عمرو أبوالفضل

للحج أهمية عظيمة بين أركان الإسلام، فهو يحمل في حقيقته معاني كثيرة، ويرسخ أخلاقيات حسنة، ويجمع بين ما هو روحي وبدني ومالي، يؤديه المسلم متى توافرت له الاستطاعة ليتحقق له مجموعة من الفوائد الروحية والأدبية والاجتماعية والاقتصادية تعود على المسلم والمجتمع بالخير الكثير.

(القاهرة) - إن الله تعالى أنعم على الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم وشرع الحج للناس سياحة لهم وتجردا لله، وتهذيبا وتربية لنفوسهم في طريقهم إليه سبحانه وتعالى، حيث يقول الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية إن الحج من أنواع الجهاد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة: الحج والعمرة»، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «الحج جهاد، والعمرة تطوع».

التواضع لله

 

وأضاف أن الحق سبحانه شرف البيت العتيق بإضافته إلى نفسه تعالى، ونصبه مقصدا لعباده، وجعل ما حواله حرما لبيته تفخيما لأمره، وجعل عرفات كالميزاب على فناء حوضه، وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره، ويقصده الزوار من كل فج عميق ومن كل أوب سحيق شعثا غبرا متواضعين لرب البيت ومستكينين له خضوعا لجلاله واستكانة لعزته، مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت أو يكتنفه بلد ليكون ذلك أبلغ في عبوديتهم وأتم في إذعانهم وانقيادهم.

 

وقال إن هناك أعمالا لا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال العبودية، فإن ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال لا باعث في الإقدام عليها إلا قصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط، مضيفا أن رحلة الحج ترسخ في قلب الإنسان معاني الفرار إلى الله واللوذ بالجناب الإلهي، وهذا الفرار وإن كان قلبيا معنويا إلا أنه يترسخ بالأفعال الحسية.

مشقة السفر

ويوضح أن الحاج يترك دياره وأهله وزينته وشهواته وما يملكه وراء ظهره، ويبذل من ماله وجهده متحملا مشقة السفر والاغتراب، قاصدا بيت الله الحرام الذي قال الله عنه: «ومن دخله كان آمنا» 97 آل عمران، مؤكدا ان الحاج قصد الفرار إلى الله ليؤمنه في الدنيا والآخرة من عاقبة ذنوبه وتقصيره في عمره الذي فات، ويمنحه فرصة جديدة ليبدأ صفحة بيضاء من عمره وكأن أمه لم تلده ولم يرتكب ما ارتكب، عسى أن يكتبه الله مع أولئك السعداء المقبولين الذين رضي عنهم.

وبين أن زيارة بيت الله الحرام تأكيد على ارتباط المسلم بحضارته وتاريخه، وسيره على نهج أنبياء الله ورسله، مشيرا الى أن الكعبة المشرفة هي أول بيت وضع لهداية الناس إلى التوحيد وعبادة الله، وصفه عز وجل بقوله: «وليطوفوا بالبيت العتيق» 29 الحج، وكان الأنبياء هم أولئك الهداة إلى توحيد الله وعبادته وشد الرحال إلى المواضع التي خصها الله تعالى بالطهارة والتقديس، قال تعالى: «وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود» 125 البقرة.

رحلة مباركة

وقال إن شد الرحال إلى هذا البيت الحرام هو توثيق لعرى الرابطة بين الإنسان والأنبياء وخاتمهم الأعظم عليهم جميعا الصلاة والسلام، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء، يؤمون بيت الله العتيق منهم موسى نبي الله صلى الله عليه وسلم».

وأضاف أنه في الرحلة المباركة تأكيد على وحدة المسلمين وترابطهم باجتماعهم في مكان واحد وزمان واحد، متوجهين إلى رب واحد وقبلة واحدة، مبينا أن البيت الحرام صار وطنا أكبر للجميع ومثابة للناس وأمنا، وصارت مكة هي أم القرى كما سماها الله تعالى، فلا التفات هناك إلى اختلاف الأعراق والبلدان واللغات والألوان والثقافات، ولا فرق بين غني وفقير، فالكل سواء في الفقر والحاجة إلى الله سبحانه، ويظل هذا المشهد الحضاري مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى: «إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» 92 الانبياء.

