هكذا كانت البداية ولمَّا تزل. ليس الفيلسوف ذاك الذي يمتلك الحجر، إنما الفيلسوف هو الحجر ذاته. غير أن توجُس الإنسان الدائم من المجهول وتوقه إلى الخلود صنّعا له أسطورةَ الحجر، فالمعرفة تُصيِّرُ المعادن ذهباً لا يبلى وفق تفكير الأقدمين، وتستبطنُ سرَّ الحياةِ وإكسيرها، ذلك الترياق المُذل لجبروت الزمان. وعُرف هذا الحجر بأنه حجر للفلاسفة، ذلك أن الناس عرفوا الفلاسفة بأنهم هم لا غيرهم سُكَّان دُنيا الأفكار. إلا أنني لا أريد من مصطلح حجر الفلاسفة هذا إلا رمزيته لما هو موضوعي في الخطاب الفلسفي، ولننطلق منه كمقدمة لتأكيد بدهية فلسفية مفادها أن ليس للفلسفة موضوع بذاتها، فقد دشنت الفلسفة نفسها بـ «لا أعرف»، مُولدةً بذلكَ عطشاً معرفياً غير متناهٍ، تعيش به في مفازة من الشك والريبة والغربة، تراقب منها الكون الواسع وتفاصيله الصغيرة، بنظرة الدهشة والشفقة وشعور عميق بالاستغراب والحيرة حيال كل مكوناته وتناقضاته وغفلة أهله.
تنطلق سيرة الإنسان من الحيوية المدفوعة بالحاجة والرغبة والشوق إلى السكينة، في دورة متكررة في تاريخ الإنسان الفرد والجماعة، فالسكينة والدعة هما هدف الإنسان المعلن واللامعلن، الذي يفسر معظم تصرفاته وصراعه في هذا الوجود. وما إن يبلغ الإنسان مرحلة السكينة تلك تَتَطَبَّعُ الأشياء من حوله وتتشابك وتتلاحم لتُكوّن مكونات جديدة، فيألفها على ما هي عليه ويغيب عنه جوهرها وحقيقتها، ويغدو مُستَلباً بالتفاصيل الصغيرة التي تحجب عنه استحضار الأفكار الكبرى التي كانت ذات يوم المنبع الذي تولدت منه هذه الأفكار والتفاصيل. بمعنى آخر، فإن كل الأفكار حول الإنسان مهما بلغت من الحيوية والتوقد لا بد لها من أن تأسن وتعطب، إلا أن بعض تلك الأفكار أشد تعرضاً للأسن من غيرها، وتأتي في مقدمها الأفكار الغيبية. وفي هذه اللحظة، تأتي أهمية تجديد تلك الأفكار، والمقصود من التجديد هو الاستحضار الواعي للمبادئ المؤسِّسة للفكرة والعقيدة واستخدامها للانطلاق في مواجهة التحديات الآنية بثورة نابضة حية وواعية.
إن ابتعاد التجليات السلوكية للفكرة والإيمان في شكل قصي عن المنابع والجذور، يلغي الخصائص التي تمايزت بها تلك الأفكار والعقائد بعضها عن بعض في أول الأمر. ففي حالة الأفكار والعقائد الدينية على سبيل المثل، نجد كثيراً ما تلتغي كل المسائل المُمِيِّزة لتلك الديانة لحساب عناصر مشتركة كبرى تجمع كل الاعتقادات الروحية، حتى ليخلص الناظر إلى نتيجة مفادها تساوي تلك الأديان. وبالطبع ليس التساوي هنا في العقيدة أو الفكرة الدينية ذاتها، ذلك أن اختلافاتها الجوهرية من الوضوح بمكان.
وهل الفلسفة استثناء من هذا القضاء؟ لقد أدركت الفلسفة هذا الأمر، ومنها كان همها الأكبر هو اكتشاف - إدراك «الخدعة» في أقصر وقت ممكن، فتعيد تجديد روحها وانتشالها من المستنقع الآسن، وهي الروح المتمثلة في أصالة النظر وجديته في الكون والإنسان والأشياء من حولها، من أجل الفهم الحقيقي أولاً، ومن ثم التوجيه والتثوير. بهذا، تُفهم مقولة أن «الفلسفة لا تموت»، ذلك أن مَوضِع الفلسفة من الأفكار الموضوعية هو موضِع الرُّوح من الجسد، فتنسلخ تلك الروح ما إن يبدأ ذلك الجسد الفناء.
