
نحو صناعة ثقافة قيادية تواجه التحديات..بقلم: د. غسان شحرور
في زوايا بعض المكتبات الغربية، وبين رفوف لا تزدحم بالضجيج، تلمع مجلات وكتب لا تُروّج للنجاح السريع، ولا تبيع أوهام القيادة في عشر خطوات. بل تقدم فكرًا عميقًا، وممارسات مجرّبة، وتجارب إنسانية في الإدارة، والتنمية، والعمل المؤسسي والجماعي المستدام، تستحق أن تُقرأ، وتُترجم، وتُناقش في فضائنا العربي اليوم.
حتى الأمس القريب، ظل هذا الحقل محدودًا ومفتقرًا إلى الدراسة والتحليل والنقد الموضوعي، رغم الجهود المبذولة والأعمال القيمة التي لا يمكن إنكارها. خلال جولتي مؤخرًا، تصفحت عدداً من هذه الإصدارات الغربية، أذكر منها مجلة هارفارد بزنس ريفيو، التي لا تكتفي بعرض النظريات، بل تفتح نوافذ على تجارب حقيقية لقادة ومؤسسات واجهت التعقيد واتخذت قرارات جريئة في أزمنة مضطربة.
في عددها الأخير لهذا العام، تقدم المجلة “دليل القيادة الشجاعة”، حيث لا مكان للتردد ولا وقت للشعارات الرنانة. بل دعوة إلى الفعل، وبناء رؤية موحّدة، واستقطاب الشخص المناسب في الموقع المناسب، وتحقيق نتائج ملموسة، والابتكار والتخطيط الموضوعي من أجل المستقبل، وقيادة الذات قبل قيادة الآخرين.
وفي مثال آخر، يبرز كتاب دليل القائد، الذي يُكثّف أطر القيادة المجربة، مستندًا إلى مقالات منشورة في المجلة، ومقابلات مع كبار التنفيذيين، وتجارب ميدانية متنوعة. من بين الأسماء التي تناولها الكتاب: “جيم وولفنسون” في البنك الدولي، و”بولا كيرغر” في PBS، و”دارين ووكر” في مؤسسة “فورد”، و”جيم سميث” في “تومسون رويترز”. هؤلاء لم يقودوا مؤسساتهم بشعارات، بل برؤية واضحة، وقرارات مسؤولة، وممارسة ذات وعي جماعي واجتماعي، تركت أثرًا ملموسًا على الناس الذين يخدمونهم.
هذه الإصدارات لا تُقدّم وصفات جاهزة، بل أدوات تفكير، ونماذج تحليل، ومداخل لفهم التعقيد الإداري في عالم سريع الحركة، متغير ومترابط، افتراضي، وواعٍ اجتماعيًا. وهي بذلك تفتح المجال اليوم أمام القادة الصاعدين، والباحثين، والعاملين في القطاعين الحكومي والأهلي والخاص، لتطوير ممارساتهم، وتوسيع أثرهم، بعيدًا عن التكرار، وقريبًا من التحوّل الحقيقي البناء.
في عالمنا العربي اليوم، نحن بحاجة ماسّة إلى تبني هذا النوع من المحتوى، لا بوصفه استيرادًا معرفيًا، بل باعتباره شراكة فكرية وصناعة ثقافة قيادية. نحتاج إلى المزيد من الإصدارات العربية التي تُعنى بالإدارة، والتنمية المستدامة، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المتصاعد، وتُقدّم محتوى مبسطًا وموثوقًا، يُخاطب القادة والموظفين، وأصحاب القرار، ووسائل الإعلام المختلفة، ليصل إلى المجتمعات المحلية، ويُترجم الفكر إلى ممارسة تناسب احتياجاتنا.
كما نحتاج إلى دعوة وتشجيع القياديين العرب، في مختلف مواقعهم، لعرض تجاربهم والحديث عنها: أين نجحوا وكيف، وأين فشلوا ولماذا. كمتابع ومهتم، شعرت بالفخر حين رأيت هذه التجارب تترجم المعرفة إلى أثر حقيقي على المجتمع، وتمنح الأفراد فرصة للتعلم من نجاح الآخرين وتجاربهم. فالمعرفة لا تُبنى فقط على النظريات، بل على التجربة، والمساءلة، والشفافية، والتحليل، والتحدي، والجرأة في اتخاذ القرار.
ولازلت أذكر عدداً من المراكز الصحية الحكومية التي أنجزت اعتمادًا عالميًا مرموقًا لجودة خدماتها، وتحقيقها لشروط سلامة المرضى بأسعار متاحة نسبيًا، ما منح المرضى شعورًا بالأمان والثقة بالخدمة، ورفع معنويات الطاقم الطبي. وكذلك بعض المدارس الخاصة ومراكز التأهيل المهني وغيرها، التي تركت أثرًا ملموسًا في حياة الطلاب والمستفيدين.
نعم، المعرفة الإدارية والقيادية ليست حكرًا على النخب، بل حق لكل من يسعى إلى تحسين الأداء، وتطوير المؤسسات، وخدمة الناس. وهي لا تُختزل في نماذج جامدة، بل تُبنى على وعي إنساني، وممارسة مسؤولة، ورؤية أخلاقية، تضع بين أهم التزاماتها المسؤولية المجتمعية، والتنمية المستدامة.
القيادة ليست منصبًا يُمنح، بل معرفة تُشارك، وتجربة تُروى، وأثر يُخلَّد. وإذا أردنا أن نصنع مستقبلًا أفضل، فلنبدأ اليوم، لا غدًا، في تحويل قصص النجاح والتجارب الصادقة إلى معرفة حيّة تُلهم وتُوجّه. لتصبح القيادة صناعةً جماعية، يعيش أثرها الجميع، ويشعر كل إنسان بأن نجاح الآخرين هو جزء من نجاحه أيضًا، لا امتيازًا فرديًا.
“الأمس بعين اليوم” — زاوية ثقافية دورية يكتبها د. غسان شحرور
—__



ساحة النقاش