القواعد النحوية وسيلة لضبط الكلام، وصحة النطق والكتابة؛ لذا تزيد الخطة المقدرة لها على خطة كثير من فروع اللغة العربية في العملية التعليمية، ويبذل فيها المعلمون جهدًا واضحًا، وبالرغم من ذلك هي من أعقد المشاكل التربوية؛ إذ هي من الموضوعات التي يشتد نفور الطلاب منها، ويضيقون ذرعًا بها، ويقاسون في سبيل تعلمها العنت، ولقد أدت هذه الحال إلى شبه معاداة لاستخدام القواعد النحوية في الكلام، فاستبد الضعف بشأنها في الطلاب ولم يعودوا يحتفلون بأمرها، بل كثيرًا ما كان ذلك سببًا في كراهيتهم للغة العربية بجملتها، وهذه الظاهرة في حاجة إلى بحث علمي ينتهي إلى معرفة مظاهرها، والأسباب الكامنة وراءها؛ لعلاجها على أسس تربوية صحيحة.
يجد المعلمون أخطاء نحوية شائعة في أعمال الطلاب التحريرية، ويصادفون مثل ذلك وأكثر منه في امتحانات النقل والامتحانات العامة، فإذا انتقلوا إلى أحاديثهم ليحصروا فيها الأخطاء لم يستطيعوا لها عدا... ولا تكاد التقارير الميدانية تخلو من الإشارة إلى هذه الظاهرة. ولو أن الطلاب اختاروا بين فروع اللغة العربية لعزفت الكثرة الغالبة منهم عن النحو، ولهم في تفسير ذلك إجابات مختلفة، فمنهم من يشعر بأنه مادة جافة، ومن يرى أن قواعده صعبة الفهم، ومن يحس العجز عن تطبيقها في سهولة.
الأسباب
قد ترجع ظاهرة ضعف الطلاب في استخدام القواعد النحوية إلى الأسباب الآتية:
1- البعد عن السليقة اللغوية. وهي تنشأ بين قوم يتكلمون الفصحى، ويراعون حسها اللغوي، ويهتمون بأدائها التعبيري، ويستخدمونها بتلقائية، وعفو الخاطر، ويجدون اللحن فيها خروجًا عن التعبير السليم والذوق الفطري، ويمجون سماعه، لأن آذانهم لا تستريح للكلام الشاذ، أو ما خرج عن السليقة اللغوية. ولعلها - أي السليقة - قد انتهت - إلى حد ما - بانتشار الإسلام والمسلمين خارج الجزيرة العربية، حيث فشا اللحن فيها نتيجة الامتزاج والاختلاط، وبهذا تحولت اللغة من الفطرة إلى الفطنة.
2- كثرة القواعد النحوية كثرة يضيق بها احتمال الطلاب في مراحل التعليم العامة، وتشعب التفاصيل التي تندرج تحت هذه القواعد وتزاحمها بصورة لا تساعد على تثبيت مفاهيمها في الأذهان، بل على العكس قد يعمل بعضها على طرد البعض الآخر بعد تعلمه.
3- اختيار القواعد النحوية التي تدرس لطلاب المدارس على أساس من منطق الكبار وتفكيرهم بحيث تبعد هذه القواعد عن الوظيفة في حياة الطلاب، ويزيدهذا الأمر خطورة على اللغة، وتعقيدًا لدراستها وتعلمها أن التلاميذ في المدرسة وفي البيت وفي المجتمع يتحدث بعضهم إلى بعض في معظم أحاديثهم بالعامية يقضون بها حاجاتهم، وهي في غنى عن تلك القواعد عند تأديتها لهذه الوظيفة الحيوية.
4- إبعاد دراسة القواعد عن النصوص الأدبية، حيث إن القواعد لا تزال تدرس من خلال أمثلة مبتورة، وجمل مفتعلة، وأساليب بعيدة عن الذوق العربي، مما نفر المتعلم من القواعد، وتناهى إليه الإحساس أن تلك القواعد علم يدرس لذاته، لا للانتفاع به في الحياة أو استخدامه في اللغة المتداولة، ومعروف أن قراءة الطلاب للنص الأدبي البليغ، وفهمهم له، ووقوفهم على خصائصه يعطيهم الملكة القادرة على البيان، والموهبة المبدعة للأدب، ويقوي الحاسة الأدبية في وجدانهم، وأعماق شعورهم، ويجسد أمامهم النماذج الحية البليغة التي يجب أن يقولوا على نمطها، وأن يقتبسوا من فصاحتها ويأخذوا من بلاغتها، ما يطبع لسانهم على البيان الجيد، والتعبير البليغ.
5- تدريس القواعد كمادة مستقلة قد تحمل الطلاب على أن يعدوها غاية في ذاتها، فيستظهروها استظهارًا دون تفهم وتعقل، ويهملوا جانبها التطبيقي، وغايتها العلمية، لأن دراستها لا توصل إلى هدف مباشر يحسه الطلاب كبقية المواد الأخرى.
