري: فبكي أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمنّ الناس على في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لا اتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر).
وانظر إلى حرصه عليه الصلاة والسلام من خلال تلك الوصايا الغالية التي أسداها لأصحابه الكرام وللأمة من بعدهم وأيضا سماحته، وإرساء دعائم العقيدة الإسلامية الصحيحة وهو يودع أمته عليه الصلاة والسلام.
(قبل الوفاة بأربعة أيام)
ويوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال ـ وقد اشتد به الوجع: (هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) ـ وفي البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبكم كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا عني).
وأوصى ذلك اليوم بثلاث: أوصي بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأوصي بإجازة الوفود بنحو ما كان يجيزهم، أما الثالث فنسيه الراوي. ولعله الوصية بالاعتصام بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي: (الصلاة وما ملكت أيمانكم).
والنبي صلى الله عليه وسلم مع ما كان به من شدة المرض كان يصلي بالناس جميع صلواته حتى ذلك اليوم ـ يوم الخميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلي بالناس ذلك اليوم صلاة المغرب، فقرأ فيها بالمرسلات عرفاً.
وعند العشاء زاد ثقل المرض، بحيث لم يستطع الخروج إلى المسجد. قالت عائشة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أصَلَّى الناس؟) قلنا: لا يا رسول الله، وهم ينتظرونك. قال: (ضعوا لي ماء في المِخْضَب)، ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه. ثم أفاق، فقال: (أصلى الناس؟) ـ ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع في المرة الأولي من الاغتسال ثم الإغماء حينما أراد أن ينوء ـ فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلي أبو بكر تلك الأيام 17 صلاة في حياته صلى الله عليه وسلم، وهي صلاة العشاء من يوم الخميس، وصلاة الفجر من يوم الاثنين، وخمس عشرة صلاة فيما بينها.
وراجعت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث أو أربع مرات؛ ليصرف الإمامة عن أبي بكر حتى لا يتشاءم به الناس، فأبي وقال: (إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس).
وفيه هذا أيضًا حرصه عليه الصلاة والسلام من خلال تلك الوصايا الغالية التي أسداها لأصحابه الكرام وللأمة من بعدهم وأيضا سماحته، وإرساء دعائم العقيدة الإسلامية الصحيحة وهو يودع أمته عليه الصلاة والسلام.
(ثلاثة أيام قبل الوفاة)
قبل ثلاثة أيام
قال جابر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث وهو يقول: (ألا لا يموت أحد منكم إلا وهو يحسن الظـن بالله).
ما أجملها من وصية وهي مصداق الحديث القدسي وفيه يقول الله تعالى (أنا عند ظن عبدي بي).
قبل يوم أو يومين
ويوم السبت أو الأحد وجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بألا يتأخر، قال: (أجلساني إلى جنبه)، فأجلساه إلى يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسمع الناس التكبير.
قبل يوم
وقبل يوم من الوفاة ـ يوم الأحد ـ أعتق النبي صلى الله عليه وسلم غلمانه، وتصدق بستة أو سبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، وفي الليل أرسلت عائشة بمصباحها امرأة من النساء وقالت: أقطري لنا في مصباحنا من عُكَّتِك السمن، وكانت درعه صلى الله عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من الشعير.
وفي هذا جواز المعاملة مع أهل الكتاب.
(آخر يوم من الحياة)
روي أنس بن مالك: أن المسلمين بينا هم في صلاة الفجـر من يوم الاثنين ـ وأبو بكر يصلي بهم ـ لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم في صفوف الصلاة، ثم تبسم يضحك - يا لقلبي ويا لشعري ما لهذا التبسم، وما لهذا التعجب! إنه -إن شاء الله- تبسم لأنه رأى الصفوف منتظمة، ورأى الدعوة حية، ورأى الرسالة منتصرة، ورأى لا إله إلا الله مرتفعة، ورأى أبا بكر يصلي بالناس، ورأى دعوة التوحيد قد ضربت بجرانها في الجزيرة، فحق له أن يتبسم-، فنكص أبو بكر على عقبيه؛ ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة. فقال أنس: وهَمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم، فَرَحًا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخي الستر.
