الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين أما بعد: يقول الله تعالى في كتابه الكريم«مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»، سورة الأحزاب، الآية، 23.
ذكر الإمام ابن عاشور في كتابه تفسير التحرير والتنوير في تفسير الآية السابقة: (... وأيَّا مَّا كان وقتُ نزول الآية فإن المراد منها: رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أُحُد وهم: عثمان بن عفان، وأنس بن النضر، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة، وسعيد بن زيد، ومصعب بن عمير، فأما أنس بن النضر، وحمزة، ومصعب بن عمير، فقد استُشهدوا يومَ أُحُد، وأما طلحة فقد قُطِعت يده يومئذ وهو يدافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا. وسياق الآية وموقعها يقتضيان أنها نزلت بعد وقعة الخندق، وذكر القرطبي رواية البيهقي عن أبي هريرة: “أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انصرف من أُحُد، مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف ودعا له، ثمّ تلا (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ...الآية)، “تفسير التحرير والتنوير، 21/307”.
لباسه من الحرير
لقد كان مصعب بن عمير رضي الله عنه شاباً وسيماً منعماً، حيث كان والداه من أغنياء مكة المكرمة، وعاش في ظلال هذه الأسرة الثرية، فقد كان أترف غلام بمكة، وكان لباسه من الحرير وشراك نعله من الذهب، لكنه ضحّى بكل ذلك في سبيل الله ورسوله، فلبس أخشن الثياب، وقاسى الجوع والشدة، وأصبح له شأن عظيم ومكانة كبرى في الإسلام، فقد كان - رضي الله عنه - أول سفير في الإسلام، أرسله رسولنا - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة، ليعلم أهلها الإسلام، ويُقَْرئهم القرآن، وَيُفَقِّههم في الدين، ومن المعلوم أنه - رضي الله عنه - قد فهم رسالته تماماً ووقف عند حدودها، حيث عرف أنه داعية إلى الله، ومبشرٌ بدينه الذي يدعو الناس إلى الهدى والحق، وإلى الصراط المستقيم. لقد نجح أول سفراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - نجاحاً منقطع النظير، نجاحاً هو أهل له، وبه جدير.
حياته
مصعب بن عُمَير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بني قُصَيّ بن كلاب بن مُرَّة القرشي العَبْدري، يكنى أبا عبد الله، وأمه خُنَاس بنت مالك، كانت تتمتع بشخصية قوية، وتُهاب من قومها، وكانت تحب مصعباً حباً شديداً وتعتني به عناية كبيرة، وكان رضي الله عنه من أوائل السابقين إلى الإسلام، أسلم ورسول الله، صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، وظل رضي الله عنه يتردد إلى دار الأرقم، ويجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بإيمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم عن إسلامه شيئاً، وحبسه أهله لما علموا بإسلامه وبقي كذلك حتى هاجر إلى الحبشة، وبعثه رسول اللهصلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد بيعة العقبة الأولى، يفقه أهلها ويقرئهم القرآن، حيث لقبوه بالمقرئ.
شهد مصعب رضي الله عنه بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد أُحداً ومعه لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل بأحد شهيداً عن عمر يقرب من أربعين سنة، وقتله ابن قَمِئَة الليثي.
فضائله
مصعب بن عمير رضي الله عنه صحابي جليل، وله فضائل عديدة وردت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً، وعليه إهابُ كبش قد تَنَطَّقَ به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوَّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون”، (أخرجه الطبراني والبيهقي).
وعَنْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قال: “إِنَّا لَجُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، مَا عَلَيْهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ لَهُ مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَى لِلَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالَّذِي هُوَ الْيَوْمَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ، وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَرُفِعَتْ أُخْرَى، وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ نَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَنُكْفَى الْمُؤْنَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ”، (أخرجه الترمذي).
عَنْ خَبَّابٍ بن الأرت رضي الله عنه، قَالَ: “هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدُبُهَا، وَإِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ ثَوْباً، كَانُوا إِذَا غَطَّوْا بِهِ رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلاَهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: “غَطُّوا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ”، (أخرجه الترمذي).
اشدد على أسيرك
ومن فضل الله سبحانه وتعالى على المسلمين أن نصرهم على الكفار في غزوة بدر، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، حيث وقع عدد منهم في أسر المسلمين، كما ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حثَّ المسلمين على وجوب العناية بهم وأن يستوصوا بهم خيراً، وكان أبو عزيز بن عُمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمير من بين هؤلاء الأسرى، وورد أن مصعب بن عمير - رضي الله عنه - مرّ بأخيه الأسير فقال لآسره: اشدد على أسيرك، فإن أمَّه غنية وستفديه بمال كثير، وجاء في كتاب السيرة النبوية لابن هشام: “قال ابن إسحاق: فقال أبو عزيز: مَرّ بي أخي مصعب بن عمير، ورجلٌ من الأنصار يَأْسِرني، فقال: شُدَّ يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غَدَاءهم وعَشَاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يدِ رجلٍ منهم كِسْرة خبز إلا نفحني بها، قال: فأستحي فأردّها على أحدهم، فيردَّها عليَّ ما يمسّها.
