الصبر والرضا شعبتان مهمتان من شعب الإيمان , ودليلان أكيدان على حسن إيمان العبد وعلى إقراره بحسن العبودية والتسليم لله وحده .
ولكن هناك ثمة فرق بين الصبر والرضا , فالصبر: لغة : المنع والحبس, وشرعا : حبس النفس عن الجزع و اللسان عن التشكي والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك, وقيل : الصبر شجاعة النفس، ومن هنا أخذ القائل قوله الشجاعة صبر ساعة.
والصبر والجزع ضدان كما أخبر الله تعالى : \" سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) سورة إبراهيم .
وأما الرضا : فهو انشراح الصدر وسعته بالقضاء وترك تمني زوال الألم وإن وجد الإحساس بالألم لكن الرضا يخففه بما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية, فللعبد فيما يكره درجتان : درجة الرضا ودرجة الصبر ، فالرضا فضل مندوب إليه ، والصبر واجب على المؤمن حتم.
والفرق بين الرضا والصبر أن الصبر حبس النفس و كفها عن السخط مع وجود الألم وتمني زواله ، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع ، والرضا يوافق الصبر في حبس النفس وكف الجوارح ، ويزيد عليه عدم تمني زوال الألم ، ففرح العبد بالثواب وحبه لله عز وجل وانشراح صدره بقضائه يجعله لا يتمنى زوال الألم.
قال طائفة من السلف إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها، بخلاف الصابر. وقيل: الرضا أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راضٍ بأي ذلك كان والصبر، وأن يكون بعد نزول المصيبة يصبر، وأجيب عن هذا الأخير بأن هذا عزم على الرضا، وليس هو الرضا، فإن الرضا يكون بعد القضاء لا قبله، كما في الحديث: وأسألك الرضا بعد القضاء ولأن العبد قد يعزم على الرضا بالقضاء قبل وقوعه، فهو الراضي حقيقة.
ومما سبق يتبين أن الصبر: هو أن يحبس نفسه، ويمنعها من التسخط، ويحبس لسانه، ويمنعه من التشكي، ويحبس جوارحه، ويمنعها من المحرمات، كاللطم للخدّ، والشق للثوب، وغير ذلك، وأن الصبر واجب لا بد منه للمؤمن، وهو من الإيمان.
وأما الرضا بالقضاء، فهو فوق حالة الصبر، يكون بعد القضاء لا قبله، مطمئنًا منشرح الصدر لما نزل به، غير متمنٍ حالة أخرى غير حاله التي عليها، والرضا مستحب عند العلماء، والوجوب فيه خلاف بينهم، واختار شيخ الإسلام وابن القيم -رحمهما الله- عدم الوجوب، وأعلى من الرضا بالقضاء، الشكر لله على المصيبة؛ لكونه يراها نعمة أنعم الله بها عليه، وحال الشاكر أعلى الحالات وأكملها في الفضل.
عن عبد الرحمن بن إبراهيم الفهري : عن أبيه قال : أوحى الله عز وجل إلى بعض أنبيائه : إذا أوتيت رزقا مني فلا تنظر إلى قلته ، ولكن انظر إلى من أهداه إليك ، وإذا نزلت بك بلية ، فلا تشكني إلى خلقي ، كما لا أشكوك إلى ملائكتي حين صعود مساوئك وفضائحك إلي. المنتخب من كتاب الزهد والرقائق , للخطيب البغدادي 1/108..
ولما نزل بحذيفة بن اليمان الموت جزع جزعا شديدا فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : ما أبكي أسفا على الدنيا بل الموت أحب إلي ولكني لا أدري على ما أقدم على الرضا أم على سخط ؟. ابن أبي الدنيا : المحتضرين 1/122.
عن عبد الواحد بن زيد قال قلت للحسن يا أبا سعيد من أين أتى هذا الخلق قال من قلة الرضا عن الله قلت ومن أين أوتى قلة الرضا عن الله قال من قلة المعرفة بالله . أبو حاتم البستي : روضة العقلاء 160.
