أقبل الليل على السفينة وهي في عرض المحيط؛ فثارت الأمواج تأخذ السفينة إلى قمتها، ثم تقذفها دفعة واحدة إلى أسفل؛ حتى انهارت مقاومتها، لتهوي إلى الأعماق، ونجا من ركابها رجل، قذفه الموج إلى شاطئ جزيرة مجهولة.. ثم أيقظته حرارة الشمس.
أخذ الرجل يفكّر فيما مرّ به من أحداث، وتلك الأقدار التي أخذته من أحضان أسرته وشركاته وأمواله، وألقته على ظهر تلك الجزيرة الموحشة.. ماذا قدّمت في حياتي حتى أنال هذا العقاب؟ ولماذا أنا دون البشر أواجه هذا المصير المؤلم وأعيش وحيدًا على جزيرة نائية لم تطأها قدم إنسان من قبل؟ ولماذا لم أعانق الموت وسط الأمواج فأستريح من ذلك العذاب الذي يعتصرني كمدًا؟!
ومرت شهور، والرجل يلتقط طعامه من غابة الجزيرة، ويشرب من جدول صغير، ويبيت ليلته في كوخ صغير بناه بالقرب من الشاطئ، يحتمي به من برد الليل وحر النهار.
وذات يوم، ضربت صاعقة كوخه البسيط؛ فالتهمته النار على الفور؛ فأخذ الرجل يصرخ: لماذا يا رب؟ لماذا تعاقبني دائمًا بقسوة؟ لماذا تنهال عليّ المصائب متتابعة؟ وبات الرجل حزينًا، وقد ألقى الحزن أستاره السوداء على قلبه، وفي الصباح كانت بانتظاره مفاجأة؛ إذ وجد سفينة تقترب من الجزيرة؛ فسألهم الرجل في دهشة: "كيف عرفتم مكاني وتلك الجزيرة جدباء لا تُغري السفن بالاقتراب منها"؛ فأجابوا: لقد رأينا نيرانًا ودخانًا عاليًا؛ فعلمنا أن شخصًا يطلب المساعدة".
إننا معشر البشر نرى الأمور بأعيننا، ونثق في أحكامنا ومشاعرنا، وقد نظنها عين اليقين، وقد تكون عند البحث عين الخطأ؛ فحينما تتعثر أقدامنا، ويضيع ما كنا نتمناه، نندب حظنا، والقدر الذي يعاندنا، ونلوم السماء التي تريد أن تحرمنا السعادة.. نفعل ذلك وقد لا ندري أن يكون في ما يصيبنا الخير كل الخير.
كاتبنا المبدع عبد الوهاب مطاوع كان في البداية يتمني أن يكون مؤلّفًا مسرحيًّا عظيمًا ينافس توفيق الحكيم، يكتب مسرحيات قادرة على انتزاع صيحات الإعجاب وآهات الجماهير.. وصوّرت له أحلامه أن يخوض أول تجربة مسرحية؛ فكتب مسرحية ليقدّمها فريق التمثيل بمدرسته الثانوية.. وأثناء البروفات مرض مرضًا شديدًا ألزمه الفراش لمدة شهر كامل، وأضاع عليه فرصة مشاهدة مسرحيته الأولى.
ولاحظ أن أصدقاءه يتجنبون الحديث عن المسرحية؛ بينما هو في شوق للاستماع إلى آهات الإعجاب، وعبارات الاستحسان عن عبقريته المسرحية.. إلى أن أخبره صديق أن البطل الذي اختاره ليمثّل دور البطولة انتهز فرصة مرضه؛ فقدم المسرحية باسمه كمؤلف لها وليس فقط كبطل لأحداثها.
وتألّم لهذه "الخيانة الثقافية"، وسرقة عمله المسرحي الأول، "والآن وبعد هذا السنوات الطويلة؛ فإنني أُدرك حكمة هذا الخير الذي خفي عني وقتها وتألمت في حينه؛ إذ ربما لو كنتُ جرّبت نشوة الإعجاب وتصفيق الجمهور بما كتبتُ وقتها لصدّقت بالفعل أنني مؤلف مسرحي، ولأهدرت طاقتي وعمري في طريق لم تهيّئني له العناية الإلهية، ولعانيت مرارة الفشل والإحباط حين أطرق بابًا لا يستجيب لطرقاتي".
