آخر الموضوعات | التاريخ | تحميل |
بسم الله الرحمن الرحيم
إخوتي الطلبة..
أسعدت مساءً وأهلاً بكم في زحمة هذه الدروس التلفزيونية التي تحوم حول النصوص الأدبية شرحاً وتطبيقاً , يأتي هذا الدرس ليجيب عن عدة أسئلة , كيف نشرح نصاً أدبياً, ولماذا نشرح الشعر ولانشرح النثر , وما طبيعة الشرح وما مراحله ؟ بل إن هذا الدرس يأتي ليقرر الأصول النظرية للشروح الأدبية بهدف أن تكون نبراساً لكم تهتدون بها وسياجاً يقيكم الشطط والزلل.
وقبل الدخول في الإجابة عن هذه الأسئلة أحب أن ألفت نظر الطلاب الذين يشرحون من دون فهم بطبيعة الشرح الأدبي , ومن دون أن يصدروا عن خطة محكمة يهتدون بها , احب أن ألفت نظر هؤلاء إلى أن سؤال الشرح يقيس في الطالب القدرة على فهمه أولاً والقدرة على تذوقه ثانياً ثم القدرة على التعبير الأدبي الذاتي عما فهمه وأحس به اكثر مما يقيس القدرة على تدبيج كلام خطابي ضبابي لا يتصل بالنصّ وشرح النص أعقد وأدق من أن يعيد الطالب قول الشاعر مع تبديل لبعض الكلمات وتعديل طفيف لبعض العبارات , إن هذا ليس من الشرح في شيء , بل هو اقرب إلى النسخ أو المسخ , ولستم في حاجة إلى شواهد من هذه الشروح انسجاماً مع المنطلق الإيجابي للدرس.
أعزائي الطلاب.. لماذا نشرح الشعر ولانشرح النثر؟
من الثابت أن النثر لا يشرح وإنما تحدد أفكاره الأساسية لأن صياغته هي الأصل في صياغة الكلام , وإذا أصررنا على شرحه فسوف ننساق إلى إعادة النص مرة ثانيه كما هو وللتأكد من هذه الحقيقة اشرحوا معي هذا القول النثري:
(ما ضاعت عَبرة كانت لصاحبها عِبرة ) فماذا أنتم فاعلون ؟
اغلب الظن أنكم ستقولون: ما ضاعت دمعة كانت لصاحبها عبرة.
ولكننا حينما نشرح بيتاً من الشعر ولاسيما من الشعر التقليدي نحسُّ أننا قمنا بعمل قيمّ يشبه حل مسألة في الرياضيات , ربما كان سر ذلك في أن طبيعة الشعر تختلف عن طبيعة النثر , فالشعر كما عرفه الأجداد هو كلام موزون حق في يخضع في صياغته إلى عنصر الموسيقى والروي فشوقي مثلاً أراد أن يقول إن البطل يوسف العظمة رجل آثر الموت عن أن يرى الغرباء يحتلون وطنه فكيف جاءت صياغة هذا المعنى شعراً:
هذا الذي اشتاق الكرى تحت الثرى كي لا يرى في جلق الأغرابا
لاشك أنكم لاحظتم الإيقاع الموسيقي في البيت , فعنصر الموسيقى هو أبرز ما في الشعر والموسيقى تقتضي تقديماً أو تأخيراً وحذفاً أو زيادة أو إيجازا أو إطناباً وقد يُضطر الشاعر إلى أن يختار كلمة تناسب القافية وفي القاموس ما هو أوضح منها.
والشعر فن أدبي يجعل من الكلمة صورة خيالية موحية , فهذا ابن الرومي أراد أن يصف مغنياً سيئ الصوت دميم الوجه متعرجف النفس فقدم لنا صوراً خيالية صورية وشكلية وحركية فقال:
عواء كلب على أوتار مندفـة
في قبح قرد وفي استكبار هامان
وتحسب العين فكيه إذا اختلفـا
عـنـد التـنـعـم فكي بغـل طـحـان
والخيال عنصر بارز في الشعر , والخيال يقتضي إيثار التصوير على التقرير والتشبيه على الإسناد والاستعارة على المستعار والكناية على الحقيقة والتلميح على التصريح والإشارة على العبارة والرمز على الإبانة والإيجاز على الإطناب.
