عبرة الهجرة
إنَّ أخلاق النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وسَجَاياه التي لا تشتمل على مثلها نفس بَشَريَّة ما يغنيه عن خارقة تأتيه منَ الأرض أو السَّمَاء، أو الماء، أو الهواء.
إنَّ ما كان يَبهر العرب مِن معجزات علمه، وحِلْمه، وصَبْره، واحتماله، وتَوَاضعه، وإِيثاره، وصِدْقه، وإِخْلاصه - أكثر ممَّا كان يبهرهم مِن معجزات تسبيح الحَصَى وانشقاق القَمَر، ومَشْي الشَّجر، ولين الحجر؛ وذلك لأنَّه ما كان يَريبهم في الأولى ما كان يريبهم في الأخرى مِنَ الشّبَه بينها وبين عرَافَة العَرَّافينَ، وكَهَانَة الكَهَنَة، وسِحْر السَّحَرَة، فَلَولا صفاته النَّفسيَّة، وغرائزه، وكَمَالاته ما نَهَضَت له الخَوَارق بكل ما يريده، ولا تركت له المعجزات في نفوس العَرَب ذلك الأثر الذي تَرَكَته؛ ذلك هو معنى قوله - تعالى - : {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
كان - صَلَّى الله عَلَيه وَسَلَّم - شُجاع القَلْب، فلم يهب أن يدعوَ إلى التَّوحيد قومًا مُشركينَ يعلم أنَّهم غِلاظ جفاة، شَرسون، متنمِّرون، يغضبون لدينهم غضبَهم لأعراضهم، ويُحبُّون آلِهَتهم حبَّهم لأبنائهم. كان على ثقةٍ من نَجاح دَعْوَته، فكان يقول لقُريش - أشدَّ ما كانوا هزءًا به وسخرية -: ((يا مَعشَر قريش: والله لا يأتي عليكم غيْر قليل حتَّى تعرفوا ما تنكرونَ، وتُحبُّوا ما أنتم له كارهونَ)).
كان حليمًا سَمح الأخلاق؛ فلم يُزْعِجه أنْ كان قومه يؤذونه، ويزدرونه، ويشعثون[1] منه، ويضعون التُّراب على رأسه، ويُلْقُونَ على ظهره أمعاء الشَّاة، وسلى[2] الجَزور، وهو في صلاته؛ بل كان يقول: ((اللهُمَّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلَمونَ)).
كان واسعَ الأمل، كبير الهمَّة، صلب النَّفس، لبث في قومه ثلاث عشرة سنة؛ يدعو إلى الله فلا يلبي دعوته إلاَّ الرَّجل بعد الرَّجل، فلم يبلغ المَلَل من نفسه، ولم يخلص اليأس إلى قلبه، فكان يقول: ((والله لو وَضَعوا الشَّمس في يَميني، والقمرَ في شِمالي، على أن أتركَ هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك دونه فيه ما تركته)).
وما زالَ هذا شأنه حتَّى عَلمَ أنَّ مَكَّة لن تكونَ مبعث الدَّعوة، ولا مطلع تلك الشمس المشرقَة، فهَاجَرَ إلى المدينة؛ فانتَقَلَ الإسلام بانتقاله منَ السُّكون إلى الحَرَكَة، ومن طَور الخفاء إلى طَور الظُّهور؛ لذلك كانت الهجرة مبدأ تاريخ الإسلام؛ لأنَّها أكبر مظهر من مَظَاهره.
لقد لَقيَ - صلَّى الله عليه وسَلَّم - في هجرته عناءً كثيرًا، وَمَشَقَّةً عظمى؛ فإن قومه كانوا يكرهون مهاجرته لا ضِنًّا به؛ بلْ مَخَافة أن يَجدَ في دار هِجْرته منَ الأعوان والأنصار ما لم يَجِد بينهم، كأنَّما يشعرون بأنَّه طَالب حق، وأنَّ طالب الحق لا بدَّ أن يجدَ بين المحقينَ أعوانًا وأنصارًا، فوَضَعوا عليه العيون والجواسيس؛ فخَرَجَ من بينهم ليلة الهجرة متَنَكِّرًا بعد ما ترك في فراشه ابن عمه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عبثًا بهم، وتضليلاً لهم عنِ اللحاق به.