والمؤمن الحق هو من يصبر على قدَر الله، ما دام ليس له فيه بدّ، ويعلم أن الخير قد يأتيه من حيث يراه الناس الشر، مثلما تختفي قطرات المطر خلف الغيوم والسحب الداكنة.
وأعظم دروس الاستسلام لحكمة الله نقرؤها في قصة نبي الله موسى مع العبد الصالح؛ تلك القصة التي ألقى القرآن عليها أستارًا من الغموض؛ فلا ندري زمانها ولا مكان أحداثها، ولا نعرف شخصية العبد الصالح.
ربما كان هذا الغموض مردّه إلى ما تحويه من أمور يقصر دونها علمنا البشري.
فنحن هنا مع موسى كليم الله، وأحد أولي العزم من الرسل، أنزل الله عليه التوراة دون واسطة، وكلّمه الله تكليمًا.. هذا النبي العظيم يتحول إلى طالب علم متواضع يحتمل أستاذه ليتعلم منه.
ويخبره العبد الصالح أنه لن يصبر؛ فهناك تصرفات سيأتي بها تثير دهشته، وترتفع في نظره إلى مرتبة الجرائم؛ فظاهر الأمور مصائب وكوارث؛ لكنها تُخفي في باطنها رحمة من الله.
ها هما الاثنان يسيران على ساحل البحر؛ فيستقلان سفينة، وحين ترسو يخرقها العبد فيأخذ منها لوحًا ويلقيه في المياه، فيختفي بين الأمواج، ويتعجب موسى: أناس يفعلون معنا الخير؛ فنقابله بالإساءة؟!
وماذا كان موقف أصحاب السفينة المساكين؟ ربما لاموا حظهم السيئ، وعاتبوا الأقدار التي ابتلتهم بذلك الخرق الذي سيعطلهم عن مواصلة اصطياد رزقهم من البحر..
ويُكمل موسى والعبد سيرهما، ويمران على حديقة يمرح بها أطفال؛ حتى إذا تعبوا من اللعب وانتحى كل واحد منهم ناحية واستسلم للنوم، فوجئ موسى بالعبد يقتل غلامًا، ويثور موسى؛ تلك جريمة قتل؟ ولمن؟ لغلام بريء لم يرتكب أي جرم؟
وماذا كان موقف والديْ الغلام؟ هل ندبا حظهما لأن الموت اختطف ابنهما صغيرًا؟ هل تساءلا لماذا يُقتل وهو بعد طفل بريء؟
ويقترب العبد وموسى من قرية أهلها بخلاء، يرفضون استضافتهما، ويجد العبد جدارًا أوشك على التهدم؛ فيقيمه، ويتعجب موسى.
وهنا يكشف العبد عن حكمة الله؛ فالسفينة أنقذها الله بالخرق من ملك يستولي على السفن ليستخدمها في حربه، ولو وجدها سليمة لضمّها إلى أسطوله، وضاعت على أصحابها المساكين.
والغلام كان سيصير في شبابه عاتيًا في الكفر، وربما جرَف والديه معه إلى الجحيم؛ فأراد الله أن يُبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة وأقرب رحمًا.
والجدار فكان لغلامين يتيمين، ويخفي داخله كنزًا لأحد أجدادهم، ولو ترك العبد الجدار لسقط واستولى عليه أهل تلك القرية البخلاء؛ فأراد ببنائه حرمانهم من الكنز، وادخاره للغلامين حتى يكبرا.
تلك هي حكمة الله التي توارت عن عيون البشر؛ حتى عن نبي يتلقى الوحي، وكان الدرس الإلهي بأن الكوارث تُخفي داخلها أحيانًا الرحمة، وترتدي النعم ثياب المصائب، وأن ما نراه شرًّا وانتقاصًا من سعادتنا ربما كان يكمن فيه الخير، كل الخير.
فهل من متدبر؟!
إشراقة: عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير.. ليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن.. إن أصابته سراء شكَر فكان خيرًا له.. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له.. (رسول الله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام).
ساحة النقاش