أن تنشئ إنساناً جدياً فعالاً, فهذه قمة العطاء في التربية . والمجتمع لا يرتقي ولا يمكن أن يتطور إلاَ بأبنائه المسؤولين عن ذاتهم أولاً, ومن ثم عن المجتمع الذي يشكلون هم نواته الأولى.
وبما أن الإنسان هو بحد ذاته قيمة القيم, فهذا يدفعنا كمربين وآباء إلى أن نجعل من أطفالنا- نساء الغد الآتي ورجاله- نجعل منهم أناساً جديين, فعَالين بكل ما تحمله هذه الكلمة من مسؤولية.
وذلك بتدريبهم منذ نعومة أظفارهم على تحمل المسؤولية الذاتية أولاً, ثم المسؤولية الأسرية والاجتماعية, بحيث
- ندع الطفل ينام في سريره منفرداً, ليشعر بالاستقلالية عن الأم.
- وننظم له فترات نومه وطعامه
- وأن لا نستنفر جهودنا نحوه كلما صرخ حتى لا يشعر بأن كل ما يطلبه سيُلبى, لأن ذلك يجعله يعتاد على الاتكالية خصوصاً وأن الطفل في المراحل العمرية الأولى يرغب أن يشغل من هم حوله, وذلك لإثبات موجود يته.
ونخطئ عندما نظن أن الطفل صغير لا يفهم, فالرضيع منذ اللحظات الأولى لولادته يتلمس بالفطرة آلية اهتمام الأهل به, ويستغل تلك الآلية ليقتنص الاهتمام المستمر به, وليُعطى ما يريد بأية وسيلة (البكاء)
فعندما نقوم نحوه بكل متطلباته الأساسية من طعام ونظافة ولعب, ونحس بأنه لم يعد بحاجة إلى شيء سوى اللعب أو النوم علينا أن نتركه لأنه لم يعد بحاجتنا, خصوصاً وأن الطفل يحاول أن يحتفظ بحضن أمه واهتمامها فترات أطول, فيلجأ للبكاء كي يبقى معها. وهذا الخطأ بعينه إذا ما انصاعت الأم لرغبته تلك, فهي عندما تتجاهله سيركن إلى عدم جدوى صراخه وبالتالي يهدأ.
وإذا كانت تغذيته بواسطة (الزجاجة) يمكن أن تركه يعتمد على يديه في إمساكها في مراحل عمرية متقدمة, ثم يضعها في مكان مخصص بعد الانتهاء منها, وفي مرحلة لاحقة نجعله ينظفها بالماء, كي يحس بمسؤوليته عن أشيائه الخاصة به- وإن كنا سننظفها جيداً بعده- وهكذا في بقية أموره كترتيب ثيابه وسريره, ومحاولة تنظيف وجهه ويديه, وارتداء بعض ملابسه, ومن ثم عندما يتمكن من إمساك الملعقة واستخدامها جيداً, نحاول أن نتركه يأكل بنفسه فهذا يرضي الطفل كثيراً لإحساسه بأنه مماثل لمن هم أكبر منه, وليعتاد آداب المائدة, فيشبع أكثر.
كل هذه الأمور إن اعتاد على تحمل مسؤولياتها منذ الصغر, كان أفضل له وللأم, وكلما اتبعت الأم نظاماً إيجابياً ملوناً بالحب والدفء, ومعطراً بالحنان والثقة, كان الطفل أكثر انضباطاً والتزاماً. وهكذا بالتدريج في كل المراحل العمرية اللاحقة, واحتياجاتها الخاصة بها, تناسباً مع قدرة الطفل على ذلك, مع إبقاء هامش صغير لحريته في رفض أو قبول تلك المهام, ولكن مع الإصرار على تنفيذها, وجعل الأكبر منه سناً يساعده في بعضها.
