أحمد محمد - ذكر القرآن الكريم “ذا الكفل” بالثناء عليه مقرونا مع عدد من الأنبياء وقد وصفه بوصفين، أنه من الصابرين، والصبر من شيم الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من الصالحين، وأنه من الأخيار، أي من المختارين المجتبين، وهو وصف شارك فيه غيره من الأنبياء عليهم الصلاة السلام.
وتكرر اسم ذي الكفل في القرآن الكريم مرتين في قوله سبحانه: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين، وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين)، وقوله تعالى: “واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار”، ولم يأت له ذكر في غير هذين الموضعين.
وجاء في تفسير “التحرير والتنوير” أي وآتينا إسماعيل وإدريس وذا الكفل حكما وعلما، وجمع هؤلاء الثلاثة في سلك واحد لإشراكهم في صفة الصبر، كما أشار إليه قوله تعالى “كل من الصابرين”.
وجاء في “التفسير الكبير” أي المختارين من أبناء جنسهم وهم من الأخيار، واحتج العلماء بهذه الآية في إثبات عصمة الأنبياء، قالوا لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخيارا على الإطلاق، وهذا يعم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات. ولم يذكر في القرآن شيء عن دعوة النبي ذي الكفل ورسالته والقوم الذين أرسل إليهم لا بالإجمال ولا بالتفصيل.
ويقول أصحاب السير، هو ذو الكفل ابن نبي الله أيوب، واسمه في الأصل بشر، وقد بعثه الله نبياً بعد أبيه، وسماه “ذا الكفل” لأنه كان قد تكفل لبني قومه بأن يكفيهم أمرهم ويقضي بينهم بالعدل، وكان يصلي كل يوم مئة صلاة، وكان مقامه في الشام وأهل دمشق يتناقلون أن له قبراً في جبل هناك يسمى قاسيون.
ولم يورد المؤرخون ومنهم الرازي عنه إلا الشيء اليسير، لكن الذي عليه أكثر المفسرين أن ذا الكفل نبي من الأنبياء، وقال ابن كثير، وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قُرن مع الأنبياء إلا وهو نبي، وقال الآلوسي، وظاهر نظم ذي الكفل في سلك الأنبياء أنه منهم، وهو الذي ذهب إليه الأكثر، وقيل هو خليفة اليسع في نبوة بني إسرائيل.
الأدلة الثلاثة
وذهب آخرون إلى أن ذا الكفل ليس بنبي، بل كان رجلاً صالحاً، قال مجاهد إنه رجل صالح غير نبي، تكفل لبني قومه أن يكفيه أمر قومه، ويقيمهم له، ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فسموه “ذا الكفل”. وقد توقف شيخ المفسرين الطبري في هذا الأمر، فلم يقطع بنبوة ذي الكفل، ولم يقطع بكونه غير نبي.
أما الرازي، فقد استدل على أن ذا الكفل نبي بثلاثة أدلة الأول، أن ذا الكفل يحتمل أن يكون لقبا، وأن يكون اسماً، والظاهر أن الله تعالى إنما سماه بذلك على سبيل التعظيم، فوجب أن يكون ذلك الكفل، هو كفل الثواب، فهو إنما سمي بذلك لأن عمله وثوابه، كان ضعف عمل غيره، وضعف ثواب غيره، ولقد كان في زمنه أنبياء، ومن ليس بنبي لا يكون أفضل من الأنبياء.
الثاني: إنه تعالى قرن ذكره بإسماعيل وإدريس، والغرض ذكر الفضلاء من عباده، ليتأسى الناس بهم، وذلك يدل على نبوته.
الثالث: إن السورة ملقبة بسورة الأنبياء، فكل من ذكره الله تعالى فيها فهو نبي.
وروى المفسرون عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: “إن نبيا من أنبياء بني إسرائيل، آتاه الله الملك والنبوة، ثم أوحى الله إليه أني أريد قبض روحك، فاعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن تكفل لك أنه يصلي بالليل حتى يصبح، ويصوم بالنهار فلا يفطر، ويقضي بين الناس فلا يغضب، فادفع ملكك إليه، فقام ذلك النبي في بني إسرائيل وأخبرهم بذلك، فقام شاب، وقال أنا أتكفل لك بهذا، فقال في القوم من هو أكبر منك فاقعد، ثم صاح الثانية والثالثة، فقام الرجل، وقال أتكفل لك بهذه الثلاث، فدفع إليه ملكه، ووفَّى بما ضمن، فحسده إبليس، فأتاه وقت القيلولة، فقال إن لي غريما قد مطلني حقي، وقد دعوته إليك فأبى، فأرسل معي من يأتيك به، فأرسل معه، وقعد حتى فاتته القيلولة، ودعا إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح، ثم أتاه من الغد عند القيلولة، فقال إن الرجل الذي استأذنتك له في موضع كذا، فلا تبرح حتى آتيك به، فذهب وبقي منتظراً حتى فاتته القيلولة، ثم أتاه فقال له هرب مني، فمضى ذو الكفل إلى صلاته، فصلى ليلته حتى أصبح، فأتاه إبليس وعرفه نفسه، وقال له حسدتك على عصمة الله إياك، فأردت أن أخرجك حتى لا تفي بما تكفلت به، فشكره الله تعالى على ذلك ونبأه، فسمي “ذا الكفل”.
كفالة
وقد روي خبر ابن عباس رضي الله عنهما ابن كثير، ولم يعقب عليه، ما يدل على قبوله له، ونقل القرطبي عن كعب أنه كان في بني إسرائيل ملك كافر فمر ببلاده رجل صالح فقال، والله إن خرجت من هذه البلاد حتى أعرض على هذا الملك الإسلام، فعرض عليه، فقال ما جزائي ؟ قال الجنة ووصفها له، قال من يتكفل لي بذلك، قال أنا، فأسلم الملك وتخلى عن المملكة وأقبل على طاعة ربه حتى مات، فدفن فأصبحوا فوجدوا يده خارجة من القبر وفيها رقعة خضراء مكتوب فيها بنور أبيض إن الله قد غفر لي وأدخلني الجنة ووفى عن كفالة فلان، فأسرع الناس إلى ذلك الرجل بأن يأخذ عليهم الأيمان، ويتكفل لهم بما تكفل به للملك، ففعل ذلك فآمنوا كلهم فسمي “ذا الكفل”، وقيل كان رجلاً عفيفاً يتكفل بشأن كل إنسان وقع في بلاء أو تهمة أو مطالبة فينجيه الله على يديه، وقيل سمي “ذا الكفل” لأن الله تعالى تكفل له في سعيه وعمله بضعف عمل غيره من الأنبياء الذين كانوا في زمانه. وقيل مات ذو الكفل وكان عمره خمسا وسبعين سنة على ما يرويه أهل التواريخ، ويقال إن قبره في قرية كفل حارس من أعمال نابلس في فلسطين.
ساحة النقاش