<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِْنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذّاريات/ 56).
من الحقائق الثابتة في الحياة الإنسانية: انّ الإنسان منذ انبثاقه على ظهر هذا الكـوكب تتحكّم في كيانـه طاقات حيويّة تدفعه للقيام بفعالياته المختلفة، وتدعوه لإشباعها...
ومن خصائص هذه الحاجات الطبيعية الراسخة في الكينونة البشرية انّها إذا لم تشبع وفق برنامج سليم، تنحرف بالإنسان في حقل التعبير عن ضرورة اشباعها، تحت إلحاح الحاجة إلى ذلك..
والغريزة الجنسية ـ مثلاً ـ تنادي بضرورة اشباعها، فإذا تغاضى الناس عن الاستجابة لإلحاحها سلكت بالإنسان السّبل الخاطئة لسدّ حاجتها..
فغريزة حبّ التمـلّك، إذا لم تتوفّر لها الفرص الطبيعية المناسـبة للإستجابة لإلحاحها عبّرت عن ذلك بالوسائل الشرعية، وغير الشرعية على حدٍّ سواء.
وتقع غريزة التديّن في هذا السِّياق، فهي غريزة مركوزة في كيان الإنسان منذ خلقه الله عزّ وجلّ، وتعبِّر هذه الجوعة الطبيعية لدى الإنسان عن الشـعور بالحاجة إلى الخالق المدبِّر لشؤون الحياة ، وينعكس هذا الشعور الغريزي بالتقديس لما يعتقد الإنسان انّه الخالق، المدبِّر، حيث أنّ التقديس يمثِّل الدرجة القصوى للاحترام والتكريم القلبي لدى الإنسان!
وهكذا فانّ تاريخ البشريّة، لا يمكن أن يخلو من ظاهرة التديّن، والتقديس لمعبود معيّن، سواء أكان حقّاً أو باطلاً، ومن أجل ذلك نجد التديّن، والعبادات تراوحت عبر التاريخ بين عبادة الله عزّ وجلّ، وعبادة الأصنام، والشمس، والقمر، والنجوم، والكواكب، والنار، وما إلى ذلك..
والإنسان في هذه القضيّة التكوينية، ينسجم مع ظواهر الوجود كلّها من حوله، حيث تبدو كلّها ساجدة في محراب العبودية لله عزّ وجلّ، وإذا كان بمقدور الإنسان أن يشذّ عن معبوده الحقيقي، فيعبد سواه، فإنّما يتم ذلك بسبب حرِّية الاختيار التي منحها الله للإنسان دون سواه، إضافة إلى تأثير التربية والثقافة الفاسدة النائية عن الله عزّ وجلّ:
(وَنَفْس وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْوَاها) (الشمس/ 7- 8).
ومن أجل ذلك فانّ الوجود يشهد لونين من الخضوع والعبودية لله عزّ وجلّ:
1ـ الخضوع التكويني لله عزّ وجلّ: إنّ هذا الخضوع، وهذه العبودية لله عزّ وجلّ تشمل الوجود كلّه بكل تفاصيله، لا يشذّ منه شيء أبداً من الذّرّة المتناهية في الصغر إلى المجرّات العملاقة في هذا الكون الرحيب، بما في ذلك الشمس، والقمر، والنجوم، والملائكة، والجنّ، والنبات، والماء، والرِّياح، والجمادات، والإنسان كذلك...
فرغم حرِّيّة الاختيار التي منحها الله تعالى للإنسان ـ كما أشرنا ـ إلاّ انّ الإنسان من حيث تكوينه جزء من هذا الوجود المسبِّح لله عزّ وجلّ ..
