لاتستقيم حياة البشر دون أن يكون هناك رئيسا ومرؤسا , حاكما ومحكوما , جنديا وقائدا , وعلى أساس شخصية كل من هؤلاء وديناميات العلاقات القائمة بينهما تكون نوعية الحياة وعلامات التحضر والرقى .

إشكالية العلاقة بين الحاكم والمحكوم :

ذكر العلامة ابن خلدون فى مقدمته العظيمة ( والتى هى أصل علم الإجتماع الحديث ) أن "العرب أبعد الأمم عن سياسة الملك" وأن "آفتهم الرئاسة" , ويصف سلوك الملك أو الأمير أو الرئيس بقوله : " وإذا تعين له ذلك ومن الطبيعة الحيوانية خلق الكبر والأنفة , فيأنف حينئذ من المساهمة والمشاركة فى استتباعهم والتحكم فيهم , ويجئ خلق التأله الذى فى طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحاكم لفساد الكل باختلاف الحكام " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " ( الأنبياء 22 ) , فيجدع حينئذ أنوف العصبيات ( الأحزاب والجماعات بلغة العصر ) ويكبح شكائمهم عن أن يسموا إلى مشاركته فى التحكم , يفرع عصيهم عن ذلك , وينفرد به ما استطاع حتى لا يترك لأحد منهم فى الأمر ناقة ولا جملا فينفرد بذلك المجد بكليته ويدفعهم عن مساهمته فيه . وقد يتم ذلك للأول من ملوك الدولة و وقد لايتم للثانى أو الثالث على قدر ممانعة العصبيات وقوتها ,إلا أنه أمر لابد منه فى الدول " ( مقدمة ابن خلدون ص 196 وص 216 – دار الفجر للتراث ) . ورغم مرور السنين على هذا القول ( ابن خلدون 1332-1406 م ) إلا أن مشكلة الرئاسة لدى العرب تشكل عقبة فى طريق نموهم وتطورهم  , والأمر يرجع إلى ماقبل ذلك بكثير ربما إلى وقت الصراع الذى دار بين على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان رضى الله عنهما حول الخلافة واستعر الصراع فى عصر يزيد , وهذا ربما يدلنا – كما نقول فى علم النفس – على أن هناك صراعا لم يحسم أو عقدة لم تحل فى هذا الموضوع تجعل المجتمعات العربية فى حالة تأزم فى معظم فترات تاريخها على الرغم مما امتلكته من عوامل قوة حضارية إلا أن مأساته كانت فى أمر الملك والرئاسة والإدارة . وقد آثر الكثيرون من فقهاء الأمة وعلمائها الإنصراف عن هذا الأمر الملئ بالعقبات والمشكلات والمهالك إلى التأليف فى علوم اللغة والتفسير والفقه , ومن تصدى منهم وكتب فى أمور السياسة والحكم كتبها تحت ضغوط عصره وظروف بلده فجاءت بعيدة عما يجب أن يكون . وفى مصر قد تعود الأزمة إلى زمن الفراعنة نظرا لطبيعة المجتمع النهرى الذى استدعت وجود سلطة مركزية تدير النهر وما يترتب عليه من أحوال الزراعة فى الفيضان والجفاف , فكانت هذه السلطة المركزية تميل كثيرا إلى الإستبداد وتميل الجماهير إلى الخضوع والمداهنة ومحاولات تفادى بطش السلطة .    

وفى القرن السادس عشر جاء السياسى البراجماتى نيقولا ميكيافيللى وكتب كتاب " الأمير " والذى كان صدمة لكل دعاة العدل والحرية فى المجتمعات البشرية حيث حوى هذا الكتاب نصوصا وتعليمات ونصائح للأمير تشكل دستورا للإستبداد والطغيان تحت دعوى الواقعية والبراجماتية وتحقيق المصلحة واستقرار الحكم . وقد كان ميكيافيللى مدفوعا فى كتابته لهذا الكتاب بكراهية ورفض لتحكمات الكنيسة ورجال الدين فى عصره فأراد أن يفصل تماما بين الدين والسياسة , وتمادى فى ذلك بأن فصل بين الأخلاق والسياسة فكان كتابه بعيدا عن الإلتزام بأى أخلاق متعارف عليها بحجة أن الأخلاق تفسد السياسة وتحد من فاعلية السياسى وقراراته . وفى نهاية القرن التاسع عشر كتب " جوستاف لوبون " كتابه الشهير " سيكولوجية الجماهير " ليصف فيه الطرف الآخر المقابل للسلطة وهو الجماهير فقال عنها : " إن الجماهير أبعد ما تكون عن التفكير العقلانى المنطقى , وكما أن روح الفرد تخضع لتحريضات المنوم المغناطيسى فإن روح الجماهير تخضع لتحريضات وإيعازات أحد المحركين أو القادة الذى يعرف كيف يفرض إرادته عليها , وفى مثل هذه الحالة من الإرتعاد والذعر فإن كل شخص منخرط فى الجمهور يبتدئ فى تنفيذ الأعمال الإستثنائية التى ماكان مستعدا إطلاقا لتنفيذها لوكان فى حالته الفردية الواعية والمتعقلة . فالقائد أو الزعيم إذ يستخدم الصور الموحية والشعارات البهيجة بدلا من الأفكار المنطقية والواقعية يستملك روح الجماهير " ( سيكولوجية الجماهير – ترجمة هاشم صالح , دار الساقى , بيروت ) .