ثم لم يأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت صلاة أخرى.
ولما ارتفع الضحى، دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة فسَارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.
وبشر النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بأنها سيدة نساء العالمين.
ورأت فاطمة ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه.
فقالت: وا كرب أباه. فقال لها: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم).
ودعا الحسن والحسين فقبلهما، وأوصي بهما خيراً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.
وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله بخيبر حتى كان يقول: (يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْهَرِي من ذلك السم).
وقد طرح خَمِيصَة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك ـ وكان هذا آخر ما تكلم وأوصي به الناس: (لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ـ يحذر ما صنعوا ـ لا يبقين دينان بأرض العرب).
وأوصى الناس فقال: (الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم)، كرر ذلك مراراً.
فما أروعها من وصايا وما أبعد المسلمين عنها في أيامنا هذه.
(الاحتضــــــار)
وبدأ الاحتضار فأسندته عائشة إليها، وكانت تقول: إن من نعم الله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي وبين سَحْرِي ونَحْرِي، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته.- ويا لسعادة الزوجة بزوجها! ويا لسعادة الحبيبة بحبيبها! ويا لفرحتها بمؤنسها وبرجلها في آخر عمره وهو يلصق رأسه بحجرها رضي الله عنها وأرضاها!- و دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ـ وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فتناولته فاشتد عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته، فأمره ـ وفي رواية أنه استن به كأحسن ما كان مستنا ـ -، ليلقى الله طيباً، فإن حياته طيبة، ووفاته طيبة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي). [الفجر:27-30]. - وبين يديه رَكْوَة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح به وجهه، يقول: (لا إله إلا الله، إن للموت سكرات...) الحديث.
وما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو أصبعه، وشخص بصره نحو السقف، وتحركت شفتاه، فأصغت إليه عائشة وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى. اللهم، الرفيق الأعلى).
كرر الكلمة الأخيرة ثلاثاً، ومالت يده ولحق بالرفيق الأعلى. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقع هذا الحادث حين اشتدت الضحى من يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ، وقد تم له صلى الله عليه وسلم ثلاث وستون سنة وزادت أربعة أيام.
يوم توفاه الله إليه ليكرمه جزاء ما قدم للأمة، يوم قبضه الله، قال أنس: (ظننا أن القيامة قامت يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي مصيبة أكبر من مصيبة وفاته على الأمة؟! أي حدث وقع في تاريخ الإنسان يوم توفي خير إنسان وأفضل إنسان عليه الصلاة والسلام؟! ولكن نقول الآن وبعد الآن ويوم نلقى الرحمن: إنا لله وإنا إليه راجعون! (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ). [البقرة:156-157].
(الفراق الأليم)
وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها.
وبقي جثمانه الشريف في غرفة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ولكن ما هو حال الصحابة؟
فداً لك من يقصر عن فداك *** فلا ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي *** بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبكت دموع في خـدود *** تبين من بكى ممن تباكى
وقف الصحابة في موقف لا يعلمه إلا الله، وفي دهشة لا يعلمها إلا الحي القيوم، كلهم يكذب الخبر، ولا يصدق إلا من أتاه اليقين..
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر *** فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً *** شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وقفوا حول مسجده صلى الله عليه وسلم، وأغلق بابه الشريف على جثمانه، وبقيت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تبكي مع النساء، أما السكك فقد امتلأت بالبكاء والعويل والنحيب، وأما عمر رضي الله عنه وأرضاه فوقف عند المنبر يسل سيف الإخلاص والصدق الذي نصر به دين الله، ويقول: يا أيها الناس: من كان يظن أن رسول الله قد مات، ضربت عنقه بهذا السيف.
قال أنس: ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما مات قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه. يا أبتاه، مَنْ جنة الفردوس مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل ننعاه.