ولئن حاولنا الاقتراب من طبيعة الفلسفة بقراءة طبيعة الفيلسوف، وجدنا أن وصف الفيلسوف بالحجر يقربنا من حقيقة الفيلسوف وطبيعته، ومن ثم من حقيقة الفلسفة وطبيعتها. فالفيلسوف هو فعلاً ذلك الحجر المنفلت بقوة صوب تلك البركة الراكدة الآسنة، إلا أن هذا الفعل لا بد له من مقدمات واستعدادات نفسية وذهنية في شخص الفيلسوف، تتصدرها حدة الوعي. ففي ذهنه تنتصر الكليات الوجودية على كل تفاصيل الحياة، وبعينيه يرى تناقضات الكون، ويكوِّن علائق وروابط مختلفة بين مكوناته غير تلك التي طُبِع الناس عليها وألفوها، وبأذنيه يصغي إلى صوت الوجود والعالم والكون، تلك الماكينة الضخمة الجبارة المخيفة المعلقة في اللاشيء. وعندما تقفز تفاصيل الحياة إلى ذهنه وتتراقص أمام عينيه، لا يسعه إلا أن يقابلها بشعور من الامتعاض والتفاهة، ذلك أن حضورها دائماً ما يتوافق مع جثوم الكليات والأفكار الأكبر على صدر الفيلسوف وفكره، فتذبل تلك لمصلحة هذه، وبذا تكون الحياة هي ما هي، مملة ورتيبة ومقلقة ومُخيفة. وعلى رغم كثرة تفاصيلها الصغيرة ومشاغلها الكثيرة فإنها فشلت في أن تُلهيه عن طبيعتها وتصرف ذهنه عن جعلها موضوع تفكيره الدائم، فبمجرد أن تكون الحياة موضوعاً في ذهنك معناه أنك فصلت نفسك عنها، وأصبحت أنت «أنت»، شيئاً مختلفاً عنها، لا مجرد عنصر من عناصرها. وكلما طالت المدة زادت الهوّة، وعظم البين، واشتد الخوف والقلق، وفي تلك اللحظة بالتّحديد، تبدأ تسديد نظرك إلى عوالم أخرى، باحثاً عن ملجأ، إلا أن تلك العوالم التي يمَّمت تفكيرك نحوها، ليست أفضل حالاً من هذه التي أنت فيها، ذلك أنها مُلغّزة بأشد ما يكون التلغيز، وهذه هي لحظة الانسداد التي تدرك فيها أنك «قطاةٌ» غرَّها شَركٌ فباتت تُجاذبه وقد علق الجناحُ.
هل الحياة ورطة بالنسبة إلى الفيلسوف؟ لا أريد مناقشة هذا السؤال الآن، ذلك أن الأهم هو الشعور باللانتماء الذي يعيشه الفيلسوف حيال كل الأشياء من حوله، وهو أمر في غاية الأهمية للأفكار والآراء والنقد التي تصدر عن الفيلسوف، ذلك أن النقد والآراء تمضي بصورة عكسية مع مقدار الانتماء إلى الأفكار والعقائد موضع النقد، وعليه فإن اصطلاح «النقد من الداخل» يحمل في داخله اضطراباً، أو على الأقل أنه يحبل بمخاض يتمثل في الابتعاد التدريجي للذات الناقدة من المركز تجاه الأطراف تمهيداً للانفصال عن محل النقد.
ثم إن الفيلسوف يجد لذَّته في استكشاف الخدع وفي كشف الحُجُب التي تلقيها الحياة على الإنسان، وهذا الأمر يحبل بدهشات وصدمات غير منقطعة، تجعل الفيلسوف أبعد ما يكون عن اليقين والاطمئنان، فذلك هو قدره، ومن هنا لم يكن الشك طريقاً إلى اليقين، بل هو طريق مفضٍ إلى شك آخر، فالشك المحض لا يقود إلى اليقين، بل يبقي الذات الشاكّة في شكوكها، في حال من القلق والإضراب والتفكر الدائم، وحال من الحيوية الفكرية الأصيلة النابضة. وهذه الحال أدعى إلى أن تتلبس المفكر الجادّ من غيرها. لذلك، فإن «الشك يقود إلى اليقين» إنما هي مقولة من أراد التمرغ في مطلقاته من دون أن يُلفحَ بنار ذاته الواعية، سمِّها «تخريجة» أو حيلة مخاتلة. هي الهروب من مفازة اليقين المقفرة إلى صخرة الشك، كيما تقفز منها إلى محيط اليقين الآسن مرة أخرى. جُل أولئك الذين جنحوا إلى اليقين بعد ثورة الشَّك إنما هم مهادنون، كالمحارب أضناهُ القتال وأشقاه الاقتتال حتى فقد المعنى من تلك المعمعة، لقد آثر السلام طلباً للسلام، كُلُّ شَيْءٍ مقبول إلا أن يكون حرباً. السلام للسلام. ثم إن تلك القفزة إلى محيط اليقين هي الهدنة المطلوبة لذاتها، فقط لأنها ليست شكّاً. إلا أن الشّاك أقوى شكيمة من ذلك المحارب، فهو يُوجِدُ لنفسه تبريراً أمام نفسه حتى يتقي سياط الضمير النابت في بذور الشك. وبذلك فإنه يخرجُ إلى اليقين موقناً بيقينه. ولا غرو فالوعي مخيف ومرهق، والشكُ طريق من الشوك.
وأخيراً، دائماً ما يعرض عند النقاش عن الأطروحات الفكرية مسألة «الاتساق النظري»، والمعنى العام للاتساق النظري عند الفيلسوف، هو أن يصدر الفيلسوف في آرائه حيال القضايا المتنوعة عن ذات الرؤية الفكرية. أو بصورة أخرى، فإن معرفة الرؤية الفكرية للفيلسوف تُمكِّن من معرفة أو على الأقل التكهن بآرائه تجاه القضايا المعروضة أمامه، فكل تلك الآراء مهما اختلفت وتشعبت يمكن ردها إلى أصل جامع، هو رؤية الفيلسوف الفكرية، وهذه الأخيرة تعني أن الفيلسوف دائماً ما يطور فهماً خاصاً للعلاقات التي تربط مكونات الوجود والحياة وغاياتهما ووظائفهما بعضها ببعض، وهذا الفهم الخاص هو لب الرؤية الفكرية.