<!--[if !mso]> <style> v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} </style> <![endif]--><!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

      على جمال الدين ناصف

        بورسعيد – مصر

 

يكتب :

 

صلاحية الحكم للحاكم و المحكوم

 

 

      ليس بخفى عن أحد أن الشرق قد عانى محنة من أشد أنواع المحن ،  كان سببها أنه بدأ يتحمل عبْ نفسه ،  بعد أن رحل عنه الإحتلال ،  بعدما كان يحمله عنه المحتل ،  فكان المحتل يصرف أمور الأمة كما يرى ،  فيحرم ما يشاء و يحل ما يشاء ، و يعز من يشاء ، و يذل من يشاء ،  فإذا إستعان ببعض أفراد الأمة فبأيديهم لا بعقولهم ،  و قد يستعين بعقولهم أيضا ولكن على شرط أن تكون فى خدمة عقله ،  و فى الإتجاه الذى يرسمه قلمه ،  أمسك بيده المال و هو عصب الأمة ،  ينفق منه كما يشاء فى الوجوه التى تخدم سلطانه ،  و يبخل كما يشاء فيما يعارض منهاجه ،  فهو شحيح كل الشح على التعليم و بخاصه العالى منه ،  و على الجيش و ما إليه ،  و هو سخى فيما يصلح الأرض و يدر الثروة ،  و على كل حال لم يقف من الأمة موقف المعلم النزيه يؤهل تلميذه ليكون رجلا يوما ما ،  و يمرنه على أن يستقل بنفسه شيئاً فشيئاً ،  إنما وقف منه موقف السيد من عبده يسخره و له الغله ،  و يطعمة بما يسد رمقه ليقوى على العمل له . 

 

       ثم كان أن جاهد الشرق جهادا شاقا طويلا جعل حكم الأجنبى له شاقاً عسيراً ،  و ساعدت الأحداث الخارجية وما فيها من قلق و إضطراب على أن يغير المحتل سياسته و يحمٌل الأمة أكبر عبئها ،  و يطلق لها اليد فى التصرف فى أكثر شؤونها .  فأصبحت الأيدى التى كانت تعمل بعقول غيرها غير كافية ،  و اشتدت الحاجة إلى العقول المفكرة ،  و أساليب الحكم العادلة الحازمة ،  فإذا بالشرق أمام مدرس يلقى لأول مرة درسه ، أو قاض يجلس على منصة القضاء أول عهده ،  حتى الذين تولوا الحكم فى عهد الاحتلال و الحكم بعد الاحتلال يشعرون بالفرق بين الحكمين ،  و أختلاف الصعوبة فى العهدين ،  فقد كانوا فى عهد الاحتلال أيديا مسخرة ،  و هم فى عهد الاستقلال عقول مدبرة .

 

      و الأحرى بنا أن نعرف أن أول درس يجب أن يتعلمه الشرق هو تضحية الحاكم ،  ونعنى بذلك أن يضحى شهواته فى سبيل تحقيق العدل الدقيق ،  فلا  تستهوية شهوة المال ،  ولا شهوة الجاه ، ولا شهوة المنصب فتصرفه عن إحقاق الحق و إبطال الباطل .  و بطبيعة الحال أن الشعب لا يرضيه من الحاكم فى عهد الاستقلال ما كان يرضيه فى عهد الاحتلال ،  فقد كان فى عهد الاحتلال يصبر على الظلم كارها بحكم القوة ،  فلما رأى أن حكومته منه ،  و أنها تستمد قوتها من قوته ، لم يرض عن ظلم ، بل هو يشتط فى طلبه فلا يرضى عن عدل مشوب بظلم ،  إنما يريد عدلا خالصا ،  و يتطلب منها المثل الأعلى فى العدالة و إلا لا يمنحها رضاه .

 

      ثم هو لا يرضى بتحقيق العدل السلبى وحده ، مثل عدم الترقية لصلة أو قرابة ،  و عدم الظلم فى توزيع مياة الرى مثلا على القرى ،  و نحو ذلك من تصرفات ، إنما يطالب بتحقيق العدل الإيجابى أيضا ، مثل إصلاح نظم التعليم و نظم المال و نظم الصحه و نظم الشؤون الاجتماعية ، و النظم الاقتصادية ، فإذا قصر الحاكم فى ذلك مل المحكوم و سئم ، و شكا من أن العهد الجديد لم يفترق عن العهد القديم ، إذ لم تتحقق آماله ،  و لم يظفر بما كان يرجو من سعادة و أمان .

