جلست بعد صلاة العصر، أستريح قليلا من عناء العمل، ولكن يبدو أننا أصبحنا في زمان تعز فيه الراحة، خاصة إذا كان في البيت أبناء في مراحل عمرية مختلفة، ولكل واحد منهم ميول ومتطلبات. جاءني ابني عبد الرحمن وقد ظهرت علامات الغضب واضحة على وجهه الجميل، وفي يديه كتاب صغير- كانت أمه قد أحضرته له بمناسبة تفوقه وحفظه لعشرة أجزاء من القرآن الكريم - نظرت إلى عينيه الصغيرتين فوجدت فيهما أسئلة حائرة!!.
أجلست عبد الرحمن بجواري ووضعت يدي على كتفه وحاولت التخفيف عنه، وقلت له: ماذا بك يا بني؟ لماذا أراك مهمومًا؟!.
رد عبد الرحمن في أدب ولكن بصوت حزين: أنا يا أبي في الصف الثاني الابتدائي، أعرف القراءة جيدًا وأستاذي يثني عليّ كثيرًا.
قلت له : طبعًا يا ولدي، وهذا من فضل الله عليك.
قال عبد الرحمن: ولكن يا أبي هذا الكتاب به كثير من الكلمات التي أعرف قراءتها جيدًا ولا أفهم معناها!.
صمت قليلا ثم قلت له: هذا شيء عادي يا بني، فعندما تقرأ أي شيء وتصادفك كلمة لا تعرف معناها فتعال إليّ وأنا أوضحها لك.
قال عبد الرحمن: يا أبي إن هذا الكتاب به كثير من الكلمات لا أعرف معناها، ثم قال بضجر: أنا لا أحب هذا الكتاب.. سوف أذهب لأشاهد التليفزيون ولا داعي للقراءة، فالإعلانات وأفلام الكرتون ممتعة ورائعة.
أحسست أنني في ورطة.. كيف أعالج هذا الأمر؟!
نظرت إلى عبد الرحمن ثم قلت له مداعبًا: أهكذا يا بطل تترك صديقك الكتاب من أول مشكلة تواجهك؟! تعال معي، وأخذته إلى الشرفة حيث نسمات الهواء العليلة لإخراجه من هذا الموقف، ثم قلت له: تعال نتصفح الكتاب معًا ونوضح الكلمات الغامضة... وافق ابني على ذلك وأخذ يقرأ جيدًا ثم توقف عن القراءة.
نظرت إلى الكتاب فإذا بعبارة تقول: "وذهب الظبي مع القرد إلى الغضنفر".. وهنا أدركت أن ابني معه حق، لماذا لم يقل الكاتب: "وذهب الظبي مع القرد إلى الأسد ملك الغابة" فإذا كنا جميعًا نعرف أن "الغضنفر" من أسماء الأسد فإن الطفل لا يعرف ذلك. وقبل أن يلحظ ابني ما أنا فيه من توتر واصلنا القراءة بعد أن شرحت له معنى كلمة "غضنفر"، وإذا بعبارة أخرى تقول: "صه أيها القرد أتريد أن تسوي بيني وبينك شتان شتان"، وهنا لم أتمالك نفسي فبدا الانفعال على وجهي. قلت في نفسي لماذا لم يقل المؤلف: "اسكت بدلاً من صه" ولماذا لم يقل: "هنا فرق كبير" بدلاً من شتان شتان.
وهنا أدركت أن مؤلف الكتاب يريد أن يستعرض مفرداته اللغوية في كتاب لطفل صغير، ونسي هذا المؤلف أن نجاحه يتوقف على مدى سهولة ألفاظه وانسيابها وملاءمتها لقاموس الطفل.. كما أن المؤلف المحترف يجب أن ينزل بثقافته ومستواه اللغوي إلى ثقافة ومستوى الطفل، ليس هذا فحسب وإنما لكل مرحلة عمرية من الطفولة قاموس لغوي خاص بها ينبغي على كاتب الأطفال أن تأتي مفرداته متوافقة مع كل شريحة عمرية بعينها.