أيها الطلاب الأكارم...
من خلال هذا السرد لخصائص الشعر تتضح لكم مهمة الشارح التي تتمثل في إعادة هذه الصياغة الاستثنائية الموسيقية إلى أصلها النثري , وفي العُبور من الصورة إلى المعنى ومن المعنى إلى الفكرة لذلك على الشارح أن يقدم المؤخر ويؤخر المقدم وأن يذكر المحذوف ويعلل المذكور ويجلو الغامض ويوضح المناسبة , وأن يصرح بما لّمح إليه الشاعر وأن يذكر مدلول الإشارة بالعبارة وأصل الرمز بالحقيقة وأن يوجز فيما أطنب ويطنب فيما أوجز وأن يملأ ثغرات المعنى ويقيم خلفية للمبنى , وإليكم هذا البيت الذي يجسد بعض هذه الحقائق.
يقول شوقي:
سلام من صبا بردى أرق دمع لا يكفكف يا دمشـق
لا حظوا أن كلمة يا دمشق مكانها في صدر الكلام , وكلمه أرق موقعها بعد كلمه سلام وكلمه صَبا تحتاج إلى توضيح وكلمة لا يكفكف كناية تحتاج إلى تفسير , وقد أغفل الشاعر معنى الإهداء ولم يفسر سبب الحزن والبكاء , لذلك على الشارح أن يعيد هذا البيت الشعري إلى أصله النثري فيقول: يا دمشق الحبيبة ويا دمشق الجريحة أهديك سلاماً أرق من نسيم بردى العليل , مشفوعاً بدموع غزيرة حزناً على ما أصابك من قصف وحشي.
طلابنا الأعزاء..
هذا جواب السؤال الأول لماذا نشرح الشعر ؟ وأما السؤال الثاني ما طبيعة الشعر وماذا يعني ؟
فإليكم جوابه:
أولاً: في الشعر معنى ظاهر جلي وفكرة مستترة خفية , فالمعنى الظاهر
تشف عنه الكلمات والتراكيب والصور , وأما الفكرة الرئيسية
فتحتاج إلى أعمال فكر.
يقول الجواهري:
نامي جياع الشعب نامي يـادرة بـيـن الـركـام
نامي فـإن لم تـشبعي من يقظـه فمــن الـمنام
نامي تريحي الحاكمين مـن اشـتباك والتــحام
المعنى الظاهري دعوة إلى النوم والاستسلام , ولكن فكرة الأبيات
الحقيقية دعوة إلى اليقظة والتمرد وإذا فهمناه على ظاهر معناه
فكأننا لم نفهم منه شيئاً.
عزيزي الطالب...
لكل بيت فكرة رئيسية ومعان تفصيلية , وما لم تهتد إلى فكرته الرئيسية فلن تستطيع أن تشرح معانية التفصيلية , والفكرة الرئيسية بمثابة الخيط الذي يجمع حبات العقد , فإذا أمسك به الطالب فقد امسك بكل حبات العقد , وإذا افلت من يده تناثرت حباته وخفيت عن نظر الطالب.
إذاً من طبيعة الشرح أن تذكر الفكرة الرئيسية والمعاني التفصيلية الغرض العام من البيت وجزئياته قصد الشاعر ووسائله خيط العقد وحباته.
والشيء الثاني:
في طبيعة الشرح أن يقف الطالب عند حدود المعنـى الذي نصّ عليه البيت وأراده الشاعر , فشرح البيت شيء وكتابة بيت تعبيري حول فكره البيت شيء آخر , إن اكثر الطلاب يجعلون من البيت منطلقاً ومنبراً لخطبة حماسية ذات أفكار لم ينصّ عليها البيت ولم يردها الشاعر خذوا بيت شوقي مثلاً:
دم الثـوار تعرفـه فرنسـا وتعلـم أنـه نـور وحــق
إن بعض الطلاب ما إن يجد كلمة فرنسا في هذا البيت حتى ينطلق وكأنه نابض أفلت من عقاله فيحدثنا عن الاستعمار وعن أعماله الوحشية وكيف أنه قتّل أبناءنا ونهب ثرواتنا , وكيف سوف نحطمه ونقضي عليه وكيف سنجعل أسطوله طعمة للأسماك وكيف سنحاربه في عقر داره وبقي أن يذكر أن كل تقصير نعانيه أثر من آثاره حتى الحفر التي تمتلئ بها طرقاتنا من تدبيره وكيده وصنع يديه.
