"كلمة مضيئة في ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم" نُشر بجريدة عقيدتي يوم الثلاثاء 5.1.2015
مازلنا نطوف مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنظل مدى العمر طائفين، وسيظل المسلمون مادامت الحياة ينهلون من هذا النبع الصافي، والتوجيه المشرق، فجر الحياة ونهارها الدائم، باعث الأخلاق الحميدة، ومؤسس انطلاق الإنسان إلى آفاق الكرامة، ورفعة شأنه...لن تشبع ولن ترتوي الإنسانية إلا بالقرآن الذي أنزله المولى سبحانه وتعالى على نبيه المختار ليؤكد نبوته، وبتوجيهاته صلى الله عليه وسلم التي تثبت إعجازه البشري، ما إن علمها العقل الواعي، ووقف على ما فيها من إنسانيات عظيمة إلا آمن وتيقن من أنه صلى الله عليه وسلم معجزة بشرية قبل أن يكون نبياً مرسلاً.
حياته قبل البعثة نموذج فريد، ومثل عظيم في الخلق..أمانة وحديثاً، ورقياً وإنسانية مبهرة لا يلحق بها أحد من البشر..أطلق عليه معاصوره لقب الصادق الأمين فتأتيه الرسالة، فما ينطق عن الهوى، ولا يحيد عن الحق أو العدل، ولا يطلب لنفسه منصباً أو ميزة، تميزه عن أتباعه أنه يقول لهم أنا ابن إمرأة كانت تأكل القديد، ويهتف في قومه بصوت ندي، وصادق كالصبح المضيء "أيها الناس، إن ربكم واحد وإن آباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على أعجمي إلا بالتقوي..ألا هل بلغت؟، قالوا نعم ، قال اللهم فاشهد".
ينقل عن ربه سبحانه وتعالى "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء" سورة النساء الآية (1) ، وينقل –أيضاً- "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم الله عند أتقاكم" سورة الحجرات الآية (13)، مؤكداً ومثبتاً المساواه بين البشر، يذكرهم بأصلهم جميعاً، لا يفرق بين أحد منهم على أساس اللون أو العقيدة أو القبيلة أو المال، وإنما كلهم متساوون في الحقوق والواجبات، وكل على قدر إيمانه وطاعته ليسير في فلك الحياة يعمرها وينشر فيها الخير والسلام، ذلك إن التعارف الذي نص عليه القرآن لا يتحقق إلا بنفع الناس بعضهم لبعض، ولا يكون إلا بالمحبة والتعاون والسعي نحو رقي الإنسانية.
ساوى بين البشر جميعاً لا يلقون الله بأنسابهم، ولا بأموالهم، ولا بمراكزهم الدنيوية؛ إنما بعملهم الصالح حتى وإن كان ابن نبي، وقد خاطب نوح ربه مناجياً إن ابنه الذي لم يخضع لأمر الله يطلب له النجاة فيجيبه مالك الملك بأن الأخير ليس من أهله لأنه عمل غير صالح "ونادى نوح ربه فقال أن ابني من أهلي وأن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين*قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح" سورة هود الآية (45-46).
وخاطب الرسول أهله ومنهم فاطمة ابنته في حديث طويل...يا فاطمة بنت رسول الله :-"سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا."، ولا تفترق القيم التي نادي بها الرسول عن بعضها فقيمة الحرية لا يمكن تحقيقها إلا بتحقيق قيمة المساواة، وبتحقيق الحرية جعل الله سبحانه وتعالى مسؤلية محمد صلى الله عليه وسلم هي الإبلاغ وليدع حساب الناس إلى خالقهم "إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب" سورة الرعد الآية (40)، ويبلغ الرسول القائد عن رب العزة خطابه إليه "فذكر إنما أنت مذكر*لست عليهم بمسيطر" سورة الغاشية الآية (21-22)، ويحدثه القرآن –أيضاً– "نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد" سورة ق الآية (45).
يقود الرسول البشرية إلى الخير والسلام والحرية، ويضع أسسها ليسير عليها المسلمون من بعده انطلاقاً من قوله سبحانه وتعالى "وشاورهم في الأمر" سوررة آل عمران الآية (159)، ويصف القرآن المسلمين "وأمرهم شورى بينهم" وهو ما طبقه الخليفة الأول أبو بكر الصديق في خطبة الحكم قال "أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"، ويؤكد المسيرة ويدعمها سلوك الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين قال "يا أيها الناس من رأى منكم فيّ اعوجاجاً فليقومه، فقام إليه رجل وقال والله لوجدنا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا، فقال عمر الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يقوم اعوجاج عمر بسيفه".
تُقوّمه إمرأة من المسلمين حين طلب عدم المغالاة في مهور النساء قائلة :- "يعطينا الله وتمنعنا؟!، ليرد عمر متواضعاً مستجيباً أصابت إمرأة وأخطأ عمر"، وذلك حين استشهدت بقول الحق "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وأتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئاً أتاخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً" سورة النساء الآية (20).
ويقول الدكتور مصطفى بهجت في كتابه الرسالة المحمدية "هذا فيض من الأمثلة المشرقة التي كتبها الأوائل بحروف من نور في سفر التاريخ، فانظر إلى أي حد بلغت حرية الرأي بين المسلمين الأوائل الذين عزوا وسادوا وملكوا الدنيا بفضل ما غرس الإسلام فيهم من معاني الحرية التي تورث الشجاعة وتقتل الجبن في نفوس المحكومين." صفحة 44.
هذه كلمة مضيئة نقولها عن مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم التي غرست أركان المساواة بين البشر، وحفظت للناس حرية رأيهم نقولها في ذكرى مولده الشريف لعلنا ننهج نهجه ونسيره على دربه ونتخذه إماماً في الدنيا والآخرة.
ساحة النقاش