 

     و جدير بنا و من الإنصاف أن نقول إن تبعة صلاحية الحكم و عدمه لا تعود إلى الحاكم وحده ،  بل إن جزءاً كبيراً يحمله الشعب المحكوم نفسه ، فالحكم فعل و انفعال مستمران بين الحاكم و المحكوم ،  و النتيجة التى نراها من تقدم الأمة أو تأخرها هى نتيجتهما معاً لا نتيجة الحاكم وحده .

 

      و لعل الأثر الذى يقول : "  كما تكونوا يولى عليكم "  ليس قانوناً للقدر ، بل هو قانون طبيعى . فحالة المحكوم تشكل – لا محالة – بالشكل الذى يتفق وحالته .  وقد علمنا التاريخ أن عسف الحاكم لا يتم و لا ينجح إلا إذا سبقه استنامة المحكوم و ضعف إحساسه،  وصلاحية الحاكم مسبوقه دائما بتنبه المحكوم و حسن تقديره للعداله و الظلم .

 

    بل إن أساليب الحكم و نظريات الحكومات لم تقدم على مر الزمان تقدم الشعوب فى تقدير العدل و الظلم ،  فنظم الحكم التى وضعها اليونان و الرومان -  و على رأسهم أفلاطون فى جمهوريته و أرسطو فى كتابه السياسة -  لم تتقدم كثيرا فى عهدنا الحاضر ،  و لكن شعوب اليوم – فى فهم الحكم و مدى سلطة الحاكم و إبائهم أن يتجاوز حده -  أرقى بكثير فى ذلك من شعوب أمس الدابر .  لقد كان الحاكم يستطيع أن يحكم -  فى سهولة و يسر إلى عهد طويل -  شعبه على رغم أنفه بسلطانه و جبروته ، ثم هو يتحمل أعباء الحكم على كتفه وحده ،  أما اليوم فلا ستطيع حاكم مهما أوتى من العقل و القوة أن يحكم إلا برضا شعبه و بمعونته و بمشاركته إياه فى حمل العبء ،  و إن وجدت حالات تخالف ذلك فحالات شاذة لا يسمح النظام الاجتماعى ببقائها طويلا .

 

      بل تبين فساد رأى أفلاطون و أرسطو و أمثالهما فى أن هناك طبقة خاصة يجب أن تحكم ، و أنها و حدها الصالحه للحكم ،  و أن من عداها غير صالح إلا لأن يُحكم ،  و تبين أن الحاكم الحق للشعب هو الشعب نفسه ،  و إنما يركز آراءه فى الحكم فى أشخاص لأن الناس اعتادوا تجسيد المعانى و الرمز إليها بحسوسات تقريباً لعقولهم و تبسيطاً لأفكارهم ،  ولا ينجح حاكم ولا مصلح إلا إذا مثل رأى الناس أو على الأقل رأى طائقة صالحة منهم ،  فلو أتى مصلح  بما لا يتهيأ له فريق من الناس لعد مجنوناً ،  بل إن الشعب أو الطائقة منه هى التى تخلق حاكمها و تخلق مصلحها ،  إذ هو ليس إلا مبلوراً لأفكارهم و مركزاً لآرائهم .  وليس الحاكم أو المصلح جذر الشجرة ولكن زهرتها ،  إنما الجذور و الساق و الأوراق هى الشعب نفسه . 

 

      و من الواضح أن الشرق يميل إلى أن يحكم حكما ديمقراطيا ،  و له الحق فى ذلك ، لأنه قد جرب أنواعا من الحكم الاستبدادى على أنواعه المختلفه فكانت مميتة لمشاعره ،  عائقة لتقدمه ،  و كان الحكام المستبدون ينعمون بكل صنوف الترف و النعيم على حساب بؤس الشعب و فقره .   و على الرغم من الميل إلى الديموقراطية ،  لأنها على ما بها من عيوب لا تزال أرقى أنواع الحكم و أبقاه ،  و حكم الاستبداد إن رضيته بعض الأمم حيناً ، أو فرض عليها فرضاً حينا ،  أو ارتكن على بعض الظروف حيناً ،  فليس هو الحكم الصالح للبقاء أبدا.

