” في سوريا وحدها يُطلق المجرمون بينما يُحاصر العلماء والمفكرون ويُزجُّ بهم في غياهب السجون”!
هل هناك من أرومة وجدانية تجمع بين الحاكم المستبد والإجرام؟ لماذا كل هذا الود والعطف الذي يغدق على أهل الجريمة والإجرام؟ وما أسرار العداوة التاريخية بين الاستبداد والفكر الحر أو بين المستبدين والعارفين؟ لماذا كل هذه الكراهية وكل هذا الحقد الذي يبديه النظام للمفكرين ضد أهل الرأي والفكر الحرّ؟ لماذا يطلق النظام سراح المجرمين ويشملهم بعفوه ويغدق عليهم عطفه ومحبته؟ ولما يعمل في الوقت نفسه على إنزال أقصى العقوبات وأدهى اشكال التعذيب والقتل والخطف والتدمير ضد المفكرين والعلماء وأصحاب الكلمة الحرة؟ أسئلة تسترعي الاهتمام.
يصف الكواكبي المستبد بقوله: “المستبدّ: يتحكَّم في شؤون النّاس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنَّه الغاصب المتعدِّي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من النَّاس يسدُّها عن النّطق بالحقّ والتّداعي لمطالبته”. إنه “عدوّ الحقّ، عدوّ الحّريّة وقاتلهما، وهو مستعدٌّ بالطّبع للشّر والمستبدّ: يودُّ أنْ تكون رعيته كالغنم درّاً وطاعةً، وكالكلاب تذلُّلاً وتملُّقا”ً.
لا أخفيكم أنني ومنذ زمن بعيد كنت أتساءل عن هذا العشق الكبير الذي يكنه حكامنا للمجرمين والإجرام، وعن هذا الحقد الهائل والكراهية المستطيرة ضد الحكمة والحكماء. لم أكن أعرف السبب في انتظام صدور المراسيم الجمهورية التي يعفى بها عن المجرمين في كل مناسبة تسمى وطنية كمناسبات: الحركة التصحيحية وحرب تشرين التحريرية، ولماذا يغتنم الحاكم كل مناسبة ليجترح مرسوم عفو يطلق بموجبه المجرمين والقتلة والسفاحين من السجون ليعيثوا من جديد فسادا وجورا في الأرض.
إنه فعلا لمن أكثر الأمور غرابة وعجبا في الأرض أن يكرم الحاكم شعبه بإطلاق المجرمين والقتلة والمخالفين للقانون فيصدر الإعفاء تلو الآخر عن المجرمين والقتلة في مناسبة وفي غير مناسبة وهو بذلك يريد أن يتقرب من أبناء شعبه ليحظى بحبهم وعطفهم وولائهم وعظيم تأييدهم وإيمانهم برسالته الإنسانية العظيمة!
في سوريا وحدها بين دول الأرض يحتفي الرئيس ونظامه السياسي بإصدار مراسيم العفو عن المجرمين في المناسبات الوطنية والدينية والقومية. في سوريا وحدها يكرس الإعلام المكتوب والمقروء والمسموع للتمجيد بقرار الحاكم وعفوه عن المجرمين، وفي سوريا وحدها بين بلدان الدنيا التي يعد فيها اطلاق المجرمين والإعفاء عنهم إنجازا من إنجازات الحاكم والسلطان.
وفي سوريا وحدها من دون العالمين يحظى القتلة والمجرمون بعطف السلطان ورعاته وحمايته. ومن المذهل أنه في سوريا وحدها يقوم المجرمون بارتكاب جرائمهم بثقة وطمـأنينة لأنهم يؤمنون بأن حكمة السلطان ستغمرهم برحمته بإصدار الإعفاءات المتتالية التي تنقذهم من العقاب. والأدهى من ذلك أن بعض عتاة المجرمين يختارون الوقت المناسب لارتكاب جرائمهم بما يتناسب مع معرفتهم بمواقيت صدور مراسيم العفو الجمهورية التي ستشملهم فيوفرون على أنفسهم العقاب والعذاب. وكنت أسمع بعضهم (بعض المخالفين) يحسبون الفترة الزمنية القصيرة التي سيقضونها في السجن آخذين بعين الاعتبار مواعيد صدور المراسيم الجمهورية لينجو كل منهم من العقاب الحقيقي للجرائم. وعلى هذا النحو كان اصحاب الجرائم يقومون بفعلتهم وهم كانوا دائما على ثقة بأن مراسيم العفو متواترة في الزمان والمكان.
