الحنفاء:

أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام ببناء الكعبة، لتكون بيت الله الحرام، ومركزاً لدين التوحيد. ثم أمره الله تعالى أن يؤذن في الناس بالحج كما جاء في الآية الكريمة: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتون من كل فجٍّ عميق).

ثم أصابت النكسة العقيدة التي نادى بها إبراهيم الخليل قومه، فانقلبوا إلى عبادة الأصنام، وجهلوا سر الفداء، و سر البقاء. وبدأ عصر الوثنية وتقديس الأصنام. وكان العرب يدركون أن هذه الأوثان لا تعتمد على رسالة أو نبوة، ولكنهم اعتبروها تقليدية وراثية، وجزءاً من عاداتهم المتوارثة. واحتفظ أهل مكة وزعماؤها بالأوثان عند الكعبة، لما كانت تعود به عليهم من فوائد مادية، فقد كانت تجذب آلاف الحجاج فيتحملون مشقات السفر من أجل الحج. ويصبح موسم الحج موسم أسواق تجارية كبرى، وتصبح مكة مركزاً تجارياً عالمياً.

 

قبيل ظهور الإسلام، فقدت الوثنية جوهرها وقوتها، وأصبحت مجموعة من الخرافات والأوهام. وأصبح العرب في حالة قلق ديني، ولكنهم عجزوا عن الوصول إلى ما هو أحسن بحيث يرضي حاجاتهم ومطالبهم، وأصبحوا بخلافات دينية، ويمارسون عبادة الأوثان بدون شعور بإيمان حقيقي([1]).

وظهر نفر من العرب نبذوا الوثنية وتطلعوا إلى عقيدة أسمى، فروى ابن هاشم([2]): "اجتمعت قريش يوماً في عيد لهم عند صنم من أصنامهم، كانوا يعظمونه وينحرون له، ويعكفون عنده، ويديرون به، وكان ذلك عيداً لهم في كل سنة يوماً، فخلص منهم أربعة نفر نجياً، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض.. قالوا: أجل... فقال بعضهم لبعض: تعلموا والله ما قومكم على شيء، لقد أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به، لا يسمع، ولا يبصر، ولا يضر، ولا ينفع؟ يا قوم، التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنكم والله ما أنتم على شيء. فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم".

تنازع بنو هاشم وبنو أمية، بعد وفاة عبد المطلب، السلطة السياسية والروحية في مكة، مما أدى إلى تفريق صفوف قريش من جهة، وإلى مزيد من حرية الناس في التفكير والجهد بالرأي، وإلى إقدام اليهود والنصارى، ممن كانوا يخافون صاحب السلطان، على تعيير العرب عبادة الأوثان. وانتهى ذلك بكثير من أهل مكة ومن القرشيين أنفسهم إلى أن زال من نفوسهم تقديس الأصنام، وإن ظل وجوه القوم بمكة يظهرون لها التقديس والعبادة([3]).

نادى بعض المستنيرين من العرب بالعودة إلى دين إبراهيم الحنيف، وإلى نبذ الوثنية والخلاص من رذائل الجاهلية، ودعوا إلى دين التوحيد، واعتقدوا في البعث والعذاب والعقاب، وأطلق على هذه النزعة التحنف، وعلى أصحابها الحنفاء. ونظروا إلى الحياة نظرة أكثر سمواً، ولكن لم يكن لهم من القوى المادية ومن السلطة السياسية ما يمكنهم من أن يصارعوا التعاليم والعادات القديمة والطقوس الدينية والشعائر المقدسة التي كانت قد تشابكت مع حياة العرب، ولا يمكن القضاء عليها إلا بهدم أسس المجتمع العربي الجاهلي، وهذا ما نجح الإسلام في ما بعد في تحقيقه، إذ خلق مجتمعاً إسلامياً نقياً متحداً.