طلابنا الأعزاء..
إن كل هذه المعاني لم يردها الشاعر ولم ينصّ عليها البيت ومهمة الشارح هي في إبراز المعنى الذي أراده الشاعر ونصّ عليه البيت من دون زيادة , من دون أن تزيد عليه أو تنقص منه ولكن لك أن توضح المعنى وتعمقه وتغنيه , لاحظوا كيف سأعمق المعنى وأغنية وافصله مع تقيدي بالحدود التي نصّ عليها البيت.
إن فرنسا لتعرف حق المعرفة قيمه الثوار لأنها صاحبة ثورة عريقة في التاريخ , إنها لتعرف أن هذه الدماء الذكية الطاهرة التي اهرقها المناضلون من أجل حرية وطنهم واستقلاله لن تضيع سدى بل ستكون نبراساً هادياً ومشعلاً وضاءً ينير للأجيال الصاعدة طريق تحررها وتقدمها كيف لا وقد بذلت من أجل قضية عادله وهل من قضية اعدل من أن يعيش المرء على ارض وطنه حراً كريماً.
إذن لابد من التقيد بنص البيت وقصد الشاعر من دون زيادة أو نقصان على أن يغني ويعمق ويفصل.
والشيء الثالث:
في طبيعة الشرح هو التعبير الذاتي والأدبي فالطالب بعد أن يفهم المعاني فهماً صحيحاً ودقيقاً وعميقاً ومحدوداً ينتقل إلى التعبير عن هذا الفهم , وهنا نقول له: ينبغي أن يكون التعبير ذاتياً أي بأسلوبك أنت لذلك فابتعد عن عبارات الشاعر كلياً وعن كلماته جزئياً لنأخذ مثلاً بيتاً من الشعر للأستاذ الشاعر سليمان العيسى يتحدث فيه عن شهداء تشرين وسأريكم كيف سأشرحه بأسلوب ذاتي أولاً ثم بأسلوب أدبي ثانياً.
ناداهم البرق فاجتازوه وانهمروا
عند الشهيد تلاقى الله والبشـر
إن هؤلاء الشهداء قد استجابوا لنداء الواجب فاندفعوا جميعاً نحو أرض المعركة لينالوا الشهادة التي يقدسها الناس ويرضى عنها رب الناس , ولكن هذا الشرح ينقصه الطابع الأدبي والجمال الأسلوبي فإذا أردنا تحسينه نقول:
بوركتم يا شهداءنا الأبرار , لقد لبيتم نداء الواجب ودفعتم ضريبة الدم فضحيتم بالغالي والرخيص والنفس والنفيس وعبرتم إلى أرض المعركة متسابقين إلى الشهادة الحقة التي تخلع على صاحبها ثياب المجد والفخار وتجعله يتقلب في رحمه ربه مع المؤمنين الأبرار.
طبيعة الشرح إذن تقتضي أن نصل إلى الفكرة الرئيسية وأن نبقى في حدود المعاني التي نصّ عليها البيت , وأن نعبر عن فهمنا بأسلوب ذاتي وأدبي.
والآن ننتقل إلى مراحل الشرح وهي:
أ - المرحلة التحليلية وفيها نقرأ الأبيات..
1- قراءة صحيحة وكـم مـن طالب ابتعد عن المعنى كلياً بـسـبـب
غلطة في قراءة كلمة مـن كلمات البيت , إن تغيّر حركة
الكلمـة الداخلية يتبعه تحول كبير في معناها فالبُرّ هو القمح
والبَرّ هي اليابسـة والبِـرّ الإحسـان , والخَلْـق: البينـة
والخُلُـق: الأخـلاق , والخَـلِـق: الثـوب المهترئ , وقل الشيء
نفسه في تغيير حركة الكلمة الأعرابية.
قال تعالى: ( إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءُ )
فإذا قرأناها إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ لفسد المعنى
ولتنزهَ عنه مقام الألوهية.
2 - فهم معاني الكلمات الغامضة وكثيراً ما يتركز معنى البيت كلّه
في كلمة واحدة , وعندها يتوقف فهم البيت على فهم هذه
الكلمة.