6- درس النحو في أغلبه يعتمد على الجانب المجرد من المفاهيم والحقائق والمعلومات والقواعد، وهو جانب لا يصل إليه الطالب إلا بعد أن يكون قد صدمه جفاف القواعد وتعددها، وبعدها يكون قد وقر في نفسه صعوبة القواعد، فتكبر معه هذه الصعوبة، ويندر من الطلاب من يتخلص منها، أو يتخلص من المقولة الشائعة بأن درس النحو صعب، ولا قبل لأحد بالسيطرة عليه.
7- ضعف بعض معلمي اللغة، وعلى رأس فروعها قواعد النحو، وترتب على هذا الضعف تجنب هؤلاء المدرسين تدريس القواعد، وسرى الخوف والهرب من تدريسها من جانب بعض المعلمين إلى التلاميذ، مما أتيح لهؤلاء الطلاب أن يواروا استعداتهم وميولهم تجاه القواعد، وأن يستبعدوها من المواد التي قد يثبتون فيها ذاتهم.
8- عدم تعاون مدرسي المواد الأخرى مع مدرسي اللغة العربية في مراعاة القواعد النحوية عندما تسنح فرص التطبيق لاستخدامها في كتابتهم لطلابهم أو قراءة طلابهم لهم أو لزملائهم، وذلك أما لجهلهم بها أو لاستهانتهم بمراعاتها شعورًا منهم بانفصال موادهم عن مادة اللغة العربية.
العلاج
لقد بذلت المحاولات العديدة للتخفيف من وطأة الصعوبات التي تكتنف القواعد النحوية استهدافًا لعلاج ضعف التلاميذ فيها وإغراء لهم بالانتفاع بها في القراءة والكتابة، ولكن هذه المحاولات تركزت في جملتها على حذف بعض الأبواب التي تغلب عليها التعليلات المنطقية والفلسفية كالإعلال والإبدال، وتخفيف بعض الأبواب الأخرى بعدم التعرض لما لا يظهر أثره منها في اللفظ مثلًا كالإعراب التقديري في المفردات والجمل، ونحو ذلك.
ومع أن هذه المحاولات لا سبيل إلى أنكار قيمتها في التخفيف من عبء النحو على أكتاف التلاميذ وتبسيط حقائقه، إلا أن المادة الباقية ظلت على تنظيمها حسب ما يرى الكبار، فهي مرتبة ومتدرجة طبقًا لوجهة نظرهم في أهميتها وصعوبتها، وكذلك لم يراع في تعليمها الأداء الوظيفي للمتعلم. ومن ثم بقي الضعف ملازمًا للطلاب في استخدام القواعد النحوية في الحديث والكتابة، ولم يقض على النفور منها وكراهية التمسك بها.
والواقع أن مشكلة الضعف في استخدام القواعد النحوية أبعد وأعمق من أن تعالج بهذه الصورة؛ لأن أي علاج لا ينجح في إثارة الدافعية إلى تعلمه لا يجدي في علاج الضعف فيه. وإذن فكيف تعالج؟ لكي نعمل على علاج ظاهرة الضعف في استخدام القواعد النحوية علينا أن نتبع في تقرير مناهجها ووسائل تعليمها ما يأتي :
1- ألا تعدو في المرحلة الابتدائية أو غالبية صفوفها الممارسة والتدريب على النطق السليم ومحاكاة الأساليب الخالية من الأخطاء النحوية دون التعرض لهذه القواعد بتعريف أو تفصيل، وأن يكون النشاط التعليمي المتصل بها خاضعًا لميول التلاميذ وشغفهم بالحركة واللعب، فيقدم لهم في صورة استخدام لغوي مؤد لبعض الوظائف التي تتصل بحياتهم ونشاطهم مما تتسم به هذه المرحلة من العمر.
فالتدريبات اللغوية إذا سارت هذا المسار في بداية المراحل التعليمية فإن الأطفال يبدؤون مع قواعد النحو بداية سارة، وتتكرر مواقف استخدامهم لها استخدامًا علميًا، مما يعمل على إجادتهم لهذه المهارة من جهة، ويميل بهم من جهة أخرى إلى عدم النفور منها، وإلى حب مدرسيها والانتفاع بالدروس النحوية في المراحل التالية من التعليم.
2- لا بد أن يبدأ بناء منهج النحو بتحديد أساسيات المادة، ثم الاختيار من هذه الأساسيات ما يساعد التلميذ على الإسهام في حل مشكلات مجتمعه ومواجهة مشكلات حياته الخاصة وإشباع حاجاته وميوله، وإذا تسنى لنا تحديد القواعد النحوية التي يحتاج إليها الطلاب في كل صف من الصفوف الدراسية كان علينا أن نفكر في الكتاب المدرسي الذي يعرضها، وكيف يكون عرضه لها؟ ولعل من أهم الأسس التربوية في ذلك:
أ- ينبغي الاقتصار على الأبواب التي لها صلة بصحة الضبط، وتأليف الجملة تأليفًا صحيحًا؛ ولهذا ترى أنه لا داعي مطلقًا لدراسة الصورة الفرضية في التصغير والنسب وإعراب لاسيما، وأحوال بناء الفعل الماضي، وغير ذلك مما لا يتصل بضبط الكلمات.