حاولت قدر الإمكان أن أخفف على ابني ما هو فيه من ضيق ثم داعبته، وقلت له: لا تغضب إن شاء الله سوف أحضر لك كتابًا جميلاً اليوم، انصرف عبد الرحمن فسألت زوجتي عن مصدر هذا الكتاب، فأجابت: رأيت رجلا يبيع كتب أطفال على أحد الأرصفة وكان رخيص الثمن فاشتريته. وهنا أدركت أن هذا الكتاب لم يخرج عن مؤسسة متخصصة وإنما خرج من أناس غير محترفين في هذا العمل، كان همهم فقط تسويق الكتاب، فجاء سيئًا في لغته سيئًا في شكله وإخراجه.
تصفحنا الكتاب أنا وزوجتي فإذا برسومات شاحبة لا جاذبية فيها ولا تناسق في ألوانها ولا في إخراجها، كما لاحظنا أن الورق ضعيف وفي غاية السوء وتنبعث منه رائحة أحبار كريهة. لقد كان مع الولد كل الحق في أن يترك الكتاب ويكره القراءة.
زوجتي الحبيبة، لا بد أن تتصفحي الكتاب جيدًا قبل أن تشتريه لطفلك، فكتاب الأطفال ينبغي أولاً: أن يكون واضح الخط مكتوبًا بلغة بسيطة وسهلة ومناسبة لعمر الطفل.
ثانيًا : يحتوي على صور معبرة وجذابة ورسومات واضحة وهادفة وألوان زاهية ممتعة.
وثالثًا : يجب مراعاة نوعية الورق المصنوع منه الكتاب، فالورق الرديء الضعيف يتلف بسرعة وتتلاشى سطوره.
أسرعت زوجتي ناحية مكتبة الأولاد وراحت تعيد النظر في كل ما فيها من كتب... أما أنا فرحت أفكر في أشياء عديدة لا بد أن يراعيها الأب والأم عند شراء الكتب لأطفالهم.
نظرت إلى زوجتي وقلت لها: لقد غاب عن أذهاننا أشياء كثيرة لا بد أن نراعيها عن شراء الكتب لأولادنا، فقد يكون الكتاب شكله جذاب ولغته بسيطة، ولكن يخلو من المضمون الهادف ولا يحقق الهدف من ورائه، فكتاب الطفل أو أي وسيلة إعلامية أخرى موجهة للطفل لا بد أن تحوي منظومة من القيم والأخلاقيات التي ترتقي بسلوك الطفل وتؤهله ليكون عضوًا صالحًا في المجتمع. عند ذلك قالت زوجتي: ولكن هذا لا يتحقق إلا من خلال رسالة تنبع من الإيمان بالله وبرسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) وأن يكون مضمون تلك الرسالة منطلقًا من أعراف المجتمع وتقاليده وأن تتجنب هذه الرسالة كل ما يخدش الحياء أو يدعو للعنف واللامبالاة.
وهنا قررت أنا وزوجتي أن نفكر كثيرًا قبل أن نشتري أي كتب لأولادنا وأن نذهب لمؤسسات متخصصة في أدب الطفل، وأن يكون القائمون على تلك المؤسسات على مستوى المسئولية التي يحملونها وهي توجيه وتنشئة وتثقيف الطفل. تساؤلات كثيرة فجّرها ابني عبد الرحمن من خلال كلمة غامضة في كتاب، وقبل أن نغادر أنا وزوجتي مكتبة أطفالنا إذا بنا نسمع صيحات عالية وأصواتا خشنة وضوضاء شديدة قادمة من غرفة الأولاد؛ حيث كانوا يشاهدون فيلم "كرتون"، ويبدو أنهم يحاكون ما شاهدوا فماذا حدث لأولادنا؟!!.
المصدر: علي لطفي
نشرت فى 22 أغسطس 2011
بواسطة alenshasy
هدى علي الانشاصي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
10,396,416
ساحة النقاش