لاحظوا كلمه (الضلوع الغضة) في بيت عمر أبى ريشه:
أين في القدس ضلوع غضة لم تلامسها ذنابى عـقرب
ولا تنسوا يا طلابنا الأعزاء..
أن الكلمات الغامضة التي ترد في نصوص الامتحان كثيراً
ما تشرح في ذيلها.
3 - فهـم التـراكيب بدقة أي فهم العلاقات بين الكلمات ومعرفة
حدودها الدقيقة , فإذا قال لك أحدهم استبدلت التجارة بالوظيفة
فقد يتبادر إليك أنه ترك التجارة وآثر الوظيفة , وعندها تشك
في سلامة عقله , ولكنّ معنى التركيب الدقيق أنه ترك الوظيفة
وآثر التجارة والقاعدة أن الشيء المتروك يتأخر ويقترن بالباء
والآية الكريمة
﴿أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ﴾
(سورة البقرة)
4 - فهم الكنايات والمصطلحات إن وجدت فهذه تُفهم جملة لاتفصيلا.
خضرنا ذمة: نقضنا عهداً. قلب له ظهر المجن: أي صار له
عدواً.
5 - فهم الصور الأدبية , فقد يكون البيت كله صورة أدبية هي بمثابة
اللبوس الفني للمعنى الذي أراده الشاعر قال حافظ ابراهيم:
مادت الأرض بنا حين انتشت من دم القتلى حلالاً وحراماً
فالأرض ظلت تشرب من الدماء حتى ثملت وتمايلت يمنة ويسرة
والفكرة كثرة الدماء التي بذلها المناضلون.
6 - فهم الضمائر وردها إلى العائد الصحيح , ترك أحدهم وصية قال
فيهـا ( فلان له علي ألف درهـم ونصفه ) وقـد اختـلف فـي مقـدار الـوصيـة حـتى إن القضاء أحـال هـذه الوصية إلى أحـد علمـاء النحـو ليحـدد عـائـد الضميـر وعـندهـا يعـرف مـقـدار الوصيـة فـإذا عـاد الضميـر إلى الدرهـم كان مقـدار الوصيـة ألفاً ونصف الدرهـم وإذا عـاد الضميـر إلـى الألف كان مقـدار الوصيـة ألفاً وخمسمائة درهـم , وسأتـرك لكـم أن تحلّو هـذه المسألة النحوية الحسابية أو أن تسألوا عنهـا , وقصدي مـن هـذه القصة النحوية أن تعرفـوا قيمه معرفـة العائد في فهم المعنى.
7 - أن تعرف من المتكلم ومن المخاطب ومن الغائب وهذا قد تعرفـه
من التمهيد للأبيات فانتبه إليه.
والآن بعد أن تقرأ الأبيات قراءة صحيحة وبعد أن تفهم معاني الكلمات والتراكيب والكنايات والصور والضمائر تجد أن المعنى بدأ يتضح شيئاً فشيئاً وعندها ننتقل إلى المرحلة الثانية.
ب - المرحلة الكتابية..
بعد أن يتضح المعنى , حـدد يا طالبنا العزيـز الفكـرة الرئيسية ثـم
المعاني التفصيلية ثم الصور الأدبية ولفّ هذا كله في صياغة ذاتية
أدبية.
أيها الطلاب الأعزاء..
لا يذهب بكم الظن أن الأسئلة في الامتحان ستكون من مثل هذه الأبيات الدقيقة , كلا إنها أمثلة أتينا بها للتوضيح فقط , فأخذ القليل خير من ترك الكثير , وأما الأسئلة فإنها ستكون مدروسة بعناية وملائمة لمستوى الطالب المتوسط.
وإذا أردتم التفوق في شرح النصوص فعليكم بالإكثار من شرح النصوص , ولشرح بيت واحد أفضل من حفظ عشرة أبيات , وحفظ عشرة أبيات خير من قراءة عشرين وأن تقرأ خير من ألاّ تقرأ.
والأدب لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك , فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً.
أعزائي الطلاب..
هذا عن أصول شرح نص أدبي , أما كيف ندرس دراسة فنية أي كيف نناقش أفكاره وندرس عاطفته ونتلمس خياله ونقيم أسلوبه فهذا ما سأعالجه في درس قادم وأرجو ألا يكون بعيداً.
ساحة النقاش