هل تصدق أن ثلاث قطع إلكترونية صغيرة أصبحت تشكل وعى الجيل الجديد ! ! !
هل تصدق أن حركة الماوس على شاشة الكومبيوتر أصبحت أكثر سحرا لدى هذا الجيل من أجمل منظر طبيعى فى العالم !!!
هل تصدق أن كثير من الشباب ..بل من المراهقين .. بل من الأطفال لم يعد لهم حلم أهم من اقتناء " موبايل " وتغييره كلما ظهر نوع جديد يحمل إمكانات أكثر جذبا وإثارة , وأن هذا الجيل حين يشترى الصحف يتجاوز كل الأخبار العالمية والمحلية وكل الأعمال الأدبية ويتجه رأسا ومباشرة إلى إعلانات " الموبايلات " ...ولا ينتقل منها إلا إلى إعلانلات " النغمات " أ و "الرنات"....!!!
هل تصدق أن المراهق أو الشاب أو حتى الطفل الذى لايحمل " موبايل " فى يده قد أصبح مثار سخرية واستهزاء بين أقرانه , وأصبح معرضا للشعو ر بالدونية وفقد احترامه لذاته ولذات أهله وبالتالى معرضا للإصابة بالإكتئاب أو نوبات الغضب الشديدة بلا مبرر ... وتنتابه من وقت لآخر كوابيس أثناء النوم ... وتنتابه ميول قهرية للسرقة كى يشترى موبايل !!!
هل تصدق أن الخلافات داخل الأسرة أصبحت تدور حول من له الحق فى الإمساك بالريموت كونترول والتحكم فيما يشاهده الآخرون على شاشة التليفزيون ... وهل تصدق أن أطفالنا وشبابنا وفتياتنا يجلسون أمام التليفزيون حوالى 7 ساعات فى المتوسط ولا يقومون من أمامه إلا ليجلسوا على الإنترنت أو يتحدثوا فى الموبايل !!! ... ولهذا أصبح انتماؤهم لهذه الأشياء أقوى بكثير من انتمائهم لأسرتهم , ولا تحدث بعد ذلك عن انتمائهم لبلدهم , فلا تستغرب بعد الآن موت التيار الشعبى وموت الشارع العربى أو الشارع الإسلامى , فكل هذه التيارات والشوارع قد تجمدت أمام شاشات الكومبيوتر والموبايل والتليفزيون ليس بحثا عن علوم تغذى العقل أو فنون قيمة تثرى الوجدان أو فرص عمل تحد من البطالة , وإنما بحثا عن لذة فارغة تدغدغ الحواس .
لقد افتقد هذا الجيل لحظات الصباح الباكر فهو لا يصحو من نومه إلا قرب العصر لأنه ينام قبل الفجر مباشرة , وقد قال لى أحدهم إنه اضطر يوما للإستيقاظ فى الصباح ليؤدى الإمتحان
( مكرها ) فكان يستغرب شكل الدنيا وشكل الحياة وشكل الناس فى هذا الوقت الغريب عليه .
ولم يعد الأبوين مصدرا للحب والحنان والتربية فهذا الجيل لايحتاج منهما هذه الأشياء بل اقتصرت وظيفة الأبوين على توفير الثلاثى المذكور " الماوس " و" الموبايل " و" الريموت كونترول " , وبالتالى فإن الأب الذى لايستطيع توفير ذلك يصبح غير جدير بالإحترام فى نظر أبنائه لأنه أتى بهم إلى الحياة ولم يوفر لهم احتياجاتهم الأساسية .
وتوارت الطموحات والأحلام والأهداف لتعطى الفرصة للهدف الأهم والوحيد : " الحصول على موبايل بكاميرا " أو " شراء كارت شحن " أو " تحديث الكومبيوتر " . وأصبح ا لمراهق أو الشاب يقيّم وسط زملائه بنوع الموبايل الذى يحمله فى يده , وأصبح حب الوالدين يقدر بمدى عطائهما الإلكترونى لأبنائهما فكلما زاد الحب زادت أجهزة الموبايل فى أيدى الأبناء حتى لاتترك طفلا رضيعا بدون موبايل يتحدث فيه إلى أمه حين تكون مشغولة عنه فى المطبخ !!!
بالأمس القريب زارنى رجل عصامى شريف له رأى فى موضوع الموبايل بأنه خرب البلد لأنه يشكل استنزافا للموارد بلا أى معنى أو فائدة إلا المنظرة الكاذبة والفارغة , فقال لى فى سخرية تملؤها المرارة : " لقد قررت المساهمة فى حملة السفه العام " ... قلت له كيف ؟ ... قال لقد اشتريت لكل طفل من أطفالى " موبايل " ..... قلت متعجبا : ولم ؟ .... قال لأحميهم من سخرية زملائهم حيث لم يعد أحدا من زملائهم بلا موبايل إلا هم , وقد أصيبوا فى الفترة الأخيرة بنوبات اكتئاب ونوبات غضب , وأصبحوا يكرهوننى ويعتبروننى أب فاشل بالمقارنة بآباء زملائهم من حملة الموبيلات وكروت الشحن وخطوط البيزنس .
