- العنف غير المعقول (Impensable):
لكي يكون العنف معقولاً (pensable) يشترط فيه مظهران: أولاً، ألا يخضع له الطفل بشكل "رضي"، وثانياً أن يكون الطفل قد استطاع ممارسة قدر كافٍ من العنف على شكل هيمنة وتأثير أو تفريغ دافعي شرط ألا يقابله الأهل بعدوانية عنيفة.
أمّا في حال كانت ردة فعل الأهل عنيفة تجاه الإثارات الناتجة عن الطفل ولم يَتسنَّ لهذا الأخير أن يَعقِل أو يتمثل عنف أهله فإن إنعكاسات هذا العنف على تطوّره النفسي سوف تتجلّى بأشكال متعددة نذكر منها:
1- إرتداد العنف على الذات حيث يبرز بأشكال مختلفة: كإضطراب الإدراك وصعوبة التعلم ويتجلّى بشكل خاص في التفكير اللادغ التي تكلم عنه (M. Berger).
تظهر هذه الإنعكاسات بشكل واضح لدى الأطفال الذين نشأوا في دار الحضانة أو نقلوا إلى أماكن متعددة دون أن يتسنّى لهم إظهار الحد الأدنى من العنف الأساسي على الممرضات والمربيات اللواتي كن يعتنين بهم. هؤلاء الأطفال لم يكن عندهم سوى حل واحد وهو تحويل العنف على ذواتهم.
2- من الأمثلة المألوفة لإرتداد العنف على الذات، "الإنتحار" وبشكل خاص الإنتحار غير المتوقع لبعض المراهقين الذين تَحمّلوا دون إعتراض مشاكل أهلهم النفسية وأمراضهم. إنّهم بخلاف بقية إخوتهم الذين كانوا يتمرّدون بشتى الطرق تجاه كل ما يبدو لهم شاذاً أو غير محتمل من قِبَل أهلهم.
3- بروز شعور بالذنب عميق لدى الفرد وذاك مردّه لأنّه كان ينسب إلى نفسه مصدر كل عنف ينجم عن الآخرين فيشعر أنّه مُذنب وسيء، ثمّ يصبح سيِّئاً عبر الأعمال التي يرتكبها لكي ينال العقاب اللازم.
4- بقدر ما يكون الوالد غير قادر على إحتواء العنف الذي يَصبّه على إبنه، يتعلق هذا الأخير به: الصورة هنا أشبه بالملاكم المُنهَك الذي يرتمي بين ذراعي خصمه ويتعلق به كي يتجنب ضرباته.
5- الشعور بالإضطهاد: يستوعب الطفل من والديه "نظرة نقدية" (Oeil critique) على كل ما يفعله ويقوله ويُفكر به، يمكننا القول أنّه لن يتوصل أبداً لأن يكون في أمان مع أنا أعلى (Sur moi) صارم وقاس يَفرض عليه خضوعاً مُطلقاً ولا يترك له خياراً آخر سوى الإنتحار.
يمكن أن تأخذ هذه النظرة النقدية منحى هذيانياً – كهذيان الإضطهاد – عندما يلتمسها الفرد لتحل محل لامبالاة الأهل تجاهه أو لإهتمامهم بطفل آخر: "لا يلاحقوني حتى بنظراتهم" تصبح "أن عيناً شريرة تلاحقني". يُفضّل الطفل أن يتصوّر عيناً شريرة تلاحقه على أن يُدرك بأن أحداً لا يراقبه أو يهتم به، فعندما يشعر الطفل أنّه مُستبعد من عناية أهله لإهتمامهم بأخ آخر أو أنّه أصبح منسياً فإن هناك إحتمال كبير في أن يُمارس العنف، في ما بعد، على محيطه وهذا كثيراً ما يتجلّى عبر الكلام والممارسة.
كان فرويد قد نوّه بشدّة المنافسة بين الأخوة فقال: "يَتعرّض رابط المودّة الذي يشّد الطفل إلى والده – من الجنس المعاكس – إلى الخيبة والغيرة التي أثارتها ولادة طفل جديد، يكشف هذا الوالد عن خيانة وعدم وفاء واضح تجاه طفله المحبوب سابقاً إضافة إلى مقتضيات التربية المتشددة التي يفرضها عليه وتجربته الفاشلة في إنجاب طفل بنفسه، إن تراكم هذه الأمور تكشف للطفل ضخامة الإحتقار الذي يَكنّه له هذا الوالد".