وإن كانت جهود الحنفاء لم يكتب لها النجاح التام، فإنها قد فتحت آفاقاً جديدة من التفكير، ونجد آثار ذلك واضحة في ظهور عقيدة توحيد الله، ويقظة الضمير، والشعور بالمسؤولية، وصحب ذلك ظهور بعض المشاعر الإنسانية صورها الشعراء في القرن السادس الميلادي في شعرهم.

تحنث محمد:

اعتاد بعض الحنفاء أن ينقطعوا للعبادة زمناً كل عام يقضونه بعيداً عن الناس في خلوة، يتقربون إلى الله تعالى بالزهد والدعاء، ويلتمسون عنده الخير والحكمة، وكانوا يسمون هذا الانقطاع التحنف أو التحنث.

درس ابن هشام([4]) لفظى (التحنث) و (التحنف)، فقال: " تقول العرب: التحنث والتحنف، يريدون الحنفية، فيبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا جدث وجدف، يريدون القبر" وفي الرد على ابن هاشم قال أبو ذر: )... والجيد فيه أن يكون التحنث هو الخروج من الحنث، أي الإثم، كما يكون التأثم، الخروج عن الإثم، لأن تفعل قد تستعمل في الخروج من الشيء، وفي الانسلاخ عنه، ولا يحتاج فيه إلى الإبدال الذي ذكره ابن هشام))([5]).

كان الرسول عليه الصلاة والسلام، قبل البعثة النبوية، يعمل في التجارة، ويشارك في الحياة العربية، ويقوم برحلات بعيدة مع القوافل. وكان مغرماً طوال حياته بالتأمل والبحث الديني، واستفاد من رحلاته الكثيرة كما كانت صحراء بلاد العرب الواسعة بما تحويه من مظاهر طبيعية مختلفة تدعو إلى التأمل، والتفكير في الخالق العظيم. ونبذ محمد دائماً عبادة الأوثان، وبعد تماماً عن رذائل الجاهلية، وكان يؤمن بوجود قوى روحية، وأدرك أن الدين الحقيقي هو ما كان يقوم به آدم من عبادة خالقه، وهو دين التوحيد الذي بشر به جده إبراهيم عليه السلام، وهو عبادة الإله الواحد الحق، خالق العالم.

آمن محمد، قبل نزول الوحي أن الوقت قد حان لقيام حركة إصلاحية كبرى، فقد انحدر العالم إلى الوثنية العمياء، وابتعد الناس عن الطريق القويم، كما رأى أن تعود الكعبة إلى ما كانت عليه زمن جده إبراهيم الخليل. وكانت هذه الأفكار تتوارد على ذهنه دائماً وأثرت في أعماله وأفعاله. فقد كان كثيراً ما ينعزل عن المجتمع وينفرد بنفسه في جبل حراء، على بعد ثلاثة فراسخ من مكة، حيث يقضى عدة أيام في الصلاة والتعبد، وكان يمضي شهر رمضان في غار حراء، وكان لا يشغل ذهنه إلا بموضوع واحد هو الروح.

شعر بعض العرب بحاجتهم إلى الإصلاح ولكنهم ترددوا في انتزاع أول حجر من أسس الوثنية، ولذا كانت جهودهم محدودة، فلم تنجح في التخلص من الماضي، والقضاء على التقاليد البالية التي كانت تنتقض من شأن العرب وأهميتهم في ذلك العصر.

ولم يكن هناك غير محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي كانت تحيط به العناية الإلهية، ويشعر بالغيرة الدينية، وكانت روحه العالية لا تقبل تعدد الآلهة في بلاد العرب، وانتشار الأوثان حول الكعبة وداخلها، وانصراف العرب إلى حياة الترف والشهوات، وأصبح محمد يفكر دائماً في تحطيم هذا النظام القائم، وقيام مجتمع نقي قوي سليم([6]).

