عمل الجن والشياطين عند سليمان -عليه السلام-
ومما سخره الله تعالى لسليمان -عليه السلام- الشياطين {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}(صّ:37)، الشياطين كل بناءٍ وغواص،{وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} (38) سورة ص ، فإذا قلت الطيران الذي نعرفه اليوم هل كان لسليمان؟ نقول نعم وكان متفوقاً على ما عندنا، فإن قلت الغواصات التي نعرفها اليوم هل كانت لسليمان؟ الجواب نعم وبأقوى مما يوجد عندنا، لأن الله قال {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}، فالطيران لسليمان والغوص حاصل، وقوي وأكثر مما عندنا، لماذا؟ قال الله -عز وجل-{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}، فسخر له الشياطين تبني له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات، كما سيأتي وتعمل أعمالاً شاقة لا يستطيعها البشر، وهناك طائفة من الشياطين تغوص في البحار وتستخرج ما يريده من اللائي والجواهر والأشياء النفيسة التي يستعين بها على تدبير أمور مملكته وإغناء من معه وإغراء من يكون من أعدائه للدخول في دينه، يستخرجون له ما يشاء، {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}(صّ:38) ، طائفة ثالثة موثقة بالأكبال والأغلال، وهم الذين يحصل منهم تمرد أو عصيان أو امتناع عن العمل أو يسيء ويعتدي، قال -عز وجل-: {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ}(سـبأ: من الآية12) أمامه هكذا يعمل، بين يديه كما يشاء { بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} (12) سورة سبأ .
أماكن العبادة, أول مبنى ذكره تعالى في أبنية هؤلاء, الإنجازات العمرانية التي يريدها سليمان عليه السلام, أول شيء أماكن العبادة, { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ}(سـبأ: من الآية13), المحراب سمي محراباً لأن العبد يقوم فيه يحارب الشيطان, فلما كان العبد يقوم يحارب شيطانه سمي مكان القيام والعبادة محراباً, مكان الحرب, محراب, هذه الأماكن أماكن العبادة المهيأة كانت في بني إسرائيل, وسليمان عليه السلام أول ما بدأ بأمر الشياطين أن تعمل أماكن العبادة, فهي الأساس قبل أمور الدنيا, { مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ }(سـبأ: من الآية13) جمع تمثال, والتمثال في اللغة: ما صنع على مثل ما يشبه شيئاً في الطبيعة, فهل هو من ذوات الأرواح ويكون مباحاً في شريعتهم حراماً في شريعتنا؟ أو يكون من غير ذوات الأرواح فلا يكون في ذلك إشكال, فهذا تمثال الشجرة, وهذا تمثال كذا وكذا مما هو موجود في الطبيعة من الأشياء التي لا أرواح لها, فيطلق عليها تماثيل, وإن كانت ليست من ذوات الأرواح, ويمكن أن يصنع تمثالاً لعرش, أو تمثالاً لشجرة, أو تمثالاً لقصر ونحو ذلك, {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}(سـبأ: من الآية13), جمع جفنة: وهي القصعة والإناء الذي يوضع فيه الطعام, هذه الجفان النحاسية التي تكون كبيرة ضخمة وصفها الله كالجواب, الكاف للتشبيه, الجواب, الجوابي: جمع جابية: وهي الحوض الكبير الذي يوضع فيه الماء, فجفان طعام سليمان كانت مثل الجوابي: جمع جابية التي يكون فيها الماء من البرك الكبار, يعملونها لسليمان عليه السلام لحاجته وحاجة جنده؛ لأن هؤلاء يتنقلون وهذا التموين لجيوش سليمان أعظم مما هو موجود عندنا اليوم فإن ما يحدث اليوم من نقل الأطعمة والقصور في التموين, وما يسبب حصار الجيش, أو موت بعض أفراده, أو تسمم هذه الأطعمة إلى آخر ذلك, هذا لا يوجد في ملك سليمان عليه السلام, فكانت التموينات مستمرة لجنوده بهذه الجفان التي كالجواب, وهذه القصعات العظيمة بالأطعمة, {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ }(سـبأ: من الآية13), تطبخ الأطعمة فيها لتسكب في القصعات, وتسكب في الجفان, { رَاسِيَاتٍ }: ثابتة لا تنكفئ لضخامتها وعظمهما, { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ}(سـبأ: من الآية13) دليلاً على الانضباط, وحزم سليمان عليه السلام في قيادة مملكته, هذه مملكة الإيمان, فيها رقي عمراني, ورقي صناعي, ورقي عسكري, وهذا بعد الرقي الإيماني, { وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }(الانبياء:82), فيعملون كل الأعمال, فلا يوجد أعمال لا أحد يقوم بها, { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ }: نحفظ ملك سليمان وهؤلاء الشياطين لا يستطيعون الخروج عن أمره ولا التمرد عليه, ومن يتمرد يعاقب, والمعاقبة موجودة بالسلاسل والأغلال, والعذاب الذي فيه إهانة, ومما قوى الله تعالى به سليمان عليه السلام المعادن, ومعروف أهمية المعادن اليوم في الأرض, وهذه المعادن منها النحاس وهو ذو شأن عظيم, قال تعالى عن سليمان: { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ }(سـبأ: من الآية12): وهو النحاس المذاب, فالنحاس هذه مادة مهمة جداً في صناعة ما يحتاج إليه من آلات في الجهاد, وفي غيره من الأمور الحياتية والمعيشية, الصناعات اللازمة للبشر, المادة الخام مهمة جداً, والمادة الخام لا بد أن تكون سهلة الاستخراج وافرة الكمية, حتى تكون ذات جدوى كما هو معروف في دراسة المشاريع اليوم, وفي علم التعدين, لا بد أن تكون سهلة الاستخراج وافرة الكمية, فتأمل في قوله: { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ }, النحاس هذا عين لا تنضب, يأخذ منه بكميات ما يشاء من النحاس, سهل الاستخراج, عين, إنها عين, بالكمية التي يريدها, { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ }, وهكذا من أنواع المذابات والمصهورات التي يأخذها فيشكلها كيف يشاء, بل حتى عملية الصهر قد توفرت؛ لأن المعادن حتى تصنّع لا بد أن تصهر ثم توضع في القوالب, وعين القطر هذه سائلة, فالنحاس مذاب, فهنا يسهل تشكيله, ومن تأمل فيما أعطى الله سليمان عليه السلام وجد العجب العجاب وما معنى قوله: {وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}(صّ: من الآية35), لن يحصل لغيره, فهو لا يحصل اليوم في عالم التقنية, ولا في وادي السيلكون, لا يحصل أبداً, ولا يكون مثله إطلاقاً, {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}(صّ:39), فقر به عيناً يا سليمان, وأمنن على من شئت, أو أمسك عمن شئت, بغير حساب وحرج عليك؛ لأن الله قد علمه وألهمه العدل وحسن الأحكام, ولم يكن هذا لسليمان في الدنيا فقط ولكن قال الله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}(صّ: من الآية25), فهو من المقربين المكرّمين بأنواع الكرامات, وهذا يؤخذ منه أن الإنسان إذا أعطاه الله موهبة أو قدرة عضلية, مالية, تصميمية, كتابية, برمجية, تعبيرية, شعرية, إعلامية, أياً ما شئت فإنه يجب استثمارها في الدعوة إلى الله وطاعة الله, كما استعمل سليمان ذلك في خدمة الدين ونشره.
ساحة النقاش