سيكولوجيا السياسة- عبد الكريم ناصيف- جريدة الاسبوع الادبي
لعلنا قرأنا أو سمعنا الكثير عن سيكولوجيا الطفل، سيكولوجيا الأعماق، سيكولوجيا العدوان... إلخ لكن سيكولوجيا السياسة أمر جديد ولا شك، فهل للسياسة سيكولوجيا خاصة، متبلورة وقائمة بذاتها؟ هل ينطلق السياسي في عمله وممارساته السياسية من منطلقات سيكولوجية محددة؟
هل... هل... إلى آخر ما هنالك من أسئلة يمكن أن تتبادر إلى الذهن ونحن نواجه مثل هذا العنوان، لنخلص إلى إجابة واحدة على هذه الأسئلة جميعاً هي:
نعم. للسياسة سيكولوجياها الخاصة مثلما هنالك سيكولوجيا للعددان وسيكولوجيا للطفل.. كما إن للسياسة علاقة مباشرة ووطيدة بعلم النفس ذاته وميدان آخر بالغ الأهمية ألا وهو: الثقافة، أي أن هنالك ثلاثة ميادين للنشاط البشري وللمعرفة البشرية مترابطة فيما بينها أشد الترابط. هذه الميادين هي: علم النفس، السياسة، الثقافة، ذلك أن الثقافة تلعب دوراً كبيراً في تحديد سيكولوجية الفرد والجماعة والسيكولوجية هذه تؤثر تأثيراً مباشراً في السياسة وتصرفات السياسيين وردود أفعالهم في هذا الموقف أو ذاك، كما أن السياسة تشكل أحد العوامل الهامة في تغيير الثقافة والسيكولوجيا للفرد والمجتمع. من هنا نشأت فكرة علم النفس السياسي أو سيكولوجيا السياسة، حيث تتقاطع هذه الميادين الثلاثة فيؤثر واحدها في الآخر ويتأثر به ضمن عملية تفاعل متبادلة تستحق كل بحث وتمحيص للتوصل إلى فهم أفضل لسيكولوجيا السياسة أو علم النفس السياسي هذا، كما يمكننا أن ندعوه.
واسع ومتنوع مجال هذا العلم، ذلك أنه يتضمن أنواعاً لا حد لها من النماذج والطرائق. وفي حين تبدو الفروع الأكاديمية الأخرى متجهة نحو تضييق بؤرها بغية التركيز على تفاصيل معينة، فإن علم النفس السياسي يفتح ذراعيه باستمرار للترحيب بالقضايا والاستبصارات والمقاربات الجديدة. الأمر الذي يمكن رده إلى كثرة المواد واتساع النطاق الذي يدرسه هذا الفرع، فالسياسية واسعة النطاق، تدخل في كل صغيرة وكبيرة من حياة الإنسان، فرداً ومجتمعاً. ونظراً لأن السياسة ترتكز أساساً، على الطبيعة البشرية، يتعين علينا لكي نفهم السياسة أن نفهم علم النفس من جهة، ونفهم ثقافة ذلك المجتمع من جهة ثانية، باعتباره وحدة سياسية واحدة سواء أكانت ثقافته أحادية أم تعددية، فليس كل مجتمع مجتمعاً خالصاً، صافياً، عرقياً، أي يتكون من عرق واحد له تاريخه وتراثه وثقافته الواحدة بل قد يكون في المجتمع عرقيات مختلفة، وبالتالي ثقافات مختلفة، لهذا يمكن القول إن علم النفس السياسي يقع في نقطة الاتصال بين علم النفس وعلم الاجتماع، من حيث أن النظريات السياسية كلها تقوم على افتراضات تتعلق بطبيعة الفرد من جهة وديناميكية المجتمع من جهة ثانية، القائد والجماعة، المواطن والدولة... إلخ..
إذاً، لكي نفهم سيكولوجيا السياسة لا بد لنا قبل كل شيء، من أن نحللها إلى مكوناتها الثلاثة ونفهم كلاً منها على حدة:
1 علم السياسة: مذ نشأت المجتمعات البشرية نشأت السياسة، ذلك أن السياسة هي فن إدارة المجتمع الذي يتخذ شكلاً أو وحدة سياسية ندعوها الدولة. لقد عني المفكرون والباحثون منذ القدم بمسألة الدولة والسياسة والسياسي، نظراً لأهمية هذه العناصر الثلاثة في حياة الإنسان والمجتمع وشدة تأثيرها على تلك الحياة، فقد يكلف خطأ سياسي واحد المجتمع خسائر باهظة مادية ومعنوية، قد تودي به إلى الهلاك.... السياسة بالنسبة إلى المجتمع مسألة حياة أو موت، خراب أو عمران، تخلف أو تقدم، انحسار أو ازدهار، لهذا كتب أفلاطون في السياسة بل تصور جمهورية مثلى للدولة، يكون فيها الفلاسفة ورجال الأدب والفكر هم رأسها المحرك، كما كتب في علم السياسة أرسطو وراح ضحية السياسة سقراط نفسه، كذلك كتب المفكرون العرب: ابن رشد، الفارابي، ابن خلدون... إلخ، فيما خصص الإيطالي ميكافيللي كتابه «الأمير» لهذا العلم، باحثاً في مواصفات السياسي الناجح، محدداً السياسة ومقومات السياسة التي تفضي بها إلى الفلاح أو الإخفاق. ولقد أفاد المنظرون السياسيون الكلاسيكيون، حين كتبوا في علم السياسة هذا، من علم النفس المتاح لهم بأكثر أشكاله تقدماً، لكن المدى الكبير الذي بلغه علماء السياسة في استخدام علم النفس والمعارف السيكولوجية لم يتم التوصل إليه إلا في عهد حديث.
