أهمية الرقية وضرورتها
عرف الإنسان -عبر تاريخه المديد- قصر نظره، وقلة درايته، فيما يتعلق بغده ومستقبله، كما عرف قصور طاقاته في حاضره عن تلبية جميع حاجاته، أو تحقيق عامة غاياته، في الوقت الذي قد لا يكون منه أي تقصير في اتخاذ ما يتاح له من وسائل وآليات يدرك بخبرته أو ثقافته أنها تمضي معه إلى ما يتغيا بها من غاية، أو تقضي به لما يطمح إليه من نتيجة.
عرف الإنسان ذلك، وأدرك –مع ذلك- أن الأسباب لا تصل بالمرء إلى مسبباتها بذاتها، ولا بإرادة الإنسان وحدها، وأنه ما دام لم يخلق نفسه، وليس له الأمر في تدبير الكون من حوله، فبدهي أن يكون الأمر في ذلك أمر من خلق كل شيء فقدره تقديراً.
وبدهي كذلك -أن لا يكون الأمر أمر اتخاذ أسباب فحسب، وأن لا تكون ثمت حتمية بين اتخاذ الأسباب، وبين ما قد ينشأ عنها من مسببات.
كما أن الأمر ليس أمر مشيئة الإنسان وحـده مهما اجتمع معه من خلق، أو احتشد له من جند، أو تيسر له من نفوذ أو تهيأ له من علم، أو توَّفـر له من خبرة -إلا أن يشاء الله.
ليس بمشيئة الإنسان وحدها:
فليس بمشيئة الإنسان وحدها، ولا بعلمه وحده، ولا نفوذه وحده يمضى أمر الحياة والأحياء:
(وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيما)(408).
والطبيب مع المريض:
إن الطبيب يعالج مريضه مجتهداً بعلمه وخبرته وآلياته في انتقاء أنجع الوسائل؛ توخياً لشفائه، ومع ذلك يبقى أمر الشفاء، ونجاح هذا العلاج بخصوصه، مع هذا المريض بالذات بيد الله وحده، وحسبما يشاء سبحانه.
ومنذ الخطوة الأولى:
بل إنه منذ الخطوة الأولى في العلاج يكون التوفيق الإلهي للطبيب هو أساس نجاحه في علاج مريضه إن شاء الله أن يُجرى شفاءه على يده، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)(409).
والمرء مجزىٌّ وإن لم ينجز:
وحسب المرء أن يُجزى بما سعى، وبما نوى، وإن لم يتم له ما أراد:
"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"(410).
(وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى)(411).
(فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)(412).
الأمر في تحقيق الغاية:
وحسب المرء –كذلك- أن يعلم أن الأمر في تحقيق الغاية، وإنجاز مراد الإنسان هو أمر الإرادة الكونية العليا، وشأن القدرة الإلهية العظمى بما لله سبحانه من علم محيط، وحكمة حكيمة:
(إنا كل شيء خلقناه بقدر)(413).
(الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما)(414).
التجاء الإنسان إلى الله يستعينه:
ومن هنا استوفز الإنسان –دوماً- إلى الله عز وجل؛ يستعينه لتحقيق آماله، ويدعوه –تضرعاً وخفية- مستعيذاً به من أذى كائن لا وسيلة له إلى معالجته، أو محذور يخشى أن يكون، لا حيلة معه في مواجهته.
الإنسان والرقية:
وعرف الإنسان -مع هذا وذاك- طريقه إلى التعاويذ والرقى: هُدى إلى الحق فيها من هُدى، وضل عن سنتها من ضل، وابتدع فيها من ابتدع.
الأنبياء والرقية:
وكان دور الأنبياء والمرسلين في هذا المجال مع بنيهم وأقوامهم ومن أرسلوا إليهم أن يعرفوهم ضرورتها وسنتها، وأن يمهدوا لذلك بإعلامهم بما يلي:
<!-- أن لا إله إلا الله الذي له وحده الخلق والأمر، وبيده –وحده- النفع والضر، وله –وحده- القدرة المطلقة التي لا يعجزها شيء والعلم المحيط الذي لا يندّ عنه شيء، والإرادة النافذة، والأمر المكون لكل ما يريد -سبحانه- أن يكون…
(إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(415).
(وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم)(416).
<!-- أن تفرده –سبحانه- بالألوهية والربوبية والإيجاد والتدبير، والإعانة والرعاية، والملك والسلطان: يقتضي إفراده –سبحانه- بالعبادة والاستعانة؛ مادام هو المعين والناصر والرزاق والشافي والمربي والحافظ.
<!-- أنه –لهذا وذاك- ينبغي أن لا يفصـل أخذ المرء في الأســباب وقد أمر بها -عن مقتضي إيمانه بالله ومعرفته به، وذلك بالاعتماد عليه –سبحانه- في إبلاغ الأسباب غاياتها، فما شاء الله كان، وما لا يشاؤه من ذلك لا يكون.
<!-- أن هذا وذاك مرتبط بالاعتقاد الراسخ لدى المؤمن أن ما يتم -بعدئذ من تحقق
الغاية إنما هو بفضل الله ورحمته، وليس بمجرد علم الإنسان أو سياسته؛ ولهذا يشكر المؤمن ربه على ما حققه له، أو آتاه من فضله، ويتم هذا في مجال الاستشفاء بعد أن يضرع إلى ربه أن يشفيه، أو يجري الشفاء على يده إن كان طبيباً أو راقياً.
إعلان إبراهيم بعقيدة التوحيد وما تقتضيه:
ومن قديم هتف إبراهيم عليه السلام بهذه الحقيقة الإيمانية الباهرة، وهو يحدث عن رب العالمين.
قال فيما يحكي القرآن الكريم عنه:
(الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين)(417).