تأتي لا حقاً مسؤولية الدراسة, هنا على الطفل أن يعتاد على أن الدراسة واجب عليه وحده, وأن الدراسة من أجل الدراسة ولا لشيء آخر(كإرضاء الوالدين, أو الحصول على علامات عالية) فمتى اعتاد الطفل ذلك كان تقبله للعلم, وتقديره للمعرفة أفضل وأرقى, وبأنها- الدراسة- مهمة تخصه وحده مع توجيهنا وإشرافنا في النهاية على ما قام به من واجبات مدرسية.
كما يجب ألاَ نقدم له المغريات المادية كي يدرس وينال علامة مرتفعة, مثال (ادرس كي أحضر لك هدية, أو أعطيك نقوداً) فهذا غير مقبول, ويعود الطفل على أن الدراسة مشروطة بالمكافآت وغيرها, وبالتالي يقصر في دروسه إن هو فقد أياً منها, كما أنه يعتاد على أن كل عمل يقوم به, يجب أن ينال عليه مقابلاً مادياً, وهذا يقلص إحساسه بالمسؤولية تجاه واجباته الذاتية والعامة. لذا يجب أن يكون تشجيعنا له معنوياً تحريضياً على أهمية واحترام العلم والمتعلمين.
إضافة إلى أمر آخر وهام يجب أن نقوم به, وهو إطلاعه على حقيقة الأوضاع المالية للأسرة, وأن نضعه أمام الحقيقة , والمشاركة عند وضع برنامج الأسرة الاقتصادي للبيت, فيعتاد الاتزان في المصروف, وألاَ يطلب إلاَ ما هو بحاجة إليه, حتى وإن كان الوضع المادي يسمح بذلك. ولا أعتقد أن بعض الأهل يقصرون مع أبنائهم عندما يمون لديهم الفائض, حتى وإن وُجد هذا الفائض فمن الأجدى أن يعتاد الطفل على عدم الإسراف والتبذير, بل أن يكون هناك نظاماً صحيحاً في التعامل المادي, لأن بعض الأهل يريدون تعويض أبنائهم ما نقصهم وهم أطفال, فلا يجدون وسيلة غير التعويض المادي الخاطئ.
أيضاً على الأهل تعليم الطفل على اعتياد وحب العمل منذ الصغر, وأن العلم لا ينفي العمل, بل يغنيه بالأسس الصحيحة, كما أن العمل يساهم في استمرارية التعليم والعلم, ويجعله أكثر جدوىً وإيجابية.
فباستطاعته أن يمارس بداية المساعدة في الأعمال المنزلية, كإجراء الإصلاحات البسيطة كي يشعر بمسؤوليته تجاه أسرته وبيته. وهنا أود أن أُشير إلى نقطة هامة جداً, وهي عدم التمييز بين الفتاة والولد في الأعمال المنزلية, فيكون هناك عمل أنثوي وعمل ذكوري, لأن هذا التقسيم أوجده المجتمع لا الطبيعة الإنسانية الفيزيولوجية والتكوينية, وهذا ما يجعل الأنثى تستكين لكل ما هو بسيط وهادئ وضعيف, في الوقت الذي نرفع فيه شعار المساواة أو التكامل بين الجنسين.
أيضاً لا مانع من عمل الابن عندما يبلغ من العمر مرحلة تؤهله للعمل في العطلة الصيفية, عندما نجد الشخص والمكان والعمل المناسب, ولمن لا بهدف الكسب المادي, بل بهدف اعتياده على المسؤولية وقدسية العمل من جهة, وأهمية استغلال الوقت بشكل مفيد من جهة ثانية.
طبعاً إلى جانب تنمية بعض المواهب والهوايات لديه, والقيام ببعض برامج التقوية لبعض المواد الدرسية, بحيث لا تكون العطلة الصيفية فقط لإضاعة الوقت وهدره كيفما اتفق, أو لقضائها في الأزقة والمكوث الطويل أمام التلفاز وغيره. مما تقدم نستطيع أن نجعل من أبنائنا أُناساً متميزين, قادرين على مواجهة الحياة بكل جوانبها ومفاجآتها, لأننا نكون قد وضعناهم ومنذ الطفولة أمام مسؤولياتهم
ساحة النقاش