لقد تفرد النظام في سوريا بهذه المأثرة العظيمة (إطلاق المجرمين) في كل مناسبة عظيمة وملمة أليمة. في هذا العيد (عيد الأضحى المبارك) أكرمنا الرئيس بإصدار عفو جديد عن المجرمين والقتلة ومنتهكي القانون والأمن والمهربين والمقامرين والغشاشين والمزورين إكراما للشعب السوري في هذه المناسبة العظيمة.
لا نعترض على العفو فالعفو من شيم الكرام. فليعف النظام عمن يشاء من القتلة والمعتدين والغشاشين والساقطين الذين أذلوا العباد وعاثوا في الأرض فسادا! ليعفوا عن الذين حرقوا الغابات وهدموا البيوت وانتهكوا الأعراض وأذلوا الكرامات ونهبوا المال العام! ليعفو عن المجرمين والفارين والمقامرين وأصحاب السوابق والداعرين!
ويبقى السؤال الحائر لماذا لم يقع قلم الحاكم في الخطأ مرة واحدة ليعفو فيها عن أصحاب الفكر والرأي والقلم؟ لماذا لم يصدر إعفاء حتى مرسوم إعفاء واحد يتضمن شمول السياسيين والمفكرين والعلماء المقاومين وأصحاب الرأي من العقاب المنزل بهم والملاحقات التي تطاردهم والمنع من السفر؟ لماذا يطلق سراح المجرمين ولا يطلق سراح المفكرين والمثقفين والعلماء؟
لماذا على الأقل لم يصدر عفوا عن الملاحقين من أصحاب الرأي والفكر والمتهمين بالمعارضة؟ لماذا لم يسمح للمبعدين مرة واحدة في العمر بالعودة إلى أوطانهم من غير ملاحقة الأمن وفروع المخابرات؟ ما زلت أسأل نفسي لماذا يكنّ الحاكم هذا الحقد وتلك الكراهية للمثقفين والمفكرين وأصحاب الرأي؟ لماذا لم يشملهم مرة برحمته وعفوه ومراسيمه؟
وكنا نتوقع منذ بداية الثورة مرسوما بالعفو عن المفكرين والمثقفين وأصحاب الفكر والرأي لأن ذلك كان يمكن أن يكون لصالح الاستقرار في البلد والحوار. وكم كانت المفاجأة الكبيرة والمذهلة أن الحاكم أطلق المجرمين والقتلة والسفاحين من السجون مرة ومرات. وما يدعو إلى الدهشة والعجب أن الرئيس يعتقد أنه يكرم الشعب والأمة بإطلاقه للقتلة والمجرمين من السجون!
ومن جديد ماذا عن اصحاب الرأي والمفكرين؟ لماذا لم يُعفى عنهم مرة واحدة في ذلك الزمان؟ لماذا لم تخفف أحكامهم أو تتراخى الشدة في مطاردتهم وملاحقتهم في يوم من الأيام؟ لماذا؟ والأدهى من ذلك والأمر أن المجرمين الذين أطلقهم النظام هم الذين يمارسون القتل وسفك الدماء في سوريا وهم الذين يجري تجنيدهم في مختلف الجماعات المسلحة والعصابات من القتلة والشبيحة الذين يعيثون فسادا وجورا في الأرض والبلاد والعباد.
وفي هذا الأيام وفي الوقت الذي تصدر فيه مراسيم الإعفاء عن الجرائم يشتد النظام في ملاحقة المفكرين والإعلاميين وأصحاب الفكر والقلم والرأي من إعلاميين وصحفيين ومناضلين: بعضهم يختفي وبعضهم يخطف وبعضهم يزج في السجون وبعضهم يعذب وبعضهم يموت ويلقى في الشوارع. أما المجرمين فهم في مكان القلب والحظوة عند الحاكم والسلطان؟ لماذا كل هذا ايها السلطان؟
لقد أصدر الرئيس ستة مراسيم عفو عن المجرمين ما بين عامي خلال فترة الثورة، ومع ذلك فإن هذه المراسيم لم تشمل المناضلين السلميين وأصحاب الرأي والفكر الذي يعدون بالآلاف في سجون النظام وزنزاناته.
ومن المضحك المبكي أن المرسوم التشريعي رقم 71 القاضي بالعفو والقاضي بالعفو العام عن الجرائم المرتكبة قبل 23-10-2012، يستثني الجرائم التي تتعلق بالإرهاب. وهل تعرفون ما هو الإرهاب ومن هم الإرهابيون؟ الإرهابيون هم اصحاب الفكر والقلم بل هم المجرمون الذين لا يلتمس لهم عفوا وليس لجرائمهم الكبرى غفرانا. الإرهابيون في قاموس النظام هم هؤلاء الذين يعملون في مجال الفكر الحر: المفكرون الإعلاميون المثقفون أصحاب الفكر الحر الذي أعلوا من كلمة الحق ونادوا بقيم الحرية والكرامة في سوريا. وفي سوريا وحدها عليك ألا تنادي بالحرية وألا ترفع شعار الكرامة وإياك والكلمة الحرة الصادقة لأنك كي لا تكون إرهابيا، وإن فعلت فأنت مجرم وإرهابي كبير لا يمكن أن ترى لذنبك غفرانا ولجرائمك عفوا أو مغفرة.
