.. ان فرويد في كتابه ( النظرية العامة للامراض العصابية) ،، يعطي دليلا .. بل تحليلا وافيا لتغطية هذا السؤال .. فهو يقول :( .. المرضى تشغل بالهم افكار لاتهمهم في الواقع ، وتمثل في انفسهم محرضات تبدو لهم غريبة شاذة ، ويجدون انفسهم مدفوعين الى اعمال لايعود اليهم الاتيان بها باي متعة ، لكنهم لايستطيعون منها فكاكا ، وقد تكون الافكار المتسلطة عارية من المعنى بحد ذاتها ، او عديمة الاهمية بالنسبة الى الشخص المعنى ، غالبا ما تكون سخيفة وعبثية وتستثير في كل الاحوال نشاطا عقليا مكثفا ينهك المريض ولا يقوم به الا على كره ومضض ، فهو مضطر رغما عنه الى التفحص والتقصي واعمال الفكر ..) بينما
يقدم ..(فيليب ساتديلوم ) في كتابه الذائع الصيت ( الابداع والمرض) لم يترجم بعد بل صدر في بطبعته الخامسة - .. يقدم فيليب تطبيقا وافيا من خلال وصوله الى اقصى الدلالات والنتائج ، وبعد ان درس(مؤثرات) الابداع لدى كثير من المشاهير في الادب والموسقى والفن التشكيلي والنحت .. فوجد ان الاراء التي سيطرت على قناعة بعض علماء النفس .. بعيدة كل البعد عما وجدوه حقيقة ، وبذلك دحض فكرة( امكان قيام الابداع على اساس الخيال فقط او على اساس الانفعال فقط ..) فيقول : (.. ان اهم الخبرات المرتبطة بالابداع هي خبرة الالم ) ..!!
ولم يعط سانديلوم هذه النتائج .. الا عندما توصل بطريقة فعلية لما تشكل العلاقة بين المرض والابداع من رابط متداخل ..!
اذن .. فالحالات الابداعية تاتي نتيجة لانغمار الشاعر او الفنان او الروائي بحساسية مرضية حادة لا يجد منها مخرجا الا عندما يشعر بانه خرج .. وهو محمل بانجاز رائع .. او كما قال الشاعر( نوفاليس) ..وهو الذي رحل وعمره لا يتجاوز الثامنة والعشرين بسبب اصابته بالسل :( لا يمكن ان يكون المرض وسيلة للتكاليف الارقى حساسية قوية يمكن تعويلها الى قوى اعلى ) !!
وبالطبع ان قول نوفاليس هذا يعارض اراء بعض شعراء المدرسة الرومانتيكية الانكليزية مثل ( وردوزورت) و ( الوردلوج) بان ( الشعر يعتمد على حالة من الصحة الجيدة التي ينبغي ان يتمتع بها الشاعر بدرجة فائقة) .. ولكن رأيه هذا ينطوي على تعارض مع رأي الرومانتيكية الالمانية ، حيث اعتبرت المعاناة هي جوهر الابداع ..!
ولنضع هنا بعض المبدعين مثل مارسيل بروست والذي عرفنا عن حياته التي لم تحفل بالحوادث المثيرة .. اي انها كانت حياة عادية ورتيبة كحياة اي انسان ولم تستأثر بمعاصريه حتى بعد صدور كتابه( المسرات والايام) او رواية ( جان سانتوي) والتي عثر عليها بين اوراقه ونخلفاته المغمورة بعد وفاته عام 1952 .. ولكن عندما خرجت روايته ( البحث عن الزمن الضائع) وجد فيها النقاد ضالتهم وتوقف عندها رواد الرواية الحديثة بشيء من التقييم الذي وضع بروست في قمة الابداع الروائي في العصر الحديث ..!
لقد جاءت الرواية نتيجة او انعكاس الحالة المرضية القاسية التي كان يعاني منها (بروست) .. لقد كان عنيف الاهتمام بصحته الى درجة كان عصابيا حادا .. فقال عبارته وهي تمثل جل الاعتراف : ( كل شيء عظيم في هذا العالم ابدعه العصابيون )..!
.. واذا ما توخينا الدقة والنتابعة لكثير من المبدعين وجدنا دون شك .. ان الالم هو الواقع المبرر الذي يزود الفنان والاديب والكاتب بحالة الابداع .. فاذا كان بروست قد شطل نموذجا لهذه الحقيقة فان هناك الكثير من المبدعين قد تحفزت لديهم ذات الحالة .. فالشاعر المسرحي موليير .. كان مصابا بالسل ، والشاعر ملتن (فقد البصر) والروائي(والتر سكوت) اصيب بامراض الجهاز الهضمي العسير ,, ودوستويفسكي ب ( الصرع المزمن) والرسام سيزان بمرض السكر وشارلس لامب بالجنون .. الخ ..
ان علماء النفس .. لازالوا يلقون المزيد من الضوء على ( سيكلوجية) المبدعين .. والتي لازالت اقلامهن تستحوذ على اهتمامهم ذلك لان ( الابداع) .. والذي تنتجه العبقرية كثيرا ما يكون مرتبطا بجذور نفسية خاصة .. اي (ان الفكر والادب والفن يتفاعل مع وجدان وذهنية النتج قبل ان يصل الى العالم ) ,, وعلى هذا ا لاساس وجد علماء النفس .. ان دراسة حياة الشخصية العبقرية قبل ابداعها .. هي الطريقة المثلى للوصول الى اسرار نبوغها وتجليات عقلها ووسع عطائها .
لقد ادت بعض الخالات الحادة من امراض العصاب لدى بعض المبدعين الى محاصرة حياتهم وضيقت عليهم بطريقة بائسة فلم يجدوا مفرا الا عن طريق النفاذ الى خارج دائرة الحياة .. فاعلنوا نهايتهم ..!!

المصدر: بقلم: مهند الياس

ساحة النقاش

هدى علي الانشاصي

alenshasy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,285,299