أورد صاحب مجمع الزوائد عن عثمان رضي الله عنه وأرضاه، أن عمر مر به فسلم عليه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يرد عليه السلام، فذهب عمر إلى أبي بكر فاشتكى عثمان وقال: سلمت عليه فلم يرد علي السلام، فاستدعاه أبو بكر، وقال: يا عثمان! سلَّم عليك أخوك عمر فلم ترد عليه السلام، فقال: يا خليفة رسول الله! والله ما علمت أنه سلَّم علي قال: لعلك داخلك ذهول أو دهش من وفاته صلى الله عليه وسلم قال: إي والله، فجلسوا يبكون].
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: قال أبو بكر لـعمر رضي الله عنه وأرضاه: يا عمر! اذهب بنا إلى أم أيمن -هذا بعد وفاة رسول الله، وهي مولاة كانت مرضعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، عجوز مسنة كان يزورها صلى الله عليه وسلم في حياته- قال: اذهب بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان صلى الله عليه وسلم يزورها.. يا للتواضع! يا للتمسك بالسنة! يا للحرص على الأثر! فذهبا رضوان الله عليهما، فلما وصلا إلى أم أيمن بكت، فقالا: ما يبكيك يا أم أيمن ؟
قالت: أبكي على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا: أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: والله إني أعلم ذلك، ولكن أبكي على أن الوحي انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان رضوان الله عليهما.
(الثبات العظيم)
أما أبو بكر فكان غائباً في ضاحية من ضواحي المدينة في مزرعته، ما يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوفى في ذلك اليوم، بأبي هو وأمي! فسمع الخبر فأتى على فرسه، وقد ثبته الله يوم أن يثبت أهل طاعته، وقد سدده الله يوم أن يسدد أهل التوحيد.
فأتى بسكينة ووقار، كان رجل المواقف، ورجل الساعة، وكان اختياره صلى الله عليه وسلم موفقاً في إمامة أبي بكر، فأتى وإذا الناس لا يزدادون من البكاء إلا بكاء، ولا من العويل إلا عويلاً، ولا من النحيب إلا نحيباً، فقال: ماذا حدث؟ قالوا: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مات رسول الله، أتدرون ماذا قال؟
قال: الله المستعان! الله المستعان نلقى بها الله، والله المستعان نعيش بها لله، والله المستعان نتقبل بها أقدار الله، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون!.
إنها كلمة الصابرين حين يصابون بصدمات في الحياة، إنها كلمة الأخيار حينما تحل بهم الكوارث من أقدار الله وقضاء الله.
ثم دخل وشق الصفوف في سكينة على فرس له، وبيده عصا، ويشق الصفوف بسكينة ووقار، حتى وصل إلى البيت ففتح الباب، ثم أتى إليه صلى الله عليه وسلم، فكشف الغطاء عن وجهه، ثم قبله وبكى ودمعت عيناه الشريفتان على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: [بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً، أما الموتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً، والله لا تموت بعدها أبداً، والله لا تموت بعدها أبدا ً].
ثم خرج رضي الله عنه وأرضاه إلى الناس وعصاه بيده، فأسكتهم، وقال لـعمر: يـا بن الخطاب! اسكت، فلما سكت الناس، وهم ينظرون إلى القائد الجديد الملهم، إلى هذا الإمام الموفق، إلى هذا الخليفة الراشد، وهو يتخطى الصفوف حتى صعد المنبر، فيستفتح خطابه بحمد الله والثناء على الله، فالمنة لله والحمد لله، والأمر لله من قبل ومن بعد، ثم يقول: [يا أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). [آل عمران:144] ]] فكأن الناس سمعوها لأول مرة، وكأنها ما مرت على أذهانهم، ثم عاد رضي الله عنه وأرضاه.
فلله دره ما أثبته، فليكن قدوة لكل من أصابته مصيبة أيا كانت.