وكأني بالسلطان قد تماهى بالطاغية الفرعوني (خيتي) الذي يقدم نصيحة لابنه (مريكارع) حوالي (2000ق.م) قائلا له: “أي بني إذا وجدت في المدينة رجلا خطرا يتكلم أكثر من اللازم ومثيرا للاضطراب فاقض عليه، واقتله، وامح اسمه، وأزل جنسه وذكراه وأنصاره، فرجل يتكلم أكثر من اللازم خطر على المدينة”. فالمجرمون الحقيقيون بالنسبة للنظام الخطرون على المجتمع هم أصحاب الفكر والكلمة والرأي الحر، وما عداهم أصحاب جنح بسيطة ومخالفات.
وقد أدرك الكواكبي هذه الصورة لطبيعة الاستبداد إذ يقول: “لا يخفى على المستبدّ، مهما كان غبياً، أنْ لا استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرّعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء. ومن هنا ترتعد فرائص النظام من المفكرين والحكماء والحكماء”. فيقول الكواكبي: “إن فرائص المستبدُّ ترتعد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصّل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تُكبر النفوس، وتوسّع العقول، وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب، وكيف النّوال، وكيف الحفظ”. وبناء على هذه الصورة الكواكبية يتضح لنا لماذا يخاف النظام من المفكرين وأصحاب الرأي ولماذا يبقيهم في غياهب السجون.
لقد أدركت بعض المنظمات الحقوقية هذه الوضعية المأساوية لنظام يطلق سراح المجرمين ويغلق دهاليز السجون على الحكماء والمفكرين والعارفين فدعت النظام في سوريا إلى إطلاق سراح “الناشطين السلميين المعتقلين” في سوريا بمراسيم العفو التي يصدرها الرئيس في عدد من المناسبات.
وفي هذا السياق دعت تسع منظمات ناشطة في “الدفاع عن حقوق الإنسان يوم الخميس الماضي، أن “يشمل العفو العام الذي اعلنه الرئيس بشار الاسد قبل أيام كل الناشطين السلميين المعتقلين في السجون السورية”.
وقالت المنظمات، في بيان نشرته وكالة الأنباء الفرنسية، إن “على الرغم من أن الرئيس السوري اصدر اربعة مراسيم عفو عام في 2011، واثنين آخرين في كانون الثاني وأيار 2012، فان ناشطين سلميين لا يزالون قيد الاحتجاز لدى اجهزة أمنية ومن بين المنظمات الموقعة على البيان هيومان رايتس ووتش، ومراسلون بلا حدود، ومركز الخليج لحقوق الانسان والفدرالية الدولية لحقوق الانسان.وتشير التقارير بأن ألاف الموقوفين في السجون السورية، على خلفية الأحداث التي تشهدها سورية منذ 19 شهرا وهم ما زالوا محاصرين في غياهب السجون.
وأخيرا نقول إن اطلاق المجرمين اعتداء على الشعب والكرامة واعتداء صارخ على المجتمع،بل هو انتهاك لقيم الحق والخير والإنسان، وكان حريا بالنظام – لو أراد الخير لهذه الأمة ومن المؤكد أنه لا يريد – أن يطلق المفكرين والباحثين وأصحاب الرأي والمناضلين الأحرار من أجل الحق والخير والحقيقة والكرامة والجمال.
إن أطلاق المجرمين من السجون والإعفاء عنهم والإبقاء على المفكرين في زنزانات القهر والعذاب والتنكيل هو أكبر اعتداء على الأمة والتاريخ والإنسانية والإنسان. وفي هذه المناسبة الحزينة حيث هم الأحرار خلف القضبان وفي غرف التعذيب أهدي هذه الأبيات الشعرية لمحمود درويش إلى كل المظلومين والمنكل بهم والمخطوفين والشهداء والثائرين والقابعين في دهاليز النظام وفي غياهب سجونه، علّهم يجدون بها بعض العزاء:
يا دامي العينين والكفين!
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
و لا زرد السلاسل!
نيرون مات، ولم تمت روما…
بعينيها تقاتل!
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل..
__________
أ. د. علي أسعد وطفة: جامعة الكويت
ساحة النقاش