الأسلوب أسلوب قصر:
وبيّن –هنا- أن الأسلوب أسلوب قصر، يفيد تفرد الله سبحانه بكل ما ذكر من أمر؛ فمن له الخلق: له الأمر.
(ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)(418).
ماذا يريد إبراهيم عليه السلام أن يقول؟
وكأن إبراهيم عليه السلام يريد ليقول: إن رب العالمين الذي تفرد بخلقي في أحسن تقويم: جسـداً وعقلاً، وبدناً وروحاً: هو الذي يتولى تنمية بدني بما أودع
فيّ من غريزة الاشتهاء للطعام والماء وبما جعل في الطعام من صلاحية تغذيتي وإنمائي، وفي الماء من أهمية قصوى لحياتي وبقائي، ولوشاء لجعل الماء أجاجاً، والغذاء حطاماً، والجسد غير متقبل لهذا أو ذاك!؟.
تنمية العقل وهداية القلب:
ثم إنه سبحانه هو الذي يتولى تنمية عقلي، وشرح صدري، وهداية قلبي بما يستأثر به من تبصرتي وإرشادي إلى المنهج الأقوم الذي به قوام روحي وقلبي، ونماء بدني وعقلي، وصلاح شأني في ديني ودنياي وعاقبة أمري؛ لأنه لا يعلم ما يصلح شأن المخلوق إلا من خلقه فقدره، ثم السبيل يسره.
(ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)(419).
الطبيب يعالج والله هو الشافي:
كذلك فإن الله تعالى هو الذي يتولى –وحده- شفاء الإنسان بتيسيره وتدبيره، سيما إذا استصعب الداء، وعز الدواء، واستيأس الأطباء، وأوشك أن يخرجوا مريضهم –هذا- من عداد الأحياء!؟
شفاء الله للميئوس من شفائه وبعثه من في القبور:
وقد أعقب إبراهيم عليه السلام الحديث عن الشفاء من المرض، وتفرد الله به بالحديث عن الإحياء بعد الإماتة، وتفرد الله بهما، سواء أكان المراد الإحياء الحسي بالبعث، أو المعنوي بالهداية، وكأنما يريد إبراهيم عليه السلام ليقول:
والذي يميتني ثم يحيين قادر على هذا الإحياء كما شفاني من المرض بعد أن وصلت إلى حد يعجز الأطباء معه عن أن يحددوا لي دواء، أو يحققوا لي شفاء؟!.
وكأنما يتابع فيقول:
والذي يشفي المرضى بعد أن يكونوا قد أشفوا على الهلكة قادر على أن يحيي الموتى بعد أن يكونوا عظاماً نخرة، سيما وهو الذي أنشأهم أول مرة.
419- سورة الملك: (14). |
والقـادر على هذا الإحياء قادر ولا ريـب على ذلك الشفاء؛ فكلا الجملتين –إذاً- دليل الأخرى.
إيحاءات القدرة على شفاء المرضى وإحياء الموتى:
وقدرة الله تعالى على شفاء من استيأس الطب البشري من شفائه: لها إيحاءات شتى، ومنها ما يلي:
<!-- ترسيخ الأمل في العافية، وعدم اليأس من رَوْح الله، مهما اشتد الداء، واستعصى الدواء.
<!--أنه ليس باستـنفاد الوسائل المادية يتم الحكم باليأس من الشفاء؛ فالحكم -من قبل ومن بعد- لله الواحد القهار، الذي يحيي العظام وهي رميم. وقد قال سبحانه في السورة التي حدثت عن هذا الإحياء:
(إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)(420).
<!-- أنه لهذا وذاك ينبغي استدامة الدعاء والضراعة إلى الله، والتأكيد على استمرار الرقية مع المريض طالما كان فيه عرق ينبض، أو نفس يتردد.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشـه نفث في كــفيه بـ "قل هو الله أحد، وبالمعوذتين جميعاً، ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده". قالت عائشة: فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به"(421).
417- سورة الشعراء: (78-82).
418- سورة الأعراف: (54).
415- سورة يس: (82).
416- سورة يونس: (107).
411-سورة النجم: (39-41).
412- سورة الزلزلة: (7-8).
413- سورة القمر: (49).
414- سورة الطلاق: (12).
408- سورة الإنسان: (30).
409- سورة الأعراف: (54).
410- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي: باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ح(1). ومسلم في صحيحه: كتاب الإمارة: باب قوله: (صلى الله عليه وسلم) إنما الأعمال بالنية ح (1907). وأبو داود في سننه: كتاب الطلاق: باب فيما عني به الطلاق والنيات ح(2201) والترمذي في سننه: كتاب فضائل الجهاد: باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا ح(1653) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي في سننه: كتاب الطهارة باب النية في الوضوء ح(75). وابن ماجه في سننه: كتاب الزهد: باب النية ح(4227) وانظر تحفة الأشراف ح(10612) والبيهقي في الكبرى (1/298).
420- سورة يس: (82). 421- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(5748) ومسلم في صحيحه: كتاب السلام: باب رقية المريض بالمعوذات والنفث ح(2192) وأبو داود في سننه: كتاب الطب: باب كيف الرقى ح(3902) وابن ماجه في سننه: كتاب الطب: باب النفث في الرقية ح(3529) وانظر تحفة الأشراف ح(16589) قال النووي: وسئلت عائشة عن نفث النبي (صلى الله عليه وسلم) في الرقية فقالت كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه –انظر شرح النووي على صحيح مسلم (14/182) قال ابن حجر: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة أو الهواء الذي ماسه الذكر كما يتبرك بغسـالة ما يكتب من الذكر – انظر فتح الباري (10/197) ش ح(5735). |
ساحة النقاش