موقع الأستاذ عبد الفتاح أمير عباس أبو زيد

موقع لغوي أدبي تربوي قبمي



الدرس (20) : الحياء (2)

كتب: د. علي بن عمر بادحدح21 مايو, 2013 - 11 رجب 1434هـ

 

في حلقتنا الماضية وقفنا عدة وقفات مع معنى الحياء في اللغة والاصطلاح والبواعث والأسباب المؤدية إلى الحياء، وبعض المسائل لمتعلقة به.

وفي هذا المقال سيقتصر حديثنا على ذكر بعض الصور والأمثلة من حياء سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

والحياء الذي نعنيه هو الحياء المحمود الذي يدل على رقة في الطبع، ودماثة في الخُلق، وحسن معاملة للخَلق، وكمال مراقبة للخالق سبحانه وتعالى.

فالحياء يجمع هذه المعاني كلها، فهو من جهة: أمر متعلق بالنفس الشفافة الحساسة، والقلب الرقيق المتأثر.

ومن جهة أخرى: أعظم مادته وأجل أسبابه مراقبة الله سبحانه وتعالى، وتمام ذلك حسن معاملة المخلوقين ومراعاتهم، ويحكمه دماثة الخلق التي تدفع صاحبها إلى تجنب ما يذم به ويعاب.

وأما حياء المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو المثال الذي يُحتذى، والمَعلم الذي ترنوا إليه الأبصار، وتتعلق به القلوب.

ومن جوامع ما وصف به عليه الصلاة والسلام في هذا الشأن ما ورد في الحديث الصحيح عند الإمام البخاري ومسلم في صفة النبي عليه الصلاة والسلام: أنه كان أشد حياء من العذراء في خِدْرِها.

وهذا وصف دقيق يدل على المرتبة العالية والمكانة السامية في الحياء لرسولنا عليه الصلاة والسلام.

فالفتاة العذراء البكر التي لم تتزوج، ولم تختلط في الغالب بالناس هي النموذج الذي يذكره الناس للحياء، وإذا كانت في خدرها أي في مكانها ومخدعها الذي تخلو فيه بنفسها، فإنها في هذا المكان والموقف لو دخل عليها داخل، أو تحدث إليها متحدث يكون حياؤها أعظم ما يكون، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بذلك للدلالة على عظم حيائه عليه الصلاة والسلام.

ومن صور حيائه العامة ما ورد فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام: "كان إذا كره شيئاً عرف في وجهه" والناس إذا رأوا ما لا يحبون ربما تجدهم يغضبون ويخاصمون، وترتفع منهم الأصوات، ويكثر منهم اللغط، أو على أقل تقدير أنهم يؤنبون الفاعل أو المخطئ، أو في أدنى الدرجات أنهم يذكرون الخطأ ويبينونه ويفصحون عنه، ويكشفون عن استيائهم منه، أما حياء النبي صلى اللهعليه وسلم وهو في دائرة الحياء المحمود لا المذموم، فإنه كان إذا رأى شيئاً يكرهه وليس حراما ينبغي بيانه لم يتكلم بذلك ولم يصرح به، ولم يلق به في وجه صاحبه، وإنما كان حياؤه يمنعه من ذلك، ويرى أثر هذا في وجهه تغيراً مما يكرهه وما يراه مما لا يناسب، وهذا يجمع بين خصلتين حميدتين:

حياء من جهة ليس فيه فحش قول ولا فظاظة وقسوة في المعاملة.

ومن جهة أخرى فيه حسن وكمال في التربية الراقية السامية.

فإن الناس لا ينبغي أن يساسوا بالقوة والقهر، ولا أيضاً بدوام التذكير والتصريح، تقول له: افعل كذا. ولماذا فعلت كذا؟ وإنما التربية الراقية السامية ألا تكلم المتربين في كل شيء، أحياناً مجرد النظرة تغني، أحياناً مجرد الإعراض يكفي، أحياناً مجرد تغير الوجه يوصل الرسالة، وقد قال القائل: واللبيب بالإشارة يفهم.

وبعض الناس لا يفهم إلا بصريح العبارة وشديد القول، فهنا جمع النبي عليه الصلاة والسلام بين فضيلة الحياء ورفعة خلقه لم يتلفظ أو يصرح، مع كونه بتغير وجهه تبدو على قسمات وجهه عليه الصلاة والسلام إشارة تربوية لأصحابه الذين يرتكبون أمراً لا يحسن أولا يليق.

