الليل .. وحليمة
قصة حسين المناصرة
توقفت إشارة منبه الساعة الجدارية على الحادية عشرة ليلا.. كان الصمت عالما رهيبا يلف المكان بطبقات من التوجس والترقب وانتظار اللحظة العصيبة المواتية بين طرفة عين وأخرى.. نباح الكلاب العابث الأهوج الصوت الوحيد الذي يخربش وجه السكون الممتد إلى قعر بئر رهيبة !!
كان الوادي الأصم خاليا من البيوت الحجرية .. عرائش من الطين.. بيوت شعر متناثرة هنا وهناك !! سماء داكنة باللون الأسود ، والنجوم لا تكاد تظهر لمعانها المعتاد في الليالي القليلة المقمرة !!
خربشات تصدر أحيانا عن عبث القطط ، أو حركات الماعز، أو "عنفصات" الحمير ، أو أية حركات أخرى غريبة في زمن مشبع بالحذر الذكوري ونعاس النساء ، ونوم الصغار!!
كان نهار اليوم من صباحه إلى مسائه شاقا ممتلئا بالترقب وبناء السدود والمراقب لمراقبة خارج المكان والتسلح ضد الأشياء الغريبة .. الكل مارس العمل ، رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا !! لقد تعودوا على الطوارئ .. المكان محاط بالرعب .. يستعدون نهارا .. ويراقبون ليلا بعيون حراس تعودوا على أن يكونوا محل ثقة الجميع بهم !!
العالم الآخر يموج بالخراب .. وهم هنا يحاولون قدر المستطاع أن يحاربوا الخوف والجوع .. والمجهول أولا وأخيرا !! هكذا رضعوا الحرص مع حليب أمهاتهم !! ولما كبروا ناموا مع زوجاتهم بعيون مفتوحة يقظة ، حتى انزرعوا في أرض غرائز البقاء بكل عنفوان وتجدد!!
إنهم يعملون نهارا .. ويراقبون ليلا ..
النهار ليس خطرا .. أربعة أشخاص يستطيعون مراقبة الجهات الأربع.. يرون على مد البصر كل الأشياء الغريبة !! لا خوف من النهار!!
الليل البهيم موطن الخوف والرعب .. يحتاج إلى حراسة مشددة .. مئات السنين والليل يحمل المجهول !! التوقع بالشر !! وحكمتهم"الليل بلا عيون،فكونوا حذرين"..
سنوات عجاف مرت على العجوز الذي يروي حكايات الحذر عن أجداده !! كان الليل الأعمى مصيبة تواجههم جميعا!! وفيه جندوا بدل الأربعة أربعين للحراسة ، وأحيانا ثمانين ، وفي الأوقات العصيبة مئة وعشرين .. وقد يصل العدد إلى مئتين وأربعين في الجهة الواحدة عندما يلبسهم الرعب!!
فقط يراقبون بعيون البوم والقطط البرية ..إنهم خفافيش ليل!!
المجهول يترصدهم .. فيحاربون رائحته في صوت البوم .. ونعيق الغراب.. وهبوب الزوابع ..
لم يحدث أن هوجموا يوما ما .. ومع هذا كانت مراقباتهم تزداد يقظة .. وتشتد حرصا.. قاعدتهم في ذلك :" من مأمنه يؤتى الحذر"!! الخوف يشتعل في رءوسهم.. الشعور بالأمان موطن الرعب الأول الذي يسكن الليل الأصم !!
النساء حذرات حتى الثمالة .. الأطفال يرضعون الحليب وعيونهم تنظر في المدى .. الرجال لم يتعودوا الانشغال بسخافات الحياة الآمنة .. هم مستفزون .. يتجولون .. يراقبون.. يخططون!! وإذا سمعوا بوما افترشوا قلقهم .. وإذا طار فوقهم غراب تلحفوا بالخوف.. وإن شاهدوا زوبعة، يخترق رأسها الفضاء، ظنوا أن الأرواح الشريرة تستعد لحربهم!!
صنعوا كل ما يحتاجون إليه من معدات الحرب!! تسلحوا بالعصي، الأدوات الحادة، الحجارة المسننة ، والخيول المجهزة .. وفي النهار تدربوا على كل شيء إلا الراحة المحذوفة من قواميسهم !!
أخيرا ،عندما توقف عقرب الساعة الجدارية على الحادية عشرة تقريبا بلا مقدمات، أدركوا بداية أن في الأمر خطرا كبيرا، إذ كيف يمكنهم أن يثقوا بالسلامة مع هذا التوقف العجيب؟!
منذ مئات السنين والعقرب يجرهم من حذر إلى حذر أكثر فاعلية .. ومع هذا التوقف يغدو الزمن حالة خوف رهيبة .. يناقشون المسألة ليل نهار.. كثر الخطباء.. زاد عدد المتقعرين بالمفردات !! توصلوا إلى أن عدوهم كان استمرار الزمن .. وها هو قد توقف أخيرا.. عليهم بالتالي أن يتوقفوا مثله !!
خيم عليهم النعاس .. استغرقوا في النوم .. اكتفوا بمراقبة العالم الآخر عن طريق الدشات الفضائية الجاثمة فوق سطوحهم .. وقعوا في بحر الدعة والبطر !! غاب الحذر.. غاب الخوف .. غابت المراقبة .. تساوى الليل بالنهار .. الأشياء كلها لم تعد ذات جدوى.. حظائر من البشر .. يثرثرون .. يأكلون .. يشربون .. يتغوطون ..!! عجول بشرية بدينة!! الآخر يطعمهم .. الآخر يحميهم .. الآخر يرقصهم .. الآخر ينتهكهم .. يمتص دماءهم .. والغريب أنهم مقتنعون بكونهم حضاريين!! عالم ثالث يموج بالخرافات والأكاذيب !! ليلهم رقص .. وموتهم بلا ثمن!!والعارفون منهم ، يقولون بحسرة غامرة : "ألا ليت حليمة تعود إلى عادتها القديمة"!!
ساحة النقاش