أي بعد أن تطور علم النفس وانصقل وتبلور على شكل علم قائم بذاته. ونظراً لأن من المستحيل على عالم سياسي أن يتجنب استخدام الافتراضات المتعلقة بالشخصية البشرية فقد انشغل بعضهم في هذا الاستخدام وغرقوا فيه إلى درجة اتهمهم بعض النقاد «بالسكلجة»، أي بتجاوزهم الحدود المسموح بها للسيكولوجيا، مما سبب القلق للنقاد الذين شعروا بطغيان السيكولوجيا على السياسة لدى علماء السياسة أولئك.
عبر التاريخ ظل الشغل الشاغل لعلماء السياسة هو تحديد مواصفات السياسة الناجحة التي توفر للمجتمع الرخاء والازدهار، الأمن والسلام، الحرية والاستقلال وبالتالي السيادة والكرامة، وقد انصبت انتقاداتهم كلها على الممارسات السياسية التي تنعكس على المجتمع انعكاسات سلبية تودي به إلى أضداد ما سبق وذكرت.. خاصة وهم يعلمون أن كل سلوك أو قرار يتخذه السياسي سينعكس سلباً أو إيجاباً على المجتمع.
كذلك كان الهم الدائم لعلماء السياسة أن يحللوا الدوافع والأسباب الكامنة وراء هذه السياسة أو تلك هذا السلوك السياسي أو ذاك، مثال على ذلك خروشوف: لماذا خلع حذاءه وضرب به المنضدة التي يجلس عليها؟ أزمة خليج الخنازير التي كادت تفجر حرباً عالمية ثالثة، اغتيال ولي عهد النمسا في سراييفو، وهو الحدث الذي أشعل مباشرة فتيل الحرب العالمية الأولى.. إلخ.
إنهم ينطلقون في أبحاثهم وتحليلاتهم هذه من نقطة أساسية هي التالية: إذا ما تمت معرفة الأسباب والدوافع وراء هذه السياسة أو ذلك التصرف، أصبح بالإمكان فهمه وبالتالي تفادي وقوع مثيل له في المستقبل.
ضمن هذا المجال ينضوي اهتمام علماء السياسة بدراسة ظاهرة بدت غاية في الأهمية لتأثيرها البالغ في مجرى التاريخ وأحداث العالم كله في القرن العشرين، ألا وهي ظاهرة الاستبداد والدولة الاستبدادية. لقد انكب علماء السياسة في مرحلة من المراحل على تحليل تلك الظاهرة طبقاً لأنواع بعينها من الحكم غير الديموقراطي، فحددوا لب المسألة الاستبدادية بأنه يكمن في طبيعة النظام الاستبدادي ذاته. نتيجة ذلك جرت دراسة الاستبداد بطرق متعددة بغية تحديد جوهره من حيث أنه سياسات وممارسات منظمة للدولة، ولقد اتفقت معظم تلك الدراسات على عناصر أساسية عدة تتكون منها استبدادية الدولة وهي:
1 وجود مجموعة من الأفكار المتطرفة ذات الطبيعة الإيديولوجية (السياسية العقائدية وأحياناً الدينية) التي تخدم كخطوط إرشاد مطلقة. هنا، تعد الأنظمة الاستبدادية والدكتاتوريات العسكرية في القرن العشرين جديدة تماماً، نظراً لأن الإيديولوجيا هي التي لعبت، في الأغلب، الدور الأساسي في قيامها. تتضح هذه الحالة بأجلى أشكالها في الفاشية والنازية، إذ شكلت مجموعة أفكار سياسية «متماسكة» أو ما يمكن أن نسميها بالإيديولوجيا، خطوط إرشاد مطلقة للحزب، الدولة، والناس بغية التقدم نحو أهداف النظام «المجيدة». تلك الأفكارالتي تنتقل عادة عبر منظومة وحيدة الاتجاه للدعاية. بحيث يتعين على المجتمع أن يؤمنوا بها كحقائق مطلقة دون سواها.
بهذه الطريقة استطاعت تلك الأنظمة الادعاء بأنها هي الشعب ذاته دون أن تكون قد تسلمت المسؤولية من ذلك الشعب بالانتخاب ودون أن يكون هذا الشعب قد فوضها بأن تنوب عنه أو تمثله البتة.