قال ابن هشام: وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليَسَر، وهو الذي أسره ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخي، هذه وَصَاتُك بي، فقال له مصعب: إنه أخي دونك، فسألتْ أمُّه عن أغلى ما فُدِى به قُرَشيّ، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثتْ بأربعة آلاف درهم، فَفَدَتْهُ بها”، (سيرة ابن هشام 1/645-646).
عبء الدعوة
ما أعظم هذا الموقف من هذا الصحابي الجليل، الذي فَضَّل أخاه في الإسلام على أخيه في النسب، هؤلاء هم الرجال الأوائل والصحابة الكرام، رضي الله عنهم أجمعين الذين قاموا بعبء الدعوة، وأخلصوا لله أعمالهم، وحملوا لواء الإسلام عالياً خفاقاً، ونشروا الإسلام في ربوع الكون بالحكمة والموعظة الحسنة، فطأطأ لهم الجميع إجلالاً واحتراماً.
هذا هو مصعب بن عمير رضي الله عنه قدوة الشباب المؤمن في كل عصر، لذلك، فإن، الواجب على شباب الأمة دراسة سيرة الصحابة الكرام، رضي الله عنهم أجمعين ليستخلصوا منها المواعظ والعبر، “فقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف عند مصعب بن عمير، وعيناه تذرفان بالدموع، وقال: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً”، ثم قال: صلى الله عليه وسلم: “أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فَأْتُوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه”، (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/159-160).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اقتفى أثرهم وسار على دربهم إلى يوم الدين أما بعد: يقول الله تعالى في كتابه الكريم«مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً»، سورة الأحزاب، الآية، 23.
ذكر الإمام ابن عاشور في كتابه تفسير التحرير والتنوير في تفسير الآية السابقة: (... وأيَّا مَّا كان وقتُ نزول الآية فإن المراد منها: رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أُحُد وهم: عثمان بن عفان، وأنس بن النضر، وطلحة بن عبيد الله، وحمزة، وسعيد بن زيد، ومصعب بن عمير، فأما أنس بن النضر، وحمزة، ومصعب بن عمير، فقد استُشهدوا يومَ أُحُد، وأما طلحة فقد قُطِعت يده يومئذ وهو يدافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا. وسياق الآية وموقعها يقتضيان أنها نزلت بعد وقعة الخندق، وذكر القرطبي رواية البيهقي عن أبي هريرة: “أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين انصرف من أُحُد، مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه، فوقف ودعا له، ثمّ تلا (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ...الآية)، “تفسير التحرير والتنوير، 21/307”.
لباسه من الحرير
لقد كان مصعب بن عمير رضي الله عنه شاباً وسيماً منعماً، حيث كان والداه من أغنياء مكة المكرمة، وعاش في ظلال هذه الأسرة الثرية، فقد كان أترف غلام بمكة، وكان لباسه من الحرير وشراك نعله من الذهب، لكنه ضحّى بكل ذلك في سبيل الله ورسوله، فلبس أخشن الثياب، وقاسى الجوع والشدة، وأصبح له شأن عظيم ومكانة كبرى في الإسلام، فقد كان - رضي الله عنه - أول سفير في الإسلام، أرسله رسولنا - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة، ليعلم أهلها الإسلام، ويُقَْرئهم القرآن، وَيُفَقِّههم في الدين، ومن المعلوم أنه - رضي الله عنه - قد فهم رسالته تماماً ووقف عند حدودها، حيث عرف أنه داعية إلى الله، ومبشرٌ بدينه الذي يدعو الناس إلى الهدى والحق، وإلى الصراط المستقيم. لقد نجح أول سفراء الرسول - صلى الله عليه وسلم - نجاحاً منقطع النظير، نجاحاً هو أهل له، وبه جدير.
حياته
مصعب بن عُمَير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بني قُصَيّ بن كلاب بن مُرَّة القرشي العَبْدري، يكنى أبا عبد الله، وأمه خُنَاس بنت مالك، كانت تتمتع بشخصية قوية، وتُهاب من قومها، وكانت تحب مصعباً حباً شديداً وتعتني به عناية كبيرة، وكان رضي الله عنه من أوائل السابقين إلى الإسلام، أسلم ورسول الله، صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وكتم إسلامه خوفاً من أمه وقومه، وظل رضي الله عنه يتردد إلى دار الأرقم، ويجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بإيمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم عن إسلامه شيئاً، وحبسه أهله لما علموا بإسلامه وبقي كذلك حتى هاجر إلى الحبشة، وبعثه رسول اللهصلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة بعد بيعة العقبة الأولى، يفقه أهلها ويقرئهم القرآن، حيث لقبوه بالمقرئ.