لا ننسى أبداً أن أوّل قاتل، في العهد القديم، كان قابيل لأخيه الأصغر هابيل المُفضّل من آدم. يتجلّى مظهر آخر من الشعور بالإضطهاد عند الطفل عندما يشعر أنّه ليس موضوع إغواء أمومي (Seduction maternelle) أو موضوع مُتعة في الإهتمامات الأولية. يَبرُز هنا نوع من الإضطهاد يُفسَّر على الشكل التالي: يشعر الطفل أنّ العالم الذي يُحيط به هو عالم غير مَرن وعليه هو بالذات أن يتكيّف معه بإستمرار. موضوع الطفل هنا هو موضوع إضطهاد يُعطي الأوامر المُهدّدة، فالكلمات والأرقام لها قواعد مُحدّدة وعلى الطفل أن يتقيَّد بها دون أن يعرف السبب أو الدافع. هذا الأسلوب في التعامل من شأنه أن يُعرِّض الطفل، في ما بعد، لإضطرابات هائلة ومتكررة في عملية التعلم والإدراك كما يترافق مع توظيف كثيف لسيرورات دفاعية مانعة قيام أية علاقة مع الآخرين مهما كان نوعها.
6- تجنب الواقع العنيف بواسطة أوليات الإنشطار والإنكار: "هذا غير ممكن، هذا لم يحدث أبداً". يُفضّل الطفل، نتيجة الرعب، أن يُشوِّه الحقيقة على أن يتمثلها ويواجه العنف.
7- تكرار المواقف التي خضع فيها لعنف الآخرين أو تكرار المواقف التي حضر فيها أعمال عنف. هذه السيرورة يلزمها بعض التوضيح: السؤال الأوّل الذي يطرح هنا، لماذا يوجد عند البعض تكرار (reproduction) هلوسي لموقف غير سار؟ الجواب حسب فرويد هو "للتمكن من التأثير على الموضوع" أي بمعنى إسترجاعه من جديد والإقتناع بأنّه لايزال موجوداً. نستنتج إذاً، أنّ التمثل الهلوسي يهدف إلى لقاء الموضوع والتعلق به. فالطفل يتمسك بالموضوع إذا لم يحصل على القدر الكافي من المتعة معه. هذا اللقاء مع الموضوع سوف يتكرر باستمرار لأنّ مثل هذا الموقف يجري على شكل إدراك هلوسي "رضّي" ولا يمكن تَمثّله أو تذكّره. إنّ تكرار التجارب المُكدّرة المُعاشة بواسطة الفرد تسمح له بأن يؤثر عليها ولا يخضع لها بشكل سلبي. نواجه هنا إحدى قواعد الأداء النفسي الصعبة: يمكن الإنفصال عن الموضوع السار هذا لأنّ العلاقة السارة معه تسمح للفرد بالإحتفاظ بداخله عن تَمثّل للموضوع وتُمكِّنه من الإبتعاد عنه بأمان. أمّا العلاقة غير السارة مع الموضوع فتترك الفرد في موقف إستنزاف نفسي دائم وفي إنتظار مُلحّ لجواب يكون أكثر توافقاً مع توقعاته وحاجاته.
يمكن أن نضيف إلى ما ذكرناه أعلاه، التفسير الذي ذكره (A. Green) في كتابه "منطق اليأس" بقوله: "يَلتمس الفرد بإلحاح (الرفض le rejet) من قبل الآخرين، فهو يريد أن يُقدّم براهين على أنّ الموضوع هو فعلاً سيء، وبتوصله إلى مرماه، يُثبت أن حب الآخرين لم يكن سوى مظهر خادع يخفي خلفه الحقد". الحب إذاً، هو موضوع شك دائم، أمّا الكره فهو أمر مؤكد بشكل دائم، يمكن القول بتعبير آخر: إنّ التخلّي عن موضوع العنف يعني التخلّي عن كرهه، أمّا الكشف عن إمكانية حب مع موضوع آخر يعني حرفياً إزالة موضوع الكره من الذات أو بشكل آخر إبادته. يشعر الفرد بالذنب في كُرهه للموضوع لكن هذا الشعور سوف يتضاعف كثيراً إذا تَخلَّى الفرد عن كُرهِه وتعلَّق بحب موضوع آخر. يُفضِّل الفرد إذاً، المحافظة على هذا الرابط الداخلي مع موضوع الكره: فأولى أن يُحافظ الفرد على موضوع داخلي يكرهه من أن يجاذف بفقدانه إلى الأبد.