وهذا مثل آخر في حدث سجلته آيات القرآن الكريم -وهذا يقع مثله في حياتنا كثيرا- روى أنس رضي الله عنه هذه القصة فقال: بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم، فأرسلت على الطعام داعيا، فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون. فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه، فقلت: يا نبي الله، ما أجد أحدا أدعوه. قال: "ارفعوا طعامكم"، وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: "السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته" قالت: وعليك السلام ورحمة الله، كيف وجدت أهلك، بارك الله لك؟ فتقرى حجر نسائه كلهن، يقول لهن كما يقول لعائشة، ويقلن له كما قالت عائشة. ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رهط ثلاثة في البيت يتحدثون. وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء، فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة، فما أدري أخبرته أم أخبر أن القوم خرجوا؟ فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله، وأخرى خارجه، أرخى الستر بيني وبينه، وأنزلت آية الحجاب.

فهذا موقف نرى فيه حياء النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه نزل قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (الأحزاب: 53).

وهكذا سطرت الآيات القرآنية هذه القصة وأثبتت حياء النبي صلى الله عليه وسلم، وعلمت الأمة بالقرآن الكريم ومن الله سبحانه وتعالى كيف يراعون حق نبيهم، وليس ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام بل الإنسان ينبغي أن ينظر إلى مشاعر الناس ويراعيها، وأن يكون لماحا فطنا، بعض الناس قد تتحمحم حتى ينتبه، أحيانا تقوم وتخرج وتدخل عشر مرات وكأنه لا يراك، أحيانا تنظر في ساعتك وأنك تريد أن تخرج، هذا فيه قلة ذوق وقلة حياء وعدم وجود إحساس الذي ينبغي أن يكون فيه مراعاة للناس، وهذا كان من حياء النبي عليه الصلاة والسلام تنزلت به الآيات لأنه عليه الصلاة والسلام قد يتكرر هذا الفعل مرات ومرات، وهو لا يصرح به ولا يقوله، لكن نزلت الآيات حتى يتأدب المسلمون وينتبهوا إلى مراعاة ذلك على وجه الخصوص مع النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى وجه العموم في معاملاتهم حتى لا يثقلوا أو حتى لا يثقل بعضهم على بعض ويحرج بعضهم بعضا ويسيء بعضهم إلى بعض.

وقد ذكرت كتب الأدب من يسمى بـ"الطفيليين" وهم موجودون في واقعنا والطفيلي يدعو نفسه بغير دعوة، ويدخل إلى الناس من غير استئذان، فتجده دائما مع الناس يدخل وكذا، وهذا من عدم مراعاة الأدب والحياء، وبعضهم يلتصق بالناس وخاصة الوجهاء منهم سواءً كانوا من أهل العلم أو كانوا من أهل الجاه يحب دائما أن يُرى أنه معهم.

ومن ذلك أن الأعمش رحمه الله: كان دائما يضيق بهؤلاء الثقلاء الذين يأتون من غير موعد ومن غير طلب، ويطيلون المكث ويكثرون الحديث فيما لا فائدة فيه، رؤي مرة وهو يسير، وقد أحاط به اثنان من هؤلاء أدركوه، فقيل له: كيف الحال؟ قال: الروح في النزع، من شدة ما أبدى من التضايق من هذا الحال.

ومما ورد في ذات السياق أن زينب كانت زوجة لزيد بن حارثة رضي الله عنه وزيد هو مولى النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يعد ابنه بالتبني على ما كان عند أهل الجاهلية قبل الإسلام فهو ربيبه الذي كان معه، وكان مولاه فتزوج زينب بنت جحش وكانت العرب تعتبر المتبنى بمثابة الابن، فإذا تزوج امرأة لا يحل لأبيه بالتبني أن يتزوجها، وأراد الله عز وجل أن تبطل هذه العادة بحكم من الله سبحانه وتعالى، وأبلغ شيء أن يكون المطبق هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فجاء الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام أن يتزوج زينب بنت جحش وكان بينها وبين زيد عدم وفاق؛ لأن زيدا مولى وهي قرشية قريبة للنبي عليه الصلاة والسلام، فلم يستطع النبي عليه الصلاة والسلام أن يفصح لزيد بما جاء به الأمر من الله سبحانه وتعالى في شأن زواجه بها، وتنزلت الآيات تصف هذه الحالة في حياء النبي عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَك أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب: 37).

وهذا المعنى في الآية المشار إليه {وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} أي تستحيي من قولهم ليس الخشية هي الخوف، وإنما شدة الحياء أن يكون في قولهم ما لا يناسب، وما قد يكون مؤثرا في نفوس المسلمين عندما يتكلم الجاهليون والمشركون على النبي عليه الصلاة والسلام ويعيرونه بذلك، هو لا يلتفت لهم لكن يخشى من فرط حيائه ومراعاته أن يسمع الناس قولا غير لائق أو أن يؤثر ذلك في نفوس المسلمين، ولذلك قال الله عز وجل: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ}.

