<!--<!-- <!--
وقد روى وهب بن منبه هذه القصة الطريفة عن أهل الكتاب (7) ، نسوقها لنعلم أسلوباً من أساليب الشيطان في إضلاله العباد ، وكي نحذر نصحه ، ونخالفه فيما يدعونا إليه .
يقول وهب : " إن عابداً كان في بني إسرائيل ، وكان من أعبد أهل زمانه ، وكان في زمانه ثلاثة إخوة ، لهم أخت ، وكانت بكراً ، ليس لهم أخت غيرها ، فخرج البعث على ثلاثتهم ، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم ، ولا من يأمنونه عليها ، ولا عند من يضعونها .
قال : فأجمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل ، وكان ثقة في أنفسهم ، فأتوه فسألوه عن أن يخلفوها عنده ، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يرجعوا من غزاتهم ، فأبى ذلك عليهم ، وتعوذ بالله منهم ومن أختهم ، قال : فلم يزالوا به حتى أطاعهم . فقال : أنزلوها في بيت حذاء صومعتي . فأنزلوها في ذلك البيت ، ثم انطلقوا وتركوها .
فمكثت في جوار ذلك العابد زمناً ينزل إليها بالطعام من صومعته ، فيضعه عند باب الصومعة ، ثم يغلق بابه ويصعد إلى الصومعة ، ثم يأمرها فتخرج من بيتها ، فتأخذ ما وضع لها من الطعام ، قال : فتلطف له الشيطان ، فلم يزل يرغبه في الخير ، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهاراً ، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها ، فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها كان أعظم أجراً . قال : فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها ، ووضعه على باب بيتها ، ولم يكلمها .
قال : فلبث على هذه الحال زماناً ، ثم جاءَه إبليس فرغّبه في الخير والأجر وحضه عليه ، وقال : لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك ، فلم يزل به حتى مشى إليها بالطعام ، ثم وضعه في بيتها ، فلبث على ذلك زماناً .
ثم جاءه إبليس فرغّبه في الخير وحضّه عليه ، فقال : لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك ، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة ، فلم يزل به حتى حدثها زماناً يطّلع إليها من فوق صومعته .
ثم أتاه إبليس بعد ذلك ، فقال : لو كنت تتنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها ، وتقعد هي على باب بيتها ، فتحدثك كان آنس لها . فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها وتحدثه ، وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها ، فلبثا زماناً يتحدثان .
ثم جاءَه إبليس فرغبه في الأجر والثواب فيما يصنع بها ، وقال : لو خرجت من باب صومعتك ، ثم جلست قريباً من بيتها ، فحدثتها كان آنس لها ، فلم يزل به حتى فعل . فلبثا زمناً على ذلك .
ثم جاءه إبليس ، فقال : لو دخلت البيت معها فحدثتها ، ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك ، فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدثها ، نهارها كله ، فإذا مضى النهار صعد صومعته .
ثم أتاه إبليس بعد ذلك ، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها ، فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ، ويسول له حتى وقع عليها ، فأحبلها فولدت له غلاماً ، فجاء إبليس فقال : أرأيت إن جاء إخوة الجارية ، وقد ولدت منك فكيف تصنع ؟ لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك ، فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه ، فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها ، ففعل .
فقال له : أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها ، خذها واذبحها ، وادفنها مع ابنها ، فلم يزل به حتى ذبحها ، وألقاها في الحفرة مع ابنها ، وأطبق عليهما صخرة عظيمة ، وسوّى عليهما ، وصعد إلى صومعته يتعبد فيها ، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ، حتى أقبل إخوتها من الغزو ، فجاؤوا فسألوه عنها ، فنعاها لهم ، وترحم عليها وبكاها . وقال : كانت خير امرأة ، وهذا قبرها ، فانظروا إليه . فأتى إخوتها القبر فبكوا أختهم ، وترحموا عليها ، فأقاموا على قبرها أياماً ، ثمّ انصرفوا إلى أهاليهم .
فلما جنّ عليهم الليل ، وأخذوا مضاجعهم ، جاءَهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر ، فبدأ بأكبرهم ، فسأله عن أختهم ، فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها ، وكيف أراهم موضع قبرها فأكذبه الشيطان . وقال : لم يصدقكم أمر أختكم إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاماً ، فذبحه وذبحها معه فزعاً منكم ، وألقاهما في حفيرة احتفرها خلف باب البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله ، فإنكم ستجدونها كما أخبرتكم هناك جميعاً . وأتى الأوسط في منامه ، فقال له مثل ذلك . ثم أتى أصغرهم ، فقال له مثل ذلك .
فلما استيقظ القوم ، أصبحوا متعجبين مما رأى كل واحد منهم ، فأقبل بعضهم على بعض يقول كل واحد منهم : لقد رأيت الليلة عجباً ، فأخبر بعضهم بعضاً بما رأى .
فقال كبيرهم : هذا حلم ليس بشيء ، فامضوا بنا ودعوا هذا عنكم ، قال أصغرهم : والله لا أمضي حتى آتي هذا المكان ، فأنظر فيه . قال : فانطلقوا حتى أتوا البيت الذي كانت فيه أختهم ، ففتحوا الباب ، وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم ، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة ، كما قيل لهم ، فسألوا عنها العابد فصدّق قول إبليس فيما صنع بهما ، فاستَعْدَوْا عليه ملكهم ، فأنزل من صومعته ، وقدّم ليصلب .
فلما أوثقوه على الخشبة ، أتاه الشيطان ، فقال له : قد علمت أني أنا صاحبك الذي فتنتك بالمرأة ، حتى أحبلتها ، وذبحتها وابنها ، فإن أنت أطعتني اليوم ، وكفرت بالله الذي خلقك وصوّرك ، خلصتك مما أنت فيه ، فكفر العابد ، فلما كفر بالله تعالى ، خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه " (8) .
وهذه القصة يذكرها المفسرون عند قوله تعالى : ( كمثل الشَّيطان إذ قال للإنسان اكفر فلمَّا كفر قال إنَّي بريءٌ منك ) [ الحشر : 16 ] ، ويذكرون أن المعنيّ بالإنسان هذا العابد وأمثاله . والله أعلم .
ساحة النقاش