وإذا أضفنا صورة الأمير لمكيافيللى كرمزللسلطة إلى صورة الجماهير لدى جوستاف لوبون فإننا نحصل على منظومة كاملة للعلاقة السلبية بين الحاكم والمحكوم .

المجتمع الأبوى والسلطة :

وعلى الرغم من أن المجتمعات البشرية قد استفادت من أزماتها وصراعاتها فى هذا المجال ووضعت آليات  تضمن سلاسة وإيجابية العلاقة بين الحاكم والمحكوم بدرجة معقولة نسبيا تبدت فى نظم ديموقراطية ومؤسساتية حديثة إلا أن العرب مازالوا من بين أمم الأرض يتخبطون فى هذه الدائرة دون بادرة أمل لخروجهم منها فى المستقبل القريب , ففى مصر والعالم العربى على وجه العموم أزمة حقيقية فى الوقت الراهن سببها ذلك الصراع الخفى أحيانا والظاهر أحيانا أخرى بين فكرة المجتمع الأبوى وفكرة المجتمع الناضج , فالمجتمع الأبوى يقوم على أساس أن هناك والدا أو مسئولا أو رئيسا يملك كل شئ ويعرف كل شئ ويوجه كل شئ وله احتراما خاصا قد يصل إلى درجة القداسة التى تستوجب الطاعة العمياء من الأبناء أو التابعين أو الرعية والذين ينحصر دورهم فى الإتباع والإنصياع والتنفيذ , وهذه هى المنظومة التى مازالت قائمة على المستوى الأسرى والوظيفى والعام , أما المجتمع الناضج والذى تنادى به العقلاء والراشدون من البشر فهو الذى يوزع المهام والأدوار بين أفراد ومجموعات يتسمون جميعا بالنضج والمسئولية دونما تضخيم أو تقديس لأحد وذلك ضمن منظومات متطورة ومرنة وفاعلة وقابلة للتغيير الإيجابى . ويبدو أن هذه الأزمة مرشحة للتفاقم حاليا وبقوة بسبب حالة العولمة الثقافية التى أتاحت لفئات كثيرة رؤية واسعة للعالم الأوسع وما يجرى فيه مما فتح الباب أمام مقارنات مؤلمة ومحفزة ومفجرة , فعلى الرغم من سيادة فكرة المجتمع الأبوى على المستوى الرسمى إلا أنه على المستوى الإجتماعى والثقافى قد حدثت تحولات هائلة تجاه فكرة المجتمع الناضج بعضها مازال على مستوى التنظير والأمنيات وبعضها دخل حيز التنفيذ على حذر أحيانا واستحياء فى أحيان أخرى , وفى المقابل يقاتل الآباء ( على المستوى الأسرى والمؤسساتى والحكومى ) من أجل إبقاء الأوضاع القائمة كما هى بما يخدم تربعهم على عرش السلطة والسطوة والأمر والنهى , وهم حين يدركون تغير الزمن والأحوال والظروف ربما يحاولون التظاهر بمسايرة ضرورات التغيير والتحول من حيث الشكل دون المضمون , ولكن من المؤكد أن عجلة التطور تدور ولا يستطيع أحد مهما كان أن يوقفها طول الوقت .

وبما أننا فى الواقع مازلنا نعيش حقبة المجتمع الأبوى لذلك تشكل شخصية الرئيس – كما قلنا – المحور الأساسى فى التخطيط والتوجيه والتحريك والتوقيف حيث أن زمام الأمور دائما بيده فهو يضبط إيقاع حركة المجتمع الذى يقوده وفق رؤاه الشخصية , ونحن نقصد بالرئيس هنا كل صاحب سلطة على المستويات المختلفة بدءا من الوالد فى الأسرة ( وأحيان الوالدة فى بعض الأسر ) مرورا بالمديرين ورؤساء مجالس الإدارات ورؤساء الأقسام والعمداء والوزراء وانتهاءا بأعلى سلطة سياسية ( ونحن نركز على كل المستويات حتى لا تختزل جهود الإصلاح على مستوى دون غيره ) , وما دام الأمر فى الواقع كذلك ( بصرف النظر عن قبولنا أو رفضنا ) فإن شخصية الرئيس ( فى أى موقع أو مستوى ) تصبح جديرة بالدراسة والتأمل لأن من خلال فهمنا لها نستطيع فهم ما يجرى وتوقع ما سوف يحدث فالأمور لا تسير فى الأغلب حسب ما تمليه الدساتير والقوانين واللوائح بقدر ما تسير حسب ما يرى الرئيس أو الملك أو الأمي أو المسئول ولهذا فأنت لا تحتاج أن تتعب نفسك فى قراءة الدستور أو القانون فى كثير من الدول العربية والمؤسسات العربية بقدر ما تحتاج أن تعرف من هو الشخص الذى يترأس هذا المكان وما هى سماته الشخصية , أى أننا أمام حالة شخصنة للتوجهات والرؤى والسياسات , وبمعنى آخر نحن أمام ما يسمى بسلطة الشخص أو سلطة السلطة ( يقابلها فى المجتمعات المتقدمة سلطة القانون )

المصدر: دكتور/ محمد المهدى

ساحة النقاش

هدى علي الانشاصي

alenshasy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,408,204