ومشى هو وصاحبه أبو بكر - رضي الله عنه - يَتَسَلَّقان الصخور، وَيَتَسَرَّبان في الأغوار والكهوف، ويلوذان بأكناف الشعاب والهِضاب حتَّى انقَطَعَ عنهما، وتَمَّ لهما ما أرادَ بفَضل الصَّبر والثَّبات على الحق.
إنَّ حياة النَّبي - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم - أعظم مثال يجب أن يحتذيَه المسلمونَ للوصول إلى التَّخَلُّق بأشرف الأخلاق، والتَّحَلِّي بأكرم الخصال، وأحسن مدرسة يجب أن يَتَعَلَّموا فيها كيف يكون الصِّدق في القول، والإخلاص في العمل، والثَّبات على الرَّأي - وسيلة إلى النَّجاح، وكيف يكون الجِهاد في سبيل الحق سببًا في عُلُوِّه على الباطل. لا حاجَةَ لنا بتاريخ حياة فلاسفة اليونان، وحكماء الرُّومان، وعلماء الإفرنج؛ فلَدَينَا في تاريخنا حياة شريفة مملوءةٌ بالجد والعمل، والبر والثَّبات، والحب والرَّحمة، والحكمة والسِّياسة، والشَّرَف الحقيقي، والإنسانيَّة الكاملة، وهي حياة نَبينا - صلى الله عليه وسلم - وحسبنا بها وكَفَى.
[1] يقال شعث فلان من فلان: تنقصه. [2] السلى للدواب بمنزلة المشيمة للإنسان.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/2825/#ixzz2TYYR7S9X
- دروس من الهجرة النبويَّة
- الهجرة النبويَّة
- من وحي الهجرة
- عاشوراء والهجرة النبوية
- هجرة أمة
- الهجرة النبوية الشريفة: انتصار الخير على الشر
- الهجرة حركة رائدة
- المعاني الحقيقية للهجرة
- تأريخنا الهجري
- دروس وعبر من هجرة خير البشر
- الهجرة وعبقرية الحل
- عبر من الهجرة النبوية
- الخلال النبوية (8)
- إذا ولى من الإنسان عام (قصيدة)
- التخطيط السليم وتحديد الهدف
- حدث الهجرة ومشروع النهضة
- الهجرة المحمدية حدث غير وجه التاريخ (1)
- الهجرة ذكريات وعبر
- دروس من الهجرة النبوية
- الهجرة دروس وعبر سلوك وأخلاق (1)
- موت المهاجر إلى ربه
- قبس من الهجرة النبوية
- الهجرة دروس وعبر، سلوك وأخلاق (2)
- فقه الهجرة الكبرى (1)
- هل أتاك نبأ الهجرة؟
- أسباب ونتائج الهجرة النبوية
- إرهاصات ربانية قبل الهجرة النبوية
- ماذا يعرف المسلمون حقًّا عن الهجرة؟
- جنود على طريق الهجرة
- نحن والعام الهجري الجديد
- وهاجر رسول الله "صلى الله عليه وسلم"
- من معاني الهجرة
- سبعة من الدروس والعبر من هجرة سيد البشر
- الهجرة: دروس وعبر
- قبس من الهجرة النبوية (عرض تقديمي) أ. أحمد مصطفى عبدالحليم
- الهجرة
- الهجرة
- الهجرة والتغيير
- هجرة في سبيل الله
- دعوة للهجرة في ذكرى الهجرة
- الهجرة النبوية: العقيدة فوق الوطن
- ملحمة الهجرة
- للمبتعث الهجرة لله والهجرة المضادة لها
- السنة الأولى من الهجرة .. الحدث الأول
- من وحي الهجرة
- الهجرة تضحية وثورة (خطبة)
- بعض العبر من هجرة الرسول
- في دار الهجرة (قصة)
- صوت الهجرة
- القرآن بعد الهجرة
- لمحات من العبر في هجرة سيد البشر
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/culture/0/2825/#ixzz2TYYk4ABw
ساحة النقاش