رسم لناصر خسرو للفنان عصام طه
عمرو أبوالفضل - الرحالة ناصر خسرو أحد أشهر الرحالة المسلمين، وعدت رحلته من أهم الرحلات الإسلامية لأنها سجلت مشاهدات مهمة وتناولت قضايا فكرية سبق بها أقرانه من المفكرين والأدباء، وكانت أول رحلة في اللغة الفارسية.
ويقول الدكتور كارم غنيم- رئيس جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة والأستاذ بجامعة الأزهر- ولد ناصر خسرو بن الحارث القبادياني المروزي، ببلدة من أعمال خراسان عام 394هـ، ونشأ في عائلة فارسية اشتهر أفرادها بشغل الوظائف الإدارية في منطقتهم، منهم أبوالفتح عبدالجليل الذي تولى منصباً إدارياً رفيعاً خلال وزارة عميد الملك الكندري وزير ألب أرسلان السلجوقي. وبدأ تلقي دروسه صغيراً بحفظ القرآن الكريم وتعلّم شيئاً من الخطب والأشعار العربية والفارسية، وحصل طرفاً من العلوم الإسلامية في الفقه والشريعة والحديث والتاريخ، وعرف بالذكاء والفطنة وامتلاك قريحة متقدة، وأظهر نبوغاً مبكراً وشاعرية وميلاً إلى الفلسفة والعلوم والرياضيات، ما أهله للالتحاق في شبابه للعمل ببلاط السلطان محمود الغزنوي في سنة 421هـ، في مدينة بلخ العاصمة الشتوية للغزنويين، واستمر في عمله طوال عهد الغزنويين مسؤولاً عن الشؤون المالية بالديوان المحمودي حتى سقوط الدولة الغزنوية في أيدي السلاجقة سنة 439هـ، واستعان به بعض سلاطين السلاجقة للعمل في الديوان السلجوقي بمدينة مرو الشهيرة في الأعمال الإدارية، وولاه جغري بك السلجوقي حاكم خراسان أمر خزينته في مرو مدة طويلة.
تحصيل العلم
لم تشغله أعباء عمله عن المطالعة والدراسة وتحصيل العلوم، وشغف بقراءة الفارابي وابن سينا، وكابد حيرة فكرية وقلقاً روحياً، وانكب على البحث في كتب الأديان والعقائد والفلسفة. كما اتصل بعلماء من مختلف الأديان ولكنه لم يظفر بقناعة قاطعة، ولما أضناه القلق وأعياه بحثه عن المذهب الحق، قرر اعتزال كل الأعمال والمناصب، والقيام برحلة يستكشف من خلالها ما يدور حوله في العالم الإسلامي، وفى ربيع الآخر سنة 437هـ-1045م، بدأت رحلته الشهيرة المسماة “سفر نامه” ومعناها مذكرات السفر إلى بلاد الشام ومصر والحجاز، واستمرت حتى عام 444هـ، أي أنها استغرقت قرابة سبع سنين. ويصرح بأنها كانت بقصد الذهاب إلى حيث الشجرة التي تمت تحتها بيعة الرضوان بين الرسول- صلى الله عليه وسلم- والصحابة على الموت في سبيل الله، وقال القرآن عن تلك البيعة: “لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم”، وتقع قرب ماء الحديبية بين مكة والمدينة، وانطلق من موطنه مرو في المرحلة الأولى ومعه أخوه أبو سعيد وغلام هندي إلى أن بلغ تبريز، ثم غادرها إلى بلاد الشام مروراً بالعديد من المدن، إلى أن اجتاز نهر الفرات ونزل أول مدن الشام، ومنها إلى حلب، ثم غادرها ودخل جند قنسرين وسرمين ومعرة النعمان وحماة ثم انتقل إلى طرابلس، ومنها إلى بيروت، ثم توجه إلى صيدا وبعدها ذهب إلى صور فعكا، ومنها مضى إلى طبرية وزار الرملة متوجهاً صوب مدينة بيت المقدس ليزورها.
في مصر
شد الرحال بعد ذلك إلى مصر براً مروراً بعسقلان وتنيس، وارتحل في النيل إلى مدينة الصالحية ودخل القاهرة، وفيها تبدأ المرحلة الثانية من الرحلة، حيث يسترسل في وصفها مدناً وأنهاراً وخيرات وعادات. وخرج من القاهرة في اتجاه الحجاز مرة ثانية بعد ذهابه إليها أثناء إقامته الطويلة في مصر التى استمرت قرابة ثلاث سنوات وثلاثة أشهر. وقد كان خروجه مرحلة جديدة في رحلته، إذ صادف سنة جدب وشدة في الحجاز حتى إن الأعراب هجروا البادية والتجأوا إلى مكة، ما اضطر السلطان إلى أن يجري لهم رزق سنة كاملة، فلما أمطرت السماء واكتست الأرض بالخضرة رحلهم إلى بلاد الحجاز، ووصف في هذه الرحلة المدينة المنورة ومسجد النبي- صلى الله عليه وسلم- ومنبره وروضته الشريفة وقبور الصحابة وآل البيت وبساتين المدينة ونخيلها. كما وصف مكة وأحوالها آنذاك، حيث كاد ينقطع الحجيج في ذلك الموسم. وعاد بعد موسم الحج إلى مصر ليحزم أمتعته ويجمع كتبه التي تركها فيها، وقد أصطحبه معه في العودة إلى مصر أمير مكة الذي كان له راتب من سلطان مصر لقرابته من أبناء الحسين بن علي، وركب معه في السفينة حتى عادا إلى مدينة القلمز ومن هناك سافر برا إلى القاهرة، بعدها قرر العودة إلى خراسان مسقط رأسه، فغادر مصر في سفينة نيلية نحو الصعيد الأعلى ومر بمدينة أسيوط وأخميم وقوص وبعدها شلالات النيل ومدينة عيذاب، ودخل بلاد العرب مرة أخرى، وزار جدة على البحر الأحمر، وعرج على مكة، ودخل بلاد اليمن، ثم عاد إلى مكة المكرمة، وذهب إلى الطائف، وقبل أن يدخل العراق زار مدينة فلنج التي تقع وسط البادية، واليمامة والإحساء والبصرة ومنها عاد إلى إيران.
سجل شامل للعالم الإسلامي
تعتبر رحلة ناصر خسرو من أقدم الرحلات التي وصلت إلينا، فهي أقدم من رحلة ابن جبير وابن بطوطة، ولا تتقدم عليها إلا رحلة ابن فضلان التي كانت قبلها والرحلة سجل شامل للعالم الإسلامي في فترة من أحرج فترات تاريخه الوسيط، وهي فترة التحول في التاريخ الإسلامي والعالمي، حيث كانت الخلافة العباسية تعاني الشيخوخة والتراخي والتفكك وبداية نذر الحروب الصليبية. وله أيضاً مصنفات أخرى كتبها بالفارسية والعربية، منها “الديوان”، و”روشنائينامه” أو الضياء عبارة عن مثنوية تشتمل علي 579 بيتاً منظومة في بحر الهزج المسدس، و”سعادتنامه”، و”زاد المسافرين”، و”خوان اخوان”، و”جامع الحكمتين في الكلام”، و”عجائب الحساب وغرائب الحساب”. وتوفي-رحمه الله- في سنة 481 هـ، في وادي يمكان التابع لمدينة بدخشان الواقعة في أقصى شمال بلاد الأفغان.
ساحة النقاش