قال ابن سعدان:
تقنَّع بما يكفيك والتمس الرِّضا * * * فإنَّك لا تدري أتصبح أم تمسي
فليس الغنى عن كثرة المال إنَّما * * * يكون الغنى والفقر من قبل الَّنفس
فليتك تحلو والحياة مريرة * * * وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر * * * وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين * * * وكل الذي فوق التراب تراب
قال سبحانه وتعالى : \"فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24). سورة الحاقة. وقال تعالى: \" يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) سورة الفجر.
ولقد كتب الفاروق إلى أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ يقول له: أما بعد، فإن الخير كله في الرضى، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر.
قال صلى الله عليه وسلم: \" عَنْ ثَوْبَانَ ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي : رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا ، وَبِالإِسْلاَمِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُرْضِيَهُ.. أخرجه أحمد 1/208(1778) و\"مسلم\" 1/46(60) والتِّرْمِذِيّ\" 2623 .
وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. البُخَارِي ، في \"الأدب المفرد\"300 و\"ابن ماجة\"4141 و\"التِّرمِذي\" 2346 .
قال أحدهم :
إذا اشتدت البلوى تخفّفْ بالرضا * * * عن الله قد فاز الرضيُّ المراقب
وكم نعمة مقرونة ببليّة * * * على الناس تخفى والبلايا مواهب
قيل ليحيى بن مُعاذ رحمه الله: متى يبلغ العبد مقام الرضا؟ قال: إِذا أَقام نفسه على أَربعة أُصول فيما يعامل به ربِّه، فيقول: إن أعطيتني قَبِلْت، وإِن منعتني رضيت، وإِن تركتني عبدت، وإِن دعوتني أَجبت .
عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ ِللهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُوقَدَ لَهُ نَارٌ فَيُقْذَفَ فِيهَا. أخرجه أحمد 3/103(12025) . والبُخَارِي 1/10(16) و\"مسلم\" 1/48(74) .
يقول الشاعر:
الـرِّضـا يـخفِّف أثقا لي * * * ويُلقي على المآسي سُدولا
والـذي أُلـهـم الـرِّضا لا تراهُ *** أبـدَ الـدهـر حـاسداً أو عَذولا
أنـا راضٍ بـكـل مـا كتب الله *** ومُـزْجٍ إلـيـه حَـمْـداً جَزيلا
فـالـرضا نعمةٌ من الله لم يسعـد * * * بـهـا في العباد إلا القليلا
والـرضـا آيـةُ البراءة والإيــ * * * ـمان بالله نـاصـراً ووكـيلا
قال الحسن : \" من رضي بما قسم الله له ، وسعه وبارك الله له فيه ، ومن لم يرض لم يسعه ولم يبارك له فيه \". وقـال الشافعي:
أنا إن عشت لست أُعدم قوتا ** وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسـي** نفس حر ترى المذلة كفرا
وإذا ما قنعت بالقوت عمري** فلماذا أخاف زيدا وعمروا
هذا هو نبي الله أيوب عليه السلام: قالت له امرأته: لو دعوت الله أن يشفيك، قال: ويحك! كنا في النعماء سبعين عاماً فهلمي نصبر على الضراء مثلها، فلم ينشب إلا يسيراً أن عوفي. الزمخشري : ربيع الأبرار 1/412.
قال مُطرِّف بن عبدالله الشخير: أتيت عمران بن حصين يوماً، فقلت له: إني لأدع إتيانك لما أراك فيه، ولما أراك تلقى. قال: فلا تفعل، فو الله إن أحبه إليّ أحبه إلى الله .وكان عمران بن الحصين قد استسقى بطنه، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة، لا يقوم ولا يقعد، قد نقب له في سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته.فدخل عليه مطرف وأخوه العلاء، فجعل يبكي لما يراه من حاله فقال: لم تبكي؟ قال: لأني أراك على هذه الحالة العظيمة. قال: لا تبك فإن أحبه إلى الله تعالى، أحبه إلي. ثم قال: أحدثك حديثاً لعل الله أن ينفع به، واكتم علي حتى أموت، إن الملائكة تزورني فآنس بها، وتسلم علي فأسمع تسليمها، فأعلم بذلك أن هذا البلاء ليس بعقوبة، إذ هو سبب هذه النعمة الجسيمة، فمن يشاهد هذا في بلائه، كيف لا يكون راضياً به؟ إحياء علوم الدين 4/349
ساحة النقاش