كانت العناية الإلهية تحيط بمحمد عليه الصلاة والسلام، وتعده ليكون خاتم الرسل والأنبياء، فيروي الطبري([7]): وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل أن يظهر جبريل عليه السلام برسالة الله عز وجل فيما ذكر عنه، يرى ويعاين آثاراً وأسباباً من آثار من يريد الله إكرامه واختصاصه بفضله، فكان من ذلك ما قد ذكرت فيما مضى من خبره عن الملكين اللذين أتياه فشقا بطنه واستخرجا ما فيه من الغل والدنس وهو عند أمه من الرضاعة حليمة السعدية، ومن ذلك أنه كان إذا مر في طريق لا يمر فيما ذكر عنه بشجر ولا حجر فيه إلا سلم عليه".

حينما كان محمد صلى الله عليه وسلم في الثالثة من عمره، وبينما كان يلعب في الحقول مع أخيه في الرضاعة، ظهر له ملكان يشع منهما النور، فأرقدا محمداً في رفق على الأرض وشق أحدهما، وهو جبريل عليه السلام، صدره بدون أن يسببا له ألماً، ثم نزعا قلبه وطهراه من الحقد والشر الذي زرع في القلوب منذ عهد جدنا آدم، والذي كان يؤدي بالبشر إلى ارتكاب الآثام. ثم ملأ الملكان قلبه بالإيمان والمعرفة والنور، ثم أعاداه إلى مكانه في صدر الطفل العظيم.

روى ابن هشام([8]) أن الرسول عليه الصلاة والسلام أجاب على بعض أصحابه، وكانوا قد سألوه: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام، واستعرضت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخي لي خلف بيوتنا، نرعى بهماً لنا، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض، بطست من ذهب مملوء ثلجاً، ثم أخذاني، فشقا بطني، واستخرجا قلبي، فشقاه، فاستخرجا منه علقة سوداء، فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج، حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه زنة بعشرة من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنة بمائة من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، فقال: زنة بألف من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فو الله لو وزنته بأمة لوزنها".

محمد في غار حراء:

غرس الله تعالى في قلب محمد حب الوحدة، فأصبح مشغوفاً بفضاء الله الواسع يسبح فيه فريداً. وكانت روحه التي اصطفاها الله تجد متعة أسمى وأروع في الهرب من الضلال الديني والانحلال الخلقي اللذين سادا الجزيرة العربية آنذاك. فكان محمد يستسلم لرغبة قوية عنيفة تسيطر على نفسه وتتجه به نحو الوحدة والعبادة.

كانت الخلوة، لمحمد، أعظم مهرب، فقد صفت قلبه من كل مشاغل هذا العالم، ولذا أطلقت عليه الآثار "صفاء الصفاء"، وتشربت روحه، رويداً رويداً، روح الصحراء، فبصرته بعظمة الله اللانهائية. وفي الصحراء اتصلت أسرار الطبيعة بأعماق نفسه وغمرته في قوة، حتى لقد أوشكت أن تخرج من فمه تلك الحقائق الخالدة التي انتزعت من (كارلايل)، المفكر الإنجليزي المشهور، صيحة الإعجاب التي يقول فيها: "حقاً إن أحاديث هذا الرجل قد صدرت مباشرة من قلب الطبيعة، ومن الطبيعي أن تجتذب أفئدة من بني البشر فيستمعوا إليه، ويجب أن يستمعوا إلى غيرها، فكل ما عداها هباء إذا قورن بها"([9]).

اعتاد بعض والمؤمنين بالله تعالى أن يتحنثوا ويخلوا لأنفسهم. وكانت عبادة هؤلاء تشمل إطعام المساكين ممن يلجؤون إلى الغار، لأنه كان من نسك قريش في الجاهلية أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين في هذا المكان.

وكان لمحمد، عليه الصلاة والسلام، شغف بالوحدة منذ الصغر، ولكن وحدته طفلاً وفتىً ويافعاً وصبياً كانت وحدة الحزن والألم، إذ ولد يتيماً، ولكن وحدته في غار حراء بجبل أبي قبيس كانت من نوع آخر، فقد كان ينشد المعرفة بطريق الإشراق ويستلهم ما في الكون من أسبابها([10]).