(التجهيز وتوديع الجسد الشريف إلى الأرض)
ويوم الثلاثاء غسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير أن يجردوه من ثيابه، قال علي رضي الله عنه: اختلفنا في كيفية تغسيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقي علينا النعاس، ونحن بالماء حوله صلى الله عليه وسلم، حتى نمنا وإن لحية أحدنا إلى صدره، فسمعنا هاتفاً يقول: {اغسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوق ثيابه} وهذا سند صحيح، فغسلوه من فوق ثيابه، طيباً مباركاً مهدياً، عليه السلام يوم ولد، وعليه السلام يوم بعث، وعليه السلام يوم مات، وعليه السلام يوم يبعث حياً.
وكان القائمون بالغسل: العباس وعليّا، والفضل وقُثَم ابني العباس، وشُقْرَان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسامة بن زيد، وأوس بن خَوْلي، فكان العباس والفضل وقثم يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلى يغسله، وأوس أسنده إلى صدره.
وقد غسل ثلاث غسلات بماء وسِدْر، وغسل من بئر يقال لها: الغَرْس لسعد بن خَيْثَمَة بقُبَاء وكان يشرب منها.
ثم كفنوه في ثلاثة أثواب يمانية بيض سَحُولِيَّة من كُرْسُف، ليس فيها قميص ولا عمامة. أدرجوه فيها إدراجًا.
واختلفوا في موضع دفنه، فقال أبو بكر: إني سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: (ما قبض نبي إلا دفن حيث يـقبض)، فرفع أبو طلحة فراشه الذي توفي عليه، فحفر تحته، وجعل القبر لحداً.
ودخل الناس الحجرة أرسالاً، عشرة فعشرة، يصلون على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أفذاذاً، لا يؤمهم أحد، وصلي عليه أولاً أهل عشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم الصبيان، ثم النساء، أو النساء ثم الصبيان.
ومضى في ذلك يوم الثلاثاء كاملاً، ومعظم ليلة الأربعاء، قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المسَاحِي من جوف الليل ـ وفي رواية: من آخر الليل ـ ليلة الأربعاء.
نعم.. دفن و وضع في قبره عليه الصلاة والسلام، ورد عليه التراب، ودفن كما يدفن الإنسان بعدما صلى عليه الناس زرافات ووحداناً.
ذكر الشوكاني في نيل الأوطار: أن من صلى عليه صلى الله عليه وسلم يبلغون سبعة وثلاثين ألفاً من الرجال والنساء، من المهاجرين والأنصار، ما كان لهم إمام يصلي بهم، بل صلى كل إنسان منهم على حدة، وكان في الصف الأول أبو بكر وعمر، حفظ من دعائهما رضي الله عنهما أنهما قالا: [صلى الله وسلم عليك يا رسول الله، نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في الله حتى أتاك اليقين].
(التـــــركـــة)
وهكذا كانت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مات وما خلَّف درهماً ولا ديناراً، ولا عقاراً ولا قصوراً ولا مناصب، وإنما ذهب كما أتى، ذهب سليم اليد، أبيض الوجه، طاهر السريرة، ولكن خلَّف ديناً خالداً وخلَّف رسالة، مات الداعية ولكن ما ماتت الدعوة، مات الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن ما ماتت الرسالة، مات البشير النذير، ولكن ما ماتت البشارة والنذارة، ترك لنا تراثاً أيما تراث، قرآناً حكيماً (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت:42] وسنة طاهرة للمعصوم فيها صلاح العبد في الدنيا والآخرة.
وعادوا إلى تركته ولا تركة له.. فيا من جمع الأموال ولم يقدم ما ينفعه عند الواحد القهار! هذا خيرة خلق الله، وهذا صفوة عباد الله، ذهب والله ما تلوث منها بشيء، يمر عليه الشهر بعد الشهر ولا يوقد في بيته نار، ويمر عليه ثلاثة أيام وهو في جوعه صلى الله عليه وسلم، فالله المستعان..
