authentication required

اللعب.. حلقة أساسية في التعلم والإبداع
"باللعب يطور الطفل وظائف لا تنضج إلا في نهاية مرحلة الطفولة"
تواجه الأسرة قضايا ومشكلات مختلفة ومن القضايا المهمة التي تشغل بال الأهل، قضية التعامل مع الأطفال ومع معطيات البيئة المجتمعية، ومن خصوصيات المسألة التربوية في علاقة الأسرة بأطفالها وبالمجتمع، تبرز لنا قضية ثقافة الأطفال وألعابهم، علماً أنّ الألعاب تشكل جزءاً من هذه الثقافة.
ففي الأسواق يوجد عرض كبير لألعاب الأطفال المتنوعة، كما أنّه يوجد إلحاح إجتماعي/ ثقافي يتعرض له الأهل بهدف دفعهم إلى شراء المزيد من تلك الألعاب لأطفالهم، والمعروف أنّ الدعاية التجارية والإعلان يحددان النوعية الرائجة من الألعاب مثلما يحددان رواج بعض الأنواع والأشكال من الأزياء. وكل ذلك خطر كبير على الأسرة المستهلِكة وعلى أطفالها.
لذلك، ارتأينا أن نعالج موضوع اللعب عند الأطفال بكل ما يعنيه من أهمية وما ينتج عنه من أبعاد على المستوى التربوي الفردي والإجتماعي.
تتميّز الطفولة منذ الأشهر الأولى وحتى ست سنوات تقريباً بنشاط غالب هو اللعب. وهذا أمر لا يمكن تجاهله. فالطفل العادي يلعب بشكل طبيعي وعفوي جدّاً لدرجة أنّه لا يمكن تصوّر طفل لا يلعب إلا في حالة المرض الجسدي أو النفسي. لذلك فقد قيل أنّ "الطفولة هي ذروة النشاط اللعبي" وأنّها "وطن الألعاب" وأنّه "ربّما تنتهي مرحلة الطفولة عند الإدراك بأنّ الحياة ليست لعباً مستمراً" و"يعرف الراشد أنّه يلعب، بينما الطفل، مع أنّه يلعب دائماً، فهو يجهل ذلك".
إنّ اللعب الذي يمكن أن يكون، في الحدود القصوى، مرادفاً للطفولة، أصبح من أساسيات فهم وتفسير النمو الحسي/ الحركي والنفسي والعقلي لدى الطفل. هذا إلى جانب الدور الإجتماعي/ الثقافي الذي يؤديه اللعب في عملية إنخراط الطفل في البيئة المباشرة له وفي تمثله للأدوار والقيم الإجتماعية المعاشة من حوله، والسائدة في المجتمع العام.
إنّ تلازم اللعب مع الطفولة (الطفل يلعب لأنّه طفل: Buytendjik) قد فسح المجال واسعاً أمام الدراسات النفسية/الإجتماعية للنظر في كيفية الإستفادة من اللعب في التربية والتعليم والعلاج النفسي. هذا إلى جانب الكتابات والدراسات النظرية العامة التي حاولت أن تبحث عن دور وظيفة اللعب بالنسبة للطفل.
ورغم الجهود المبذولة في هذا الإطار والتي أدت إلى إعتماد "التربية الحديثة" على اللعب كوسيلة أساسية في دور الحضانة ورياض الأطفال، فإنّه لم يزل هناك من يعتبر أنّ اللعب ما هو إلا هدر للوقت. يعبّر عن هذا الموقف أحد التربويين الأميركيين في قوله: "عندما فرضت الفكرة القائلة بأن طفل الثلاث سنوات يمكن أن يجد متعة في تعلّم القراءة والكتابة بالقدر الذي يجده في اللعب... إكتشفنا أننا أضعنا وقتاً ثميناً للأُمّة".
هذا الوقف، إذا عبّر عن شيء، فهو يعبر عن مدى صعوبة البحث في مجال اللعب عند الطفل بسبب اتجاه البعض إلى إسقاط مفهوم اللعب عند الراشدين (إستراحة أو إستجمام أو لهو.. عمل غير مجدي..) على عالم الطفولة؛ وبالتالي إختلاف مفهوم اللعب ووظيفته بإختلاف الأرضية التي يقف عليها الباحث وبإختلاف المنظار الذي يرى من خلاله اللعب.
ولا يسع الكبار، مهما كان تصوّرهم للعب إلا الإبتسام والتلهي أما تفجر الفرح وتعبيراته بأصوات وحركات الأطفال الذين يلعبون. وبعدها فليفهم الكبار ما يشاؤون وليلعب الصغار ما شاؤوا. "إنّ فهم القنبلة النووية هو لعب أطفال بالمقارنة مع صعوبة فهم لعب الأطفال".
إنّ لعب الأطفال يكاد يتماثل مع الإبداع الفني. ويكمن وجه التماثل في عدم الإكراه وعدم البحث عن المنفعة لدى الطفل الذي يلعب كما لدى الفنان. ويكمن أيضاً في الإبتكار والخيال والعفوية.. وكذلك في القدرة على التعبير عن المستويات النفسية العميقة، لدى الطفل ولدى الفنان على السواء. فاللعب هو قبل كل شيء أداة تعبير خاصة بالطفولة:
"لقد اعترف فرويد مرّة أنّه على عالم النفس أن يرمي السلاح أمام سطوة الفن. إنّ عالم النفس الذي يحاول أن يقارب الطفل الذي يلعب يجد نفسه في علاقة من ذات النمط".
إنّ مراقبة الأطفال وهم يلعبون تشكل مدخلاً أساسياً لفهم الأبعاد الوظيفية للعب في عملية النمو النفسي والعقلي والإجتماعي. هذه المراقبة، على صعوبتها من حيث ضرورة وجود مراقب غير متدخل حتى لا يخلق جواً مصطنعاً ومن حيث ضرورة عدم إسقاط مفاهيم الراشدين حول اللعب على نشاطات الصغار، يجعلنا نؤكد مع "بريان سوتون سميث" على "أنّ اللعب نشاط لابدّ وأن يؤخذ مأخذ الجد".
ولعل أهم الدراسات التي أعادت الإعتبار للعب وأقدمها ما كتبه "كارل كروس" على أساس مراقبته للعب الحيوانات محاولاً أن يماثل بين لعب صغار الحيوانات والأطفال. وقد أعطى بذلك وجهة نظر معقولة واضعاً حداً للأفكار الشائعة في هذا المجال، مثل إعتبار اللعب إستجماماً وراحة بعد التعب! أو اعتباره فائضاً عن طاقة الطفل الحركية؛ فقد كان اللعب، كما يلاحظ بياجيه، موسوماً بأنّه "شبه نشاط بدون دلالة وظيفية وأيضاً مضراً بالأطفال".
إنّ ما ركّز عليه كارل كروس هو إعتبار اللعب عملية تمرين مسبق للوظائف التي يحتاجها الطفل فيما بعد في سن الرشد. "إنّ سبب ألعاب الطفولة هو أن بعض الغرائز، خاصة تلك المهمة بالنسبة للحفاظ على النوع، تظهر في وقت لا يكون فيه الحيوان (من المرتبة العليا بحاجة فعلية لها. وبكونها على نقيض التمرين الجدي اللاحق فإنّ الألعاب هي ما قبل التمرين أو تدريب للغرائز المعنية).
وبالتماثل فإنّ الطفل يمارس ويطور بواسطة اللعب وظائف لا تنضج فعليا إلا في نهاية مرحلة الطفولة. لذلك هو تدريب مسبق، وذلك يقول كروس "إنّ الحيوانات العليا لها طفولة لكي تلعب".
أمّا "بياجيه" فإنّ أعماله حول النمو النفسي التكويني للطفل، قد فسحت مجالاً مهماً لدراسة اللعب وعلاقته بتكوّن الرمز والذكاء:
"إذا كانت عملية تكوّن الذكاء توصل إلى توازين بين التمثل والمواءمة Assimilation coordination، فإنّ اللعب هو أساساً تمثُّل وتمثُّل يتقدم على المواءمة".
ولقد اعتبر بياجيه أنّه توجد إستمرارية وظيفية للعب ولكنه أكّد على عدم الإستمرارية، نسبياً، على مستوى بنية اللعب. وفق هذه البنية فإنّ الألعاب تندرج ضمن فئات ثلاث:
1- الألعاب التمرينية.
2- الألعاب الرمزية.
3- الألعاب المنظّمة على أساس قاعدة جماعية.
وفي مجال آخر، يؤكد بياجيه على مسألة إرتباط اللغة بتكوّن الرمز: "إنّ إكتساب اللغة هو نفسه خاضع لوظيفة رمزية تتوطد عبر المحاكاة واللعب تماماً كما في تطوّر أوليات اللغة".
يمكن أن نستنتج مما سبق أنّ اللعب، على المستوى الوظيفي، هو عملية تعلُّم بالمعنى العام للكلمة. إنّه عملية تستمر قدماً عبر بنى اللعب منذ المرحلة الحسّية/ الحركية حيث اللعب/ التمرين، بترافقه مع اللