بعض الناس يفضلون الخريف .. ينتظرونه، يترقبونه. يبهجهم الخريف أكثر من الربيع. يجدون في تساقط الأوراق جمالاً، ربما أكثر جمالاً من تفتح الورود. يجدون في الشجرة الجرداء وقاراً يوحي بجمال راق. ينتشون باللون الرمادي الذي تكتسي به الدنيا سماء وأرضاً، ويهزهم هواء ينبئ ببرودة قادمة. ويؤكدون أن للخريف رائحة ليس كمثلها شيء توحي بجلال وقدم وتاريخ. يجدون في كل ذلك معنى وقيمة وعمقاً، ويشملهم حزن رقيق هو أقرب إلى السرور الهادئ يدفعهم للتأمل والتفكير والتدبر والإدراك الباطني وتراودهم الأفكار النبيلة على خالق الكون ومبدعة ويصحو لديهم حنين دفين للفن.
ولذلك لا ينزعج رجال كثيرون وهم يتخطون الخمسين. لا يشعرون بالانطفاء ولكن بالتوهج. ولا يقلقهم تجاعيد زاحفة أو شعيرات بيضاء متناثرة ربما بكثافة ولا ينشغلون بمقاومة الزمن والبحث عن وسائل للعودة إلى الوراء. بل يرتشفون الحاضر بتلذذ غير معهود ويستمتعون بخواطر وإلهامات ونبضات وجدان غير مسبوقة. وتشملهم همة وحماس ونشاط هادف واع، وتصبح قيمة الزمن أعلى وإذا بالساعة الواحدة إيجازاً وإمتاعاً تساوى يوماً من الزمن غير البعيد. وفي هذه الرحلة يستطيعون بالعين المجردة أن يروا الكرة الأرضية وهي معلقة في فضاء الكون، ويدركوا علاقتها بالكواكب والمجرات الأخرى، وينفذوا بأبصارهم وأفكارهم ووجدانهم إلى أعمق أعماق الكون في محاولة لإدراك سر الوجود.
وتتراجع القوى الجسدية، رويداً رويداً تراجعاً غير محسوس وغير مدرك. وتتزايد قوى أخرى، القوى المعبرة حقاً عن معنى الانسان، وأهمها قوة الروح. فتزداد شفافية وإحاطة وإلماماً ونفاذاً وإدراكاً ونقاء وكشفاً. وإذا بقوة الروح تمنح الجسد المتراجع قوة من نوع جديد تزيد من روعة الأحاسيس وتجاوبها ويكتسى الوجه وقاراً يوحى بجمال أخاذ ناضج من عقل ناضج.
وقليل من الرجال ينزعجون يصيبهم قلق وغم، يتحسرون، ينظرون بأسف إلى الشباب اليانع من حولهم بل ويحسدون، يهرعون إلى الأصباغ والألوان والمقويات لعلهم يسرقون الزمن ولكن هيهات. ينشغلون بالكامل بأجسادهم، فتنطفئ أرواحهم. ويدخلون في سباق هم الخاسرون فيه حتماً. ويزداد القلق وتزداد الكآبة، فيزداد التهور والاندفاع والانغماس واللهث وراء لذات فورية مؤقتة تفشل في إرواء الجسد المتراجع.
والعلم يطلق على هذه المرحلة سن اليأس عند الرجال. وتبدأ حول الخمسين في مقابل سن اليأس عند المرأة والتي تبدأ حوالي الخامسة والأربعين.
وهي مرحلة تراجع هورموني وتساقط في الخلايا، فيخفت وهج الرغبة، تتواضع رعونة النشاط والهمة، وتبطؤ الاستجابة ويصحب ذلك تغيرات واضحة في الملامح والشكل والقوة والحركة، ويصاحب ذلك تغيرات في النفس فتغشاها كآبة وزهو وفتور وانطفاء وتراجع وانهزام وحسرة وأسى، وهي نفس المعاني التي يمكن أن نستوحيها بالنظر إلى أشجار الخريف وخاصة إذا كنا من هذا النوع من الناس الذي يزعجهم الخريف. أما الذين يحبون الخريف، فإنهم لا يزالون يرون الشجرة واقفة منتصبة قوية، جذورها ممتدة في الأرض وساقها مرتفعة إلى السماء، وما زالت تجري في شرايينها المياه حاملة عناصر الحياة من الأرض إلى خلاياها. ولا يزالون يرون فيها جمالاً من نوع خاص بعد ذبول أوراقها.
إذن الأمر يتوقف على كيف ننظر إلى الأشياء؟ كيف نفهم الحياة؟ كيف ندرك المعنى؟ كيف نرى بانوراما الحياة منذ لحظة الميلاد إلى لحظة الرحيل؟ وما حكمة المراحل التي يمر بها كل مخلوق حي من ضعف إلى قوة إلى ضعف إلى زوال؟
بعض الناس يزعجهم التراجع الجسدي فيشغلهم عن تعاظم في قوى أخرى داخلهم ويلهيهم عن متع أخرى لا يمكن إدراكها إلا في هذه المرحلة من العمر.
بعض الرجال في هذه المرحلة من العمر يتصورون أن بإمكانهم خداع الزمن فيتشبهون بشباب العصر في ملبسهم وسلوكهم، ثم يتصورن أنه بإمكانهم البدء من جديد، أي أنى وكأنهم يبدءون حياتهم فيتزوجون بمن تصغرهم في السن كثيراً ويدخلون في سباق ومنافسة مرهقة مضنية ويعيشون الوهم. وبذلك تضيع منهم متعة الطمأنينة مع شريك العمر ورفيق رحلة الحياة حيث كبرا معاً وحصدا معاً، وحزنا معاً، وادخرا رصيداً هائلاً في بنك الذكريات ينفقان منه وهما يتدثران ملتصقين حول مدفأة الشتاء. وبذلك تفوت عليهم فرص الاستمتاع بالأبناء وقد كبروا وبفرض قفز الإحصاء من حولهم فبذلك يفقدون فرص التمتع بالشجرة الكبيرة التي بدأها معاً وأثمرت من الأولاد والبنات والأحفاد ما أثمرت.
والاكتئاب يداهم هؤلاء الذين يتحسرون بشدة على الشباب الفائق، ويسمى اكتئاب سن الياس. وهو اكتئاب مرضي يحتاج إلى علاج طبي نفسي حيث يشعر الرجل بالحزن واليأس والقنوط وعدم الرغبة في الحياة والأرق وضعف الشهية مع زيادة في الوهن الجسدي أو قد تكثر الشكاوى الجسدية دون أن يكون لها أساس عضوي. حالة من توهم المرض دون أن يكون هناك مرض.
وتزداد نسبة حدوث الاكتئاب بعد المعاش، ولعلها من أكثر فترات العمر حرجاً عند الرجل. والمعاش عند بعض الناس معناه فراغ وضياع السلطة والهيبة وكأن الرجل كان يستمد كل كيانه وذاته من عمله الرسمي فقط. وكأن كل قيمته كانت محصورة في وظيفته، فإذا فقدها أصبح هو لا شيء بعد أن كان كل شيء. وهذه خطورة أن يصل الإنسان إلى سلطة أو منصب براق أو هام دون أن يكون هناك أساس علمي أو تفوق مهني حقيقي. فإذا ترك وظيفته عاد إلى نقطة الصفر لأنه لم يكن لديه رصيد حقيقي من علم وخبرة وتميز. هذا يحدث في نوعية معينة من الوظائف والتي تجعل صاحبها ينشغل بالسلطة ويزهو بالقوة وينصرف عن الاهتمام الواعي الذكي لمستقبله فيما بعد زوال السلطة.
نتقل حدة أعراض مرض المعاش عند هؤلاء الذين يستمرون في عمل جاد ومفيد ومثمر مستفيدين من رصيدهم العلمي الثقافي ذي الخبرة الطويلة، لأنهم أتقنوا صنعة معينة، وأجادوا حرفة خاصة، ووصلوا إلى درجة من النضج والاحتراف بحيث يتلهف الناس على بضاعتهم لشدة إتقانهم وبراعتهم ودقتهم وإبداعهم. وهذه البضاعة من الممكن أن تكون رأياً أو مشورة أو حلاً لمشكلة .. ولا شيء يوقف مرض المعاش إلا العمل بعد المعاش. ويجب أن يستمر العمل حتى آخر لحظة من العمر. يجب ألا يتوقف الرجل أبداً عن العمل. والعمل بعد المعاش له متعة خاصة، متعة الهواية متعة العشق، متعة الإرادة الحرة الكاملة، متعة الإبداع والتفنين. هذه متع لم يكن يشعر بها الرجل وهو يمارس عمله في شبابه، هذا بجانب من المتع التي لا تتاح للإنسان إلا في هذه المرحلة من العمر.
مع التطور الحضاري العلمي وخاصة في المجالات المتعلقة بالبيئة والصحة أصبح من الممكن للإنسان أن يستمتع بالنشاط والقوة والحيوية والذاكرة الحادة بعد الستين. وأيضاً بعد السبعين وربما بعد الثمانين. بعض الناس تقل حركتهم بعد المعاش تحت تأثير وهم تقدم العمر. وبالتالي تقل حركتهم النفسية، فيزداد الإحساس بالنهاية وهذا خطأ كبير. إذن يجب أن يستمر النشاط الحركي العضلي والنفسي. النشاط الكامل، يجب أن تظل الشرايين مفتوحة تدفع بدم الحياة إلى كل خلايا الجسم من قلب مليء بالحماس وحب الحياة ومن عقل منتبه واع أصبح يدرك بعمق أكثر.
ثم يجب على الإنسان أن يعود إلى هواياته التي لم يكن لديه متسع من الوقت لممارستها، يجب أن يقرأ الكتب التي فاتته، وأن يعطى وقتاً للاستماع إلى التراث الموسيقى بتفرغ وخاصة أن الموسيقى في وقت انشغالنا تكون دائماً في الخلفية، أي لم نكن نعطيها اهتماماً وتركيزاً خاصاً.
يجب ألا يتوقف الإنسان عن ممارسة كل ما كان يستمع به في بداية حياته. ألا يتوقف عن الترفيه والترويح عن النفس. بل إن هناك متعاً جديدة تضاف وأصبحت متاحة له في هذه السن أو أنه أصبح قادراً عليها.
ويستطيع الرجل مهما بلغ عمره أن يستمر في ممارسة الحب بكل أشكاله مع شريكة حياته. ربما بكفاءة يحسده عليها أبناء العشرين. فلديهما رصيد من خبرة وألفة. كل منهما يستطيع أن يرى تعبيرات وجه الآخر في الظلام، كل منهما يستطيع أن ينصت بفهم إلى أنفاس الآخر.
وإذا هما يمارسان الحب يستعينان بكل الذكريات الحلوة في ممارسات سابقة تعد بعشرات المئات.
المصدر: د. عادل صادق
نشرت فى 7 أكتوبر 2011
بواسطة alenshasy
هدى علي الانشاصي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
10,401,734
ساحة النقاش