شهد مصعب رضي الله عنه بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد أُحداً ومعه لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل بأحد شهيداً عن عمر يقرب من أربعين سنة، وقتله ابن قَمِئَة الليثي.
فضائله
مصعب بن عمير رضي الله عنه صحابي جليل، وله فضائل عديدة وردت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير مقبلاً، وعليه إهابُ كبش قد تَنَطَّقَ به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نوَّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون”، (أخرجه الطبراني والبيهقي).
وعَنْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قال: “إِنَّا لَجُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي الْمَسْجِدِ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، مَا عَلَيْهِ إِلاَّ بُرْدَةٌ لَهُ مَرْقُوعَةٌ بِفَرْوٍ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَكَى لِلَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالَّذِي هُوَ الْيَوْمَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ بِكُمْ إِذَا غَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ، وَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ صَحْفَةٌ وَرُفِعَتْ أُخْرَى، وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ؟ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مِنَّا الْيَوْمَ نَتَفَرَّغُ لِلْعِبَادَةِ وَنُكْفَى الْمُؤْنَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ مِنْكُمْ يَوْمَئِذٍ”، (أخرجه الترمذي).
عَنْ خَبَّابٍ بن الأرت رضي الله عنه، قَالَ: “هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَوَقَعَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدُبُهَا، وَإِنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ إِلاَّ ثَوْباً، كَانُوا إِذَا غَطَّوْا بِهِ رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غُطِّيَ بِهَا رِجْلاَهُ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم: “غَطُّوا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الإِذْخِرَ”، (أخرجه الترمذي).
اشدد على أسيرك
ومن فضل الله سبحانه وتعالى على المسلمين أن نصرهم على الكفار في غزوة بدر، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، حيث وقع عدد منهم في أسر المسلمين، كما ورد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حثَّ المسلمين على وجوب العناية بهم وأن يستوصوا بهم خيراً، وكان أبو عزيز بن عُمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمير من بين هؤلاء الأسرى، وورد أن مصعب بن عمير - رضي الله عنه - مرّ بأخيه الأسير فقال لآسره: اشدد على أسيرك، فإن أمَّه غنية وستفديه بمال كثير، وجاء في كتاب السيرة النبوية لابن هشام: “قال ابن إسحاق: فقال أبو عزيز: مَرّ بي أخي مصعب بن عمير، ورجلٌ من الأنصار يَأْسِرني، فقال: شُدَّ يديك به، فإن أمه ذات متاع، لعلها تفديه منك، قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدّموا غَدَاءهم وعَشَاءهم خصوني بالخبز، وأكلوا التمر، لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يدِ رجلٍ منهم كِسْرة خبز إلا نفحني بها، قال: فأستحي فأردّها على أحدهم، فيردَّها عليَّ ما يمسّها.
قال ابن هشام: وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث، فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليَسَر، وهو الذي أسره ما قال، قال له أبو عزيز: يا أخي، هذه وَصَاتُك بي، فقال له مصعب: إنه أخي دونك، فسألتْ أمُّه عن أغلى ما فُدِى به قُرَشيّ، فقيل لها: أربعة آلاف درهم، فبعثتْ بأربعة آلاف درهم، فَفَدَتْهُ بها”، (سيرة ابن هشام 1/645-646).
عبء الدعوة
ما أعظم هذا الموقف من هذا الصحابي الجليل، الذي فَضَّل أخاه في الإسلام على أخيه في النسب، هؤلاء هم الرجال الأوائل والصحابة الكرام، رضي الله عنهم أجمعين الذين قاموا بعبء الدعوة، وأخلصوا لله أعمالهم، وحملوا لواء الإسلام عالياً خفاقاً، ونشروا الإسلام في ربوع الكون بالحكمة والموعظة الحسنة، فطأطأ لهم الجميع إجلالاً واحتراماً.
هذا هو مصعب بن عمير رضي الله عنه قدوة الشباب المؤمن في كل عصر، لذلك، فإن، الواجب على شباب الأمة دراسة سيرة الصحابة الكرام، رضي الله عنهم أجمعين ليستخلصوا منها المواعظ والعبر، “فقد ورد أن النبي عليه الصلاة والسلام وقف عند مصعب بن عمير، وعيناه تذرفان بالدموع، وقال: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً”، ثم قال: صلى الله عليه وسلم: “أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فَأْتُوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه”، (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/159-160).
الدكتور يوسف جمعة سلامة
خطيـب المسـجد الأقصـى المبـارك
ساحة النقاش