ثم كان عليه الصلاة والسلام إذا رأى أمرا ينكره ويحتاج إلى البيان ولا يكفي فيه تغير الوجه، فكان يجمع بين الحياء والأدب من جهة وحسن التوجيه والتربية من جهة أخرى، فإذا رأى أو سمع من أحد قولا أو فعلا غير صحيح يلزم له البيان، لم يكن يقول فلان فعل كذا أو فلان قال كذا، بل كان يقول (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا أو يقولون كذا وكذا) فهذا من شدة حيائه أنه لا يصرح بالفاعل، وربما لا يصرح بالصفة التي يعرف بها الفاعل، فهو من جهة حياء وحسن أدب ومن جهة أخرى تربية وتوجيه فيكفي فيها ذكر الفعل دون الإشارة إلى الشخص.

وأحيانا كان النبي عليه الصلاة والسلام يترك وقتا ما بين وقوع الفعل وما بين التنبيه عليه بحسب الحاجة حتى لا يلتفت النظر إلى ذلك.

مثال: حكم الوضوء في المذهب الحنبلي بعد أكل لحم الجزور أي لحم الإبل.

فبعد أن أكل الصحابة لحم الجزور سمع النبي عليه الصلاة والسلام من بعضهم ريحا، فحياء منه حتى لا ينبه قال: (من أكل لحم جزور فليتوضأ) فبدلا من أن يعين من فعل ذلك قال لهم: (من أكل لحم جزور فليتوضأ) وهذا من حسن التربية والتوجيه والتعليم مع الحفاظ على الحياء وحسن الأدب.

ونختم بحيائه من ربه عز وجل، كما صرح بذلك لفظا في الحديث الذي بمجموع رواياته يبلغ درجة التواتر في قصة الإسراء والمعراج: لما افترض الله سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم الصلاة، ففي نزوله لقيه موسى قال: "ما فرض ربك على أمتك؟ قال: الصلاة، قال: كم صلاة؟ قال: خمسين، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف.."، فرجع فجعلها الله عز وجل خمسة وأربعين ثم رجع عدة مرات، حتى قال في آخر مرة: "استحييت من ربي" أي: من كثرة ما أسأله، وهذا أيضا من الحياء العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا شفقته وحدبه على أمته لكان استحياؤه أبلغ، وإنما كان قد أخر أو جاء بما هو أعظم من استحيائه مراعاة للتخفيف على أمته، وحرصا على أن يكون التشريع هو الذي يتوافق مع قدرتهم وطاقتهم.

ولعلنا ونحن نذكر هذا الحياء كما قلنا ننبه في الختام على أن حياءه عليه الصلاة والسلام لم يكن يمنعه أن يقول الحق إذا تعين قوله، ولا أن ينكر المنكر إذا تعين إنكاره، ولا أن يبين العلم إذا تعين بيانه كما مر بنا في المسائل التي قدمنا بها عندما جاءت امرأة من الأنصار وسألت يا رسول الله هل على المرأة من غسل إذا هي رأت الماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم إذا رأت الماء) فغطت أم سلمة وجهها -حياء من هذا السؤال- وقالت: يا رسول الله، أو تحتلم المرأة؟ قال: (نعم تربت يمينك فبم يشبهها ولدها؟) فأجاب النبي؛ لأن هذا موضع بيان وسؤال يترتب عليه عمل وتترتب عليه أحكام وطهارة وصلاة وعبادات وإن كان كذلك على مقام الحياء.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتقم لنفسه لكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه قائمة، وهذا توازن وتكامل في شخصيته عليه الصلاة والسلام وفي شمائله، فليس الحياء جبنا، وليس الحياء تركا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس الحياء تعظيما للخلق على أمر الخالق سبحانه وتعالى، ولكنه ذلك الخلق الرفيع الذي ذكرنا أمثلته في حياة النبي عليه الصلاة والسلام وشمائله.

 

amer123123

اللهم احفظ المسلمين من شر وسوء المنافقين والخونة والعملاء والكافرين يارب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 98 مشاهدة
نشرت فى 20 يونيو 2013 بواسطة amer123123

ساحة النقاش

عبد الفتاح أمير عباس أبوذيد

amer123123
موقع لغوي تربوي وأدبي وقيمي الرؤية والرسالة والأهداف: رؤيتنا: الرؤية : الارتقاء بالمنظومة التعليمية والتربوية بما يؤسس لجيل مبدع منتمٍ لوطنه معتزاً بلغته فخوراً بدينه رسالتنا: السعي لتقديم خدمات تربوية وتعليمية ذات جودة عالية بتوظيف التقنية الحديثة ضمن بيئة جاذبة ومحفزة ودافعة للإبداع الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها · إعداد »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

14,419,458