وصف المؤرخ الطبري([11]) تحنث الرسول، عليه الصلاة والسلام، في غار حراء في رمضان فقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً، وكان ذلك مما تتحنث به قريش في الجاهلية، والتحنث التبرر. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاوز ذلك الشهر من كل سنة يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك، كانت الكعبة أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعاً أو ما شاء الله من ذلك ثم يرجع إلى بيته، حتى إذا كان الشهر الذي أراد من كرامته من السنة التي بعث فيها، وذلك في شهر رمضان".

تزوج محمد صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة بنت خويلد، التي وهبته إخلاصها وحنانها، فلم يشغله حبها عن ربه، ولم تلهه تجارتها وأموالها عما هو عازم عليه من العمل لما يقربه إلى الله عز وجل. فأعرب لزوجته عن رغبته في الانقطاع عن الناس وملازمته الحلوة في غار حراء، واتخاذها مدرسة يطلب فيها الهدى من عند الله. فلم تعارضه في ذلك، بل إنها شجعته على المضي في طريقه، وصارت تعينه عليه.

لقد شغل ذكر الله عز وجل قلب محمد عليه الصلاة والسلام، وهيمن التفكير في آلائه على سائر حواسه، وهو يرجو من الله سبحانه وتعالى أن يلهمه ما يرضيه من العبادات([12]).

كان محمد يقصد غار حراء في رمضان من كل سنة، يحمل القليل من الزاد؛ فقد اشتهر دائماً بالزهد والقناعة، فيمعن التأمل، ويكثر من العبادة، بعيداً عن الحياة، وما حفلت آنذاك من صخب وآثام، مفكراً في الخالق العظيم، فيفطن إلى ضلال قومه من قريش، الذين نبذوا عبادة الله الواحد الأحد، وانغمسوا في عبادة الأوثان، وفي رذائل الجاهلية وترفها.

جاء في السيرة الحلبية([13]): "قيل: كان تعبده صلى الله عليه وسلم التفكر مع الانقطاع عن الناس، وقيل تعبده صلى الله عليه وسلم كان بالذكر... وقيل: كان يتعبد قبل نبوته بشرع إبراهيم... وقيل: بكل ما صح أنه شريعة لمن قبله غير ما نسخ من ذلك في شرعنا".

قالت السيدة عائشة رضي الله عنها، عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "وحبب الله تعالى إليه الخلوة، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده"([14]). فكان الرسول عليه الصلاة والسلام يخلو إلى نفسه في غار حراء، ويقع إلى جانب من جبل النور، ذلك الجبل الذي يقع على بعد ثلاثة أميال، تقريباً من مكة شمال طريق عرفة. وقد صاغت الطبيعة هذا الغار داخل حجر الصوان الأحمر. وهناك يقضى محمد شهراً في خلوة تامة. وفي هذا الغار وفي رمضان المعظم، نزل الوحي بكتاب الله العزيز، القرآن الكريم، وبدأ دور جديد عظيم في تاريخ البشرية جمعاء.

 

 


[1]. خودابخش: الحضارة الإسلامية (من ترجمتنا) ص29.

[2]. سيرة ابن هشام ج1 ص 37.

[3]. هيكل: حياة محمد ص 125.

[4]. سيرة ابن هشام ج1 ص251.

[5]. انظر الحاشية في سيرة ابن هشام ج1 ص251.

[6]. خودابخش: الحضارة الاسلامية ص6.

[7]. تاريخ الطبري ج2 ص 44.

[8]. سيرة ابن هشام ج1 ص 165.

[9]. إتين دينيه: محمد رسول الله ص87.

[10]. لطفي جمعة: ثورة الاسلام ص 514.

[11]. تاريخ الطبري ج2 ص 48.

[12]. الخطيب أسمى الرسالات ص 43

[13]. ج1 ص 277.

[14]. سيرة ابن هشام ج1 ص250.

المصدر: رابطة شباب مستقبل سوريا
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 580 مشاهدة
نشرت فى 6 أغسطس 2012 بواسطة alsanmeen

ساحة النقاش

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,180,481