وكنت أجلس مع صحفيا ثائرا فسألنى : بماذا تفسر من الناحية النفسية هذا الموات الشعبى أمام الأوضاع المحلية والعالمية ؟ ... لقد كنا فى شبابنا نهز الدنيا لأحداث أقل من هذا بكثير !!... فقلت له : إبحث عن الماوس والموبايل والريموت كونترول ( كن قديما كلما حدثت مشكلة نقول : إبحث عن المرأة ) !!!! فالشباب ياسيدى يسير فى شوارعنا العربية مسرعا جدا هذه الأيام ليصل إلى بيته فى أقرب وقت كى يلحق بالمنتدى على النت أو " "يشيت" مع صديقه أو صديقته أو يلحق بمباراة كرة القدم المنقولة على الهواء مباشرة , وبالتالى فليس لديه وقت ليتابع الأحداث التى تهمك أنت وتهم جيلك البائد الذى لايجيد التعامل مع وسائط الإتصالات العالمية . فرد علىّ مستنكرا : " يبدو أنك متشائم كثيرا ... مازال هناك شباب كثيرون يتفاعلون مع الأحداث ... ألم تراهم فى الجامعة يتظاهرون ضد احتلال العراق واحتلال فلسطين ؟؟ " .... قلت له : " هؤلاء فئة قليلة مازالو على العهد , وبعضهم لديه التزامات أو ارتباطات ببعض المجموعات السياسية أو الدينية .... ومع هذا سرعان ما ينفض جمعهم دون تأثير يذكر " .... فقام الصحفى وهو يغلى من الغيظ منى ومن القطع الإلكترونية الثلاث : الماوس والموبايل والريموت كونترول .
وهذه القطع الإلكترونية الثلاث قد أدت إلى نوع من التفكير السحرى , فمن يستخدمها يتصور أن الأشياء تتحقق بمجرد تحريك الماوس على الشاشة أو اللعب فى أزرار الموبايل أو اللعب بالريموت كونترول , فهذه الأشياء لاتحتاج إلى حركة أو سعى فكل ما تريده يتحقق بمجرد تحريك إصبعين أو ثلاثة وأنت جالس مكانك , فهى تحقق الحكمة القائلة : " إن الله يرزق الهاجع والناجع والنائم على صرصور ودنه ", وهى بذلك تعيد للأذهان فكرة مصباح علاء الدين السحرى وفكرة صندوق الدنيا . ومع استمرار استخدام هذه الوسائل ينسى الشاب أو المراهق قوانين الحركة والسعى فى الحياة ويطلب ذلك من والده أو والدته فيكفيه هو أن يعبث بأصابعه فى هذه الأجهزة لتفتح له الدنيا أبوابها وتطلعه على فرص استهلاكية واستمتاعية هائلة , ولا يبقى أمامه غير الضغط على أبيه ( كما يضغط على الأزرار ) لكى يشترى له ما وعدته به هذه الآلات الساحرة , والأب هنا يمثل " الجنى " الذى يظهر بعد " دعك " مصباح علاء الدين ليقول فى صوت جهورى مع قهقهة عالية : " شبيك لبيك عبدك وخد ّامك بين إيديك " . وهكذا أصبحت أحلام الشباب تتحقق من خلال آبائهم وليس من خلال عملهم واجتهادهم , وأصبح الفشل فى تحقيق الأحلام مرتبطا بتراخى الأب وكسله وقلة حيلته وضعف مهاراته الإجتماعية , أما الشاب فقد قام بواجبه كاملا حين ضغط على الأزرار ولكن الجنى ( خادم المصباح أو خادم الأزرار ) كان كسولا فلم يحقق المطلوب .
وجاءنى أب يشكو متألما : لم أعد أرى وجوه أبنائى !! ... قلت له : كيف ؟ ... قال : كلما دخلت غرفة أو صالة وجدت أحدهم ميمما وجهه شطر شاشة كومبيوتر أو شاشة تليفزيون , ولا أرى منه إلا ظهره وقفاه !!!...... فقلت مستفسرا ( ومستفزا ) : لعلهم يستزيدون ثقافة وعلما من هذه الوسائط التكنولوجية الحديثة ؟؟؟ ..... فرد وقد ازداد غيظا : أبدا يا دكتور إنهم يشاهدون قنوات الأغانى والفيديوكليب أو " يشيتون " مع أصدقائهم على " النت " .. أو يبعثون "مسجات" (رسائل) على الموبايل .. وكلما حاولت التحدث إلى أحدهم هب فى وجهى ثائرا غاضبا ومعنفا . وهنا تذكرت نتائج البحث الذى تم فى أمريكا على 7000 طفل وتتبعهم لمدة 17 سنة حتى وصلوا إلى مرحلة المراهقة , وكانت نتيجته أن الأطفال الذين يجلسون أمام التليفزيون ثلاث ساعات يوميا تزيد حدة العنف لديهم 5 مرات مقارنة بمن يجلسون فترات أقل , وتذكرت أيضا ذلك البحث الذى تم على عينة من الشباب المصرى الذى يرتاد أندية الإنترنت حيث تبين أن 2% منهم فقط يستخدمون الإنترنت فى أغراض علمية فى حين يستخدمه الباقون ( 98% ) لأغراض ترفيهية واستمتاعية ) ..... عندئذ قلت : يارب سلّم
ساحة النقاش