ب- الاتجاه في أبواب الصرف إلى الناحية العملية، ففي دراسة المجرد والمزيد، يعنى بتدريب التلاميذ على الانتفاع بهذا الباب في معرفة طريقة الكشف عن المفردات اللغوية في المعاجم.
ج- أن تتأخر إلى المرحلة الجامعية وشعب التخصص العالي دراسة القواعد النحوية التي لا تتصل اتصالًا واضحًا بالمعنى، أو التي لا يظهر أثرها إلا في كلام الأقدمين شعرًا ونثرًا، على أن تكون الدراسة في هذه المرحلة متعمقة مستقصية لكل التفاصيل؛ حيث المقصود هنا هو تخريج الأكفاء ومنابع المعرفة من الأشخاص الذين يعتمد عليهم في هذا الميدان بحثًا وتدريسًا.
3- لكي يهيأ الجو الصالح الذي يساعد على نجاح الدراسة النحوية لابد أن يواجه المعلم مشكلة جوهرية من مشكلاته، هي دراستة دراسة قاعدية.، وذلك بأن يلتزم المعلم الحديث بلغة سليمة في دروس القواعد وفي غيرها، وفي الفصل وخارج الفصل، ويحمل تلاميذه على الحديث بها، وبأن يمتد ذلك إلى معلمي المواد الأخرى، بل إلى الحياة الإعلامية في الإذاعة والصحافة. فإن مثل هذا الجو أقوى عونًا على أن يتحول استخدام القواعد النحوية عادات لسانية سليمة، تتأصل فلا تحتاج إلى معاناة في التذكر، ولا تؤدي إلى اضطراب أو تعثر، وذلك غاية ما يرجى من دراستها.
4- أن يعمل المدرس على توسيع دائرة التعميم وشموله في مواقف التدريس، وعلى حسن الفهم والتوضيح للمادة الدراسية، وذلك يقتضي استقراء التلاميذ بأنفسهم لعديد من الجزئيات التي تندرج تحته، والتدريب المستمر على الاستخدام الصحيح في أثناء الدرس وبعده، والجدية في ملاحظة التلاميذ وحسن توجيههم وإرشادهم في كل موقف يظهر فيه خطأ التطبيق أو انحرافه.
5- أن تساير الاختبارات وطرق تقويم التلاميذ في هذا المجال الاقتضاءات التدريسية السليمة بحيث تقيس مدى تحقيق أهداف تدريس القواعد النحوية. ومن ثم ينبغي ألا تعنى كثيرًا بالمصطلحات الفنية أو تسميع القواعد أو الاستشهاد على صحة قانون أو شذوذ بعض الأمثلة عنه أو نحو ذلك مما يجعل النحو غرضًا في حد ذاته بغض النظر عن فائدته الوظيفية في الأسلوب وصحة المعنى.
هذا وإن دراسة القواعد النحوية أمر واجب لحفظ لساننا وقلمنا من الخطأ بعد أن غزتنا اللغة العامية، ولكن ليس علينا أن نرهق الطلاب بها ونهتم بتفاصيلها ظنًا منا أنها الوسيلة الناجحة التي تؤدي إلى تمكينهم من لغتهم واقتدارهم على
إجادة التعبيير والبيان، فقد ثبت أن إجادة التعبير ليست وسيلة التمكن من قواعد اللغة واستظهار مسائلها، بدليل أن كثيرًا من الأدباء المرموقين قليلو الإلمام بالقواعد، كما أن أكثر التلاميذ حفظًا لها يخطئ في كتابته خطأ فاحشًا؛ ولذا كان علينا أن نختار من القواعد ماله أهمية وظيفية وفائدة عملية في الكلام، جاعلين من درس القواعد وسيلة محببة تعين على سلامة اللسان والقلم من الخطأ، دون الإيغال في سرد التفاصيل النحوية والشوارد اللغوية، وحفط المصطلحات والصيغ المحنطة.
المراجع
1- إبراهيم محمد عطا، طرق تدريس اللغة العربية والتربية الدينية، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1990م.
2- حسين سليمان قورة، تعليم اللغة العربية (دراسات تحليلية ومواقف تطبيقية)، القاهرة دار المعارف، 1969م.
3- عبد العليم إبراهيم، الموجه الفني لمدرسي اللغة العربية، الطبعة الثالثة عشرة، القاهرة، دار المعارف، 1984م.
4- محمد ظافر، يوسف الحمادي، التدريس في اللغة العربية، الرياض، دار المريخ للنشر 1984م.
ساحة النقاش