فهو ليس بمقدوره أنّ يتخطّى قوانين الطبيعة التي تلقي بثقلها عليه، كقوانين الضغط، والكيمياء، والفيزياء، والحياة، والموت، والصبا، والشباب، والعجز، ولون البشرة، والطول، والقصر، والأسرة التي ينتمي إليها، فهو في ذلك وفي كثير من أمثاله خاشع لله تعالى، رضي أم أبى، آمن بالله تعالى أو كفر، فهو كسائر المخلوقات في عدم القدرة على خرق قوانين الله عزّ وجلّ التي وضعها، ولذا أشار القرآن الكريم ـ وهو لسان الحق الذي لا ريب فيه ـ إلى هذه الحقيقة الكبرى في عدّة مواضع من توجيهاته ونداءاته الموقظة، الحيّة:
(يُسَبِّحُ للهِِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الاَْرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الجمعة/ 1).
(وَإِن مِن شَيْء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (الإسراء/ 44).
(وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّماواتِ وَالاَْرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (آل عمران/ 83).
(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالاَْمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (الأعراف/ 54).
2ـ الخضوع التشريعي لله عزّ وجلّ: امتاز النوع الإنساني دون مخلوقات الله عزّ وجلّ كافّة بكونه يملك إرادة واختياراً في فعل الخير والشرّ على حدّ سواء، فهو بما منحه الله عزّ وجلّ خصوصية الاختيار، بمقدوره أن ينسجم مع أوامر الله تعالى ونواهيه التي صدع بها رسله (عليهم السلام)، كما انّ بمقدوره أن يعصي، ويتمرّد ويطغى، ويتجاوز حدود ربّه الأعلى عزّ وجلّ...
وهو في هذه الميزة، يختلف عن علاقته التكوينيّة مع الله عزّ وجلّ، فإذا كان الإنسان في علاقته التكوينـيّة مع الله عزّ وجلّ، كسائر المخلوقات مسيَّراً خاضعاً لا اختيار له، ولا إرادة، فانّه في علاقته التشريعية مع الله عزّ وجلّ، وطريقة تنظيمها، مختار، مريد، يختار أسلوب علاقته تلك كما يشاء ..
وعن هذه الخصوصية التي اختصّ بها الإنسان دون سواه يتحدّث القرآن الكريم في كثير من نصوصه المقدّسة:
(إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً، وَإِمَّا كَفُوراً) (الدّهر/ 3).
(فَمَن شَاءَ فَلْيُوْمِنْ، وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/ 29).
(مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، وَمَن ضَلَّ، فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء/ 15).
(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ، أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (الفرقان/ 43).
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللهِ...) (التوبة/ 31).
وهكذا تعبِّر هذه النماذج من النصوص الكريمة، وأمثالها كثير عن مـيزة الإرادة والاختـيار التي اختصّ بها الإنسان دون سواه من الموجودات، وعن نتائج تلك الحالة التي تتمخّض عنها حالات شتّى يختارها الإنسان بإرادة منه، ورغبة: فهو مرّة شاكر لله تعالى على نعمه، منيب إليه، مقدر لله حقّ قدره، ومرّة تراه كافراً بنعم الله تعالى، متجاوزاً حدوده ونواهيه، متخطّياً أوامره وقيمه!
وتراهُ مرّة هادياً مهتدياً، ليحقِّق لنفسه الخير والسعادة، وتراه أخرى ضالاًّ، منحرفاً عن سواء السبيل، يتحمّل نتائج أعماله عذاباً وابتعاداً عن نعم الله تعالى، ورضاه...
كما نراه أحياناً يتّخذ هواه، ونزواته الهابطة إلهاً من دون الله عزّ وجلّ، فينحط، ويتسافل، ويسقط في مستنقع الرّذيلة والانحراف كما يفعل مثل ذلك حين يتّخذ من المؤسّسـة الدينية المنحرفة عن قيم الأنبياء (عليهم السلام): «الرّهبان، والأحبار» أرباباً من دون الله تعالى، يشرعون له حسب أهوائهم، وما يشاؤون، بعيداً عن شرع الله تعالى ونهجه، فيحلّون حرام الله، ويحرِّمون حلال الله تعالى .
ساحة النقاش