تتحول الإيديولوجيا، ما إن تتم صياغتها على شكل «ماين كامبفز» أي كراسات صغيرة صفراء أو خضراء أو حمراء، إلى ثقافة سياسية ذات عقابيل نفسية تظهر على شكل «نزعة تقليدية استبدادية» في حال دعم الأنظمة الاستبدادية اليمينية أو «نزعة استبدادية دوغمائية» في حال التطرف اليساري أو اليميني على السواء.
إنها الاستعداد التام للامتثال الكامل للإيديولوجيا أو خط الحزب، فالإيديولوجيا المهيمنة تكون نتاج كل ما هو تقليدي موروث وراسخ، لذلك لا تتحمل أية أفكار منافسة ولا تتساهل مع أية مواقف مغايرة.
2 وجود تنظيم مكرس لتلك الأفكار: فالأفكار الاستبدادية تحتاج إلى تنظيم لكسب القوة السياسية. مثل هذه الأفكار قد تبقى هاجعة فترة طويلة من الزمن، تتغذى خلالها وتبقى حية من خلال خلايا أو روابط أخوية صغيرة أو جمعيات سرية أو أحزاب هامشية... بعدئذ، وفي ظروف ملائمة، تثب إلى السلطة شريطة أن تكون قد أقامت أو طورت تنظيماً فعالاً. ذلك أن التنظيمات الاستبدادية تطور مع الزمن مبدأ تنظيمياً بارزاً: التراتبية الاستبدادية، أي ما دعي في الفاشستية بمبدأ: الفوهرر، (أي القائد)، حيث تمضي الأوامر من القمة إلى القاعدة لتنفذ بحذافيرها دون تردد أو تذمر:
بهذه الطريقة تتنامى ثقافة الطاعة السياسية العمياء للقائد وبالتالي للحزب والدولة.
فالولاء المطلق والطاعة العمياء هما المتوقعان من الطبقات الدنيا في التنظيم. هذا الموقف التراتبي يغدو كلي الوجود، أي هو موجود بين الحزب والقائد، الحزب والدولة، الحزب والمواطنين، إنها تراتبية شاقولية للسلطة (أي من أعلى إلى أسفل) وهي أساسية للغاية بالنسبة إلى مفهوم الاستبدادية. كما أنها تختلف عن التراتبية الديمقراطية وحتى العسكرية في أنها ترفض أي نقد يأتي من تحت وتعادي أية جهة تتذمر أو تشكو حتى لو كان ذلك في صالح التنظيم. يدعى هذا التوجه التراتبي بالخضوع الاستبدادي.
3 ظهور أعمال متطرفة يدعى إليها أو يتم القيام بها لنشر تلك الأفكار: أي استخدام الرعب والعدوان الاستبدادي للبقاء في السلطة فهناك اتفاق بين معظم علماء السياسة على أن أبرز سمة للأنظمة الاستبدادية هي: حكم الخوف، وذلك من خلال القيام بأعمال قاسية لا إنسانية تصل أحياناً إلى حد الوحشية بهدف واحد هو: إخافة الناس وزرع الرعب في قلوبهم، بدءاً من حملات التطهير إلى الاغتيالات والقتل، إلى السجن والنفي، وانتهاء بمعسكرات التجميع في دول القرن العشرين كليانية السيطرة. فكلها تهدف إلى تخويف الناس وإرهاب كل من يحتمل أن يعارض القائد أو الحزب أو الدولة أو يتخذ موقعاً معادياً لها. إنه السلاح الأساسي للقمع وكم الأفواه وبالتالي لسحق المعارضة بغية البقاء في السلطة.
أما تعريف «العدو» ، بالنسبة إلى هذه الأنظمة، فغالباً ما يكون مبهماً، إلى درجة يمكن معها لأي مواطن أن يكون ذلك «العدو»، وبالتالي أن يخاف من الاعتقال، العقاب، التعذيب، وحتى الموت.
لعل ثقافة الخوف السياسي هي الأكثر تميزاً للأنظمة والدكتاتوريات الاستبدادية. إنها، وعلى نحو لا مناص منه، تتغلغل في المجتمع بكامله والمؤسسات برمتها. هذا الميل لإنزال العقاب القاسي بكل من يفترض أنه منتهك، يدعى العدوان الاستبدادي. لقد درس علماء السياسة ظاهرة الاستبداد هذه بكثير من التفصيل لا مجال لذكره هنا، كما درسوا ظواهر أخرى في السياسة كالتعصب العرقي مثلاً، النزعة الانفصالية، وغيرها من الظواهر السياسية مستفيدين من علم النفس وتطوراته في القرن العشرين، فما دور علم النفس يا ترى؟
المصدر: قصيم نت
نشرت فى 2 يوليو 2011
بواسطة alenshasy
هدى علي الانشاصي
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
10,397,212
ساحة النقاش