- تكرار العنف عبر الأجيال:
يلاحظ في العائلات التي أساءت معاملة أطفالها، تكرار لهذه المعاملة السيِّئة عبر الأجيال. كيف نفهم أن أطفالاً تعرّضوا لتصرفات عنيفة من قِبَل أهلهم، يُكرّرون هذا العنف مع أولادهم عندما يصبحون آباءً بالرغم من إرادتهم؟ سنحاول هنا توضيح هذه المسألة بدراستنا للدورة التي تتطوّر من إساءة معاملة الطفل إلى بالغ يُسيء معاملة الآخرين.
أ‌) الرغبات غير المحتملة والتكافل (Symbiose):
أعرض لمسألة "تكرار" سوء المعاملة عبر الأجيال من خلاف معاينة "جاك" وزوجته "فيرا". كان جاك يشكو من تَسلّط أُمّه عليه أما فيرا فكانت قد تعرّضت للضرب خلال طفولتها الأولى.
المشكلة المعروضة حالياً تقوم على سوء معاملة فيرا لإبنتها لور التي تبلغ أربع سنوات من العمر. إنطلاقاً من المعلومات التي حَصلتُ عليها تَبيّن أنّ المشكلة تعود إلى أكثر من ثلاث سنوات. بدأت منذ كان عمر الطفلة ثلاثة أشهر، أمّا مُسلسل الأحداث فكان يجري على الشكل التالي: كانت لور على وشك النوم، وفجأة تشعر فيرا بحاجة إلى أن تحملها بين ذراعيها فتوقظها، أمّا الطفلة تبقى هادئة. ثمّ تحاول فيرا إثارتها فتبكي الطفلة وعندها تشعر الأُم بخيبة أمل فتثور أعصابها من هذا التصرف وتَعمَد إلى توبيخ الطفلة بعنف فتبكي الطفلة من جديد ثمّ تغضب الأُم أكثر وتضربها ثمّ تعيدها إلى النوم ثانية، تنام الطفلة بعد أن يكون التعب قد أنهكها. تلجأ الأُم بعد ذلك إلى جاك وتؤنبه بعنف لأنّه لا يعرف كيف يهتم بالطفلة.
لندرس أوّلاً طبيعة العلاقة بين الأُم والطفلة: إنّ نُعاس الطفلة ونومها يوقظان استيهام (Fantasme) "مثول الموت" عند الأُم. فتعمد إلى إيقاظ الطفلة حتى تقاوم هذا الإستيهام.
تعيش الأُم هذا الإستيهام بشكل ما لكن في سلوك غير متكيّف مع حاجة الطفلة. إن إنزعاج الطفلة يُعبَّر عنه بواسطة صراخ وبكاء وهذا من شأنه أن يثير عدوانية الأُم ويولّد لديها تصرّفات عدوانية تجاه سلوك الطفلة. وهكذا ينطلق الدافع العدواني عند الأُم فتُسقِط (Projete) على الطفلة رغبة الإعتداء. تُدرك الأُم، في هذه الحال، أنّها ضحية طفلة سيِّئة وليست مُمثِّلة لرغبة العدوان.
يُلاحظ عادة أن ضعف الطفل وتبعيّته الكاملة يولّدان القلق عند والده وخصوصاً إذا كان يعاني من صعوبة في إحتواء رغباته. يُدرك الوالد أنّه يمتلك قدرة في الحياة أو الموت على هذا الكائن الصغير الذي لا يُمكنه الدفاع عن نفسه وهذه القدرة تُقلق الوالد وتُبقيه في خطر دائم.
إنّ الوظائف الحيوية للرضيع كالنوم والجوع والتَبرّز هي مثيرات مُقلقة للوالد. يعيشها كما لو أنّها إعتداءات آتية من الطفل وهذا ما يدفعه لزيادة رغباته العدوانية تجاهه. يسعى الوالد في البداية إلى السيطرة على الطفل حتى يتمكن من السيطرة على المثيرات التي تصدر عن رغباته الخاصة، ولكي يضبط مخاوفه ورغباته التي لا يمكنه إحتواءها، فإنّ الوالد يسعى إلى "الفعل": يَضربْ الطفل ويُهيمن عليه بالقوة حتى يضبط الرغبات المرفوضة في ذاته والتي أسقطها على طفله.

المصدر: د. عبدالحليم سمعان كتاب سيكولوجية الحياة الزوجية

ساحة النقاش

هدى علي الانشاصي

alenshasy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,396,795