الرزق الطيب

وذكر أن السلام لا يعم الإنسان فحسب، بل يتسع ليشمل الحيوان والنبات والجماد، لافتا إلى أن الشريعة حثت على الحج والترغيب فيه بدعوة صريحة إلى ابتغاء الرزق الطيب والاكتساب، وذلك بالمشاركة في العمل والإنتاج والتنمية الاقتصادية وخدمة المجتمعات الإنسانية، كما تحثهم على الإخلاص والإتقان والإبداع في العمل، بهذا السبيل يتمكن المسلم من تحصيل نفقات الحج، فيصلح في دنياه من حيث يطلب صلاح آخرته، بالإضافة إلى ما ينتفع به الفقراء والمساكين من الأضحيات التي تقدم لهم في نهاية موسم الحج، وإلى هذه المعاني يشير قول الله تعالى: «ليشهدوا منافع لهم» 28 الحج.

وأشار الى ان المسلم الذي فارق وطنه وبلاده وقصد البيت الحرام وطن نفسه على الشجاعة، وبرهن على استعداده للتضحية بحياته في سبيل تلبيته نداء مولاه سبحانه، مضيفا ان رحلة الحج كانت قديما محاطة بالكثير من المشقة والمخاطرة التي قد تودي بحياة الإنسان، ورغم هذا لم ينقطع المسلمون عن زيارة البيت العتيق.

عبادة متممة

ويقول إن الحج عبادة جماعية على مستوى العالم أجمع، ولأجل هذا كانت هي العبادة المتممة والمشتملة على معاني العبادات التي تمثل أركان الإسلام، ففيها التلبية بتوحيد الله الذي هو أحد ركني الشهادة، وفيها أخذ المناسك عن النبي صلى الله عليه وسلم مما يعني الإقرار برسالته، وهو الركن الثاني من الشهادة، وفيها الطواف والدعاء الذي هو روح الصلاة، وفيه بذل المال وإطعام الفقراء الذي هو لب الزكاة، وفيه ضبط النفس وإمساكها عن الرفث والفسوق والجدال بما يمثل جوهر عبادة الصوم، مع ما في تلك العبادة من مشقة السفر والتعرض لمخاطره لأجل تمجيد الله وتوحيده فأشبه الغزو والجهاد في سبيل الله.

ويؤكد أن سماحة الإسلام وتميزه تتضح برفع الحرج عن المكلفين، حيث لم تفرض هذه العبادة إلا مرة واحدة في العمر على المستطيعين، فالحج يمثل الأنموذج الكامل للتعبد والتسليم والفناء في طاعة الله والتقرب إليه بكل سبيل، لذا كان ثوابه هو الثواب الكامل كما قال الرسول- صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».

مشاعر

ويقول الدكتور أحمد عبده عوض أستاذ الدراسات الاسلامية بجامعة طنطا إن منافع الحج وفوائده عظيمة فهو يذكر بالآخرة ووقوف العباد بين يدي الله يوم القيامة، موضحا ان المشاعر تجمع الناس في زي واحد، مكشوفي الرؤوس من سائر الأجناس، يذكرون الله سبحانه ويلبون دعواته، وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد حفاة عراة غرلا خائفين وجلين مشفقين، وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته، والإخلاص له في العمل.

وأضاف ان التلبية هي أول ما يأتي به الحاج، اذ يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، فهو يعلن توحيده وإخلاصه لله وأن الله سبحانه لا شريك له، فكل أعماله وأقواله كله ذكر لله عز وجل، وكله دعوة إلى توحيد والاستقامة على دينه والثبات على ما بعث به الرسول عليه الصلاة والسلام.

وقال إن من أعظم فوائدة تكفير الذنوب، وتطهير النفس من شوائب المعاصي وتقوية الإيمان وتجديد العهد مع الله، ويساعد على التوبة الخالصة الصدوق، ويهذب النفس ويرقق المشاعر والعواطف، مبينا أن الانسان في الحج يؤدي لربه شكر النعم والمنح الربانية من مال وعافية ويتعود على الصبر والانضباط وتحمل المتاعب والسخاء والجود والتزام الأوامر في سبيل إرضاء الله تعالى مما يرفع معنويات الإنسان، ويقوى فيه الأمل، وحسن الظن بالله.