كفاك عن كل قصر شاهق عمد *** بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيـدة *** نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم *** على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها *** عذب من الوحي أو عذب من الكلم
ذهب عليه الصلاة والسلام وبقي بيته من طين، وبقيت بعض الدراهم ليست له، أنفقت في الصدقات وفي سبيل الله، وأتى أبو بكر فقال لقرابته ولبناته صلى الله عليه وسلم لما طلبوه الميراث، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنا لا نورث، ما تركناه صدقة"
وعند أحمد في المسند: "إنا لا نورث ما تركنا صدقة" فما ترك صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولكن ترك هذا الدين، اجتماعنا بهذه الوجوه الطيبة النيرة حسنة من حسنات، وهذه المساجد والمنابر حسنة من حسنات رسالته، وهذه الدعوة الخالدة والرسالة القائمة فضل من فضل الله ثم من فضله صلى الله عليه وسلم.
نعم. مضى إلى الله صلى الله عليه وسلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون! وحسبنا الله على كل ما يصيبنا!
فإنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا أيها الناس: من أصيب بمصيبة فليتعز بي، فإني عزاء لكل مسلم} إي والله.
وهذا إخواني الأعزاء هو غاية هذا الجزء المبارك من هذه السلسلة
(أيها المبتلى... لست وحدك على الدرب)
وإذا أتتك من الأمور بلية فاذكر مصابك بالنبي محمد
إذا مات ابنك فاعلم أن ابنك لا يكون أحب في قلبك إن كنت مؤمناً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن مات أبوك أو أمك أو قريبك أو صفيك، فاعلم أنهم لا يعادلون ذرة في ميزان الحب مع حبه صلى الله عليه وسلم، تذكر أنه مات، وأنه صلى الله عليه وسلم عند ربه، يستشهده الله علينا هل بلغنا ما علينا؟ ويستشهده الله علينا هل سمعنا وأطعنا أم لا؟ (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء:41].
(دروس وعبر من قصة وفاة سيد البشر)
وهكذا عباد الله كانت قصة وفاة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقلنا بأننا ذكرناها في هذه السلسلة لغاية خاصة وهي كما ذكرنا من قبل.
إنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يا أيها الناس: من أصيب بمصيبة فليتعز بي، فإني عزاء لكل مسلم}.
ولكن قصة وفاته عليه الصلاة والسلام اشتملت على فوائد غزيرة جليلة نذكر منها:-
1- أن الموت نهاية كل حي، ولو كان أحد أولى بالبقاء لكان رسول الله عليه الصلاة والسلام.
2- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب لأمته حيهم وميتهم حتى وهو في نهاية حياته.
3- أنه عليه الصلاة والسلام كان يخشى على أمته أن يركنوا إلى الدنيا لذلك حذرهم من ذلك.
4- أن من يحب الله جل وعز يكون دائما في اشتياق إلى لقائه، و (من أحب لقاء الله أحب الله لقائه)
5- المؤمن لا يفتر أبدًا عن حمل هم الدعوة حتى ولو كان على في مرض الموت.
6- مرض المؤمن خير له، وتكفير لخطاياه، ومضاعفة لأجره.
7- أن مرض النبي عليه الصلاة والسلام لرفع درجته عليه الصلاة والسلام.
8- شديد حب الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام. وحرصهم على الاستفادة والاستزادة من تعاليمه ووصاياه عليه الصلاة والسلام.
9- أنه عليه الصلاة والسلام لا يتوانى ولا يتكاسل عن أداء واجبه الدعوي، فإذا سمحت له الفرصة ليقوم قام ولا يركن إلى الفراش.
10- حرص النبي عليه الصلاة والسلام على ترسيخ العقيدة، وتنبيه على مخالفة اليهود والنصارى، وعدم اتخاذ القبور مساجد وتشديده على ذلك.
11- حرصه صلى الله عليه وسلم على رد الأمانات إلى أهلها، وأداء حقوق العباد قبل ألا يكون درهم ولا دينار.
12- وصيته عليه الصلاة والسلام بالأنصار خيرا، لما لهم من فضل في الإسلام.
13- فقه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وشدة حبه للنبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك حب النبي صلى الله عليه وسلم له وبيانه لفضله.
14- وصيته عليه الصلاة والسلام بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة
عدد زيارات الموقع
2,626
ساحة النقاش