 

        هذا و قد انهار الاستبداد فى مظاهره المختلفة ،  و حلت محلة الديموقراطية بأشكالها المختلفة .  انهار استبداد رجال الدين بعد أن سيطروا على الشعوب أزماناًُ طويلة لقى فيها الناس من عنتهم ما كرُه إليهم الحياة .  فقد انهار استبداد الأب بأسرته ،  فلم يعد ذلك الأب الذى لا إرادة فى البيت بجانب إرادته ،  ولا الأب الذى كلمته حكم ،  طاعته غُنم ، و حل محله أب هين لين ، يأمر حيناً فيطاع ، و يؤمر حيناً فيطيع .  و بذلك قد تغيرت الغايات للسلطات ، فأصبحت الغاية من الحكومة لا أن تظهر بمظهر الآمر الناهى ،  و لكن أن تحقق العدالة و الحرية للناس حتى للضعفاء ،  و أصبحت الغاية من الأب لا أن ينعم بسلطانه ،  و إنما الغرض منه و من الأسرة كلها إيجاد جو صالح لنمو الطفل وتربيته و رقيه .   و ليس الغرض من المعلم أن ينفذ إرادته بالعصا ،  و إنما الغرض منه و من الناظر و المدرسة كلها أن يمسكوا بدل العصا مصباحا يضئ للتلاميذ حقائق الحياة و سبل الحياة .

 

     و الجدير بالاشارة إلى أن هذا الحكم الديموقراطى  لا يصلح إلا بتنظيم دقيق ، بل هو إلى النظام أحوج من الحكم الاستبدادى ، لأن الحكم الاستبدادى يحمل عبئه فرد واحد و أعوانه ايديه ،  و هو الرأس المدبر ،  فطبيعى أن يكون ظلمه و عدله منظما .  أما الحكم الديموقراطى فيحمل عبئه عدد كبير ،  فإذا لم يؤد كل واجبه اختل البناء ،  و مثله مثل الآله ذات الأجزاء المختلفة ،  أو كالساعة ذات القطع المتعددة المتباينة ،  ولا ينتظم سير الآلة ولا سير الساعة حتى يقوم كل جزء بعمله .

 

        و لعل سبب آخر  لحاجة الحكم الديموقراطى للنظام دون الحكم الاستبدادى ، و هو أن الحكم الاستبدادى يرمى إلى تحقيق مصلحة فرد واحد أو طائفة محصورة ،  و ذلك أمر سهل و يسير . أما الحكم الديموقراطى فيرمى إلى مصلحة الشعب جميعه و خاصة الضعفاء ، كالفقراء و المرضى و الفلاحين و العمال ،  و هؤلاء عددهم فى كل أمة كبير ،  ولا يمكن تحقيق الخير لهم إلا بجهد جهيد و نظام دقيق .   فإذا لم يتحقق هذا النظام فشل الحكم الديموقراطى ،  وظن قصار النظر أن العيب يرجع إلى طبيعة الحكم ،  و هو فى الواقع لم يرجع إلا سوء تطبيقه و استعماله .  ثم إذا اختل كان نذيراً بعودة الاستبداد ،  و أرتكن المستبدون و ذوو السلطان إلى ما يبدو تحت أعين الأمه من سوء الحكم الديموقراطى و فساده ، و اتخذوا ذلك ذريعة إلى استرجاع سلطانهم و استعادة استبدادهم ،  و أعادوا الامة  الى سيرتها الأولى يسخرونا لمنفعتهم و يستعملونها لمصلحتهم . 

 

      إن أكسير الحياة للشرق الآن هو تحرى العدالة فى الحاكم ،  و تضحية شهواته ،  و تنظيم حكمه و حمل كل عبئه ، و تنفيذ واجبه فى دقة ،  و إلا كان تحت خطر الفوضى التى تقدم للأسد الرابض حجته و صياحه من جديد بأن الشرق أعطى حريته فلم يحسن استعمالها .

 

[email protected]

[email protected]

المصدر: على جمال الدين ناصف
alynassef

على جمال الدين ناصف - بورسعيد

  • Currently 40/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 64 مشاهدة
نشرت فى 7 أكتوبر 2010 بواسطة alynassef

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

11,973