ويضيف أن المسلم يشعر في الحج بقوة الرابطة الأخوية مع المؤمنين في جميع أنحاء الأرض، ويشعر الناس أنهم متساوون على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأوطانهم، وبين أن الحاج بوصوله إلى الميقات يجب أن يتأهل لمقابلة المولى عز وجل ويلتزم الأدب معه بالطاعات في ظاهره وباطنه.

وأوضح ان على الحاج في الطواف أن يستشعر بقلبه عظمة من يطوف ببيته ويترجاه الأمن من العذاب وقبول التوبة، مشيرا الى أن السعي بين الصفا والمروة فرصة عظيمة لطلب المغفرة والرحمة واظهار الإخلاص لله.

فرصة لتجديد العهد مع الله

قال الدكتور سعيد أبو الفتوح أستاذ الشريعة الاسلامية بجامعة عين شمس إن تجديد الشخصية والانخلاع من الماضي وما فيه من ذنوب وتجديد العهد مع الله على مواصلة حياة الاستقامة والطاعة والخيرية من أهم فوائد الوقوف بعرفة، ولذلك يجب على الحاج أن يلح على الخالق ويتضرع ويبتهل اليه ليجعله من المقبولين المرحومين. وأشار إلى أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره وهي ترمز الى التوجه إلى الخالق وطاعته، وقال ان الذبح يربط بين الهدي الذي ينحره الحاج وتقوى القلوب والطاعة والإنابة ويذكر بعهد إبراهيم عليه السلام ومن كرمه تعالى أن جعل اراقة الدم تجبر نقائص الحج اذا جنى الحاج جناية على إحرامه.

الوقوف بعرفة

عاش المسلمون أمس يوما مباركاً، تجلى بصيامهم يوم التاسع من ذي الحجة الذي يعرفه الجميع بيوم عرفة، المتزامن مع وقفة حجاج بيت الله الحرام على جبل عرفات. ووقت الوقوف بعرفة من الزّوال “الظهر” إلى طلوع الفجر من يوم النّحر. وقد سنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، للوقوف، هذا الوقت، على أيّ القولين، ومُدّ وقت الوقوف بعرفة إلى فجر يوم النّحر وهو العاشر من ذي الحجّة، ليُخالف المشركين في وقوفهم بها.

روى ابن مردويه والحاكم في المستدرك كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشى بإسناده، عن المسور بن مخرمة، رضي الله عنه، قال: خطبنا رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وهو بعرفات، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أما بعد وكان إذا خطب خطبة قال: أمّا بعد، فإنّ هذا اليوم الحجّ الأكبر. ألا وأنّ أهل الشِّرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشّمس، إذا كانت الشّمس في رؤوس الجبال كأنّها عمائم الرجال في وجوهها، وإنّا ندفع قبل أن تطلع الشّمس، مخالفا هدينا هدي أهل الشّرك’’.

والّذي ورد عن فعل رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه دفع بعد غروب شمس يوم عرفة. وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، في صحيح مسلم: فلم يزل واقفا، يعنى بعرفة، حتّى غربت الشّمس وبَدَت الصفرة قليلاً، حتّى غاب القرص. وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وقد شنق للقصواء الزمام، حتّى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: ‘’أيُّها النّاس.. السّكينة، السّكينة’’. كما أتَى جبلا من الجبال، أرخى لها قليلاً حتّى تصعد، حتّى أتَى المزدلفة، فصلَّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يُسبِّح بينهما شيئًا. ثمّ اضطجع حتّى طلع الفجر، فصلّى الفجر حتّى تبيَّن له الصُّبح بأذان وإقامة، ثمّ ركب القصواء حتّى أتَى المشعر الحرام. فاستقبل القبلة، فدعَا الله وكبَّره وهلَّله ووحّده، فلم يزل واقفًا حتّى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشّمس. والمشعر الحرام هو المزدلفة، والقرآن هنا يأمر بذكر الله عنده بعد الإفاضة من عرفات، ثمّ يذكر المسلمين بأنّ هذا الذِّكر من هداية الله لهم، وهو مظهر الشُّكر على هذه الهداية، ويذكّرهم كذلك بما كان من أمرهم قبل أن يهديهم إلى الصّراط المستقيم: “وإِنْ كُنتم مِن قبلِه لَمِنَ الضَّالي”.

المصدر: الاتحاد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 112 مشاهدة
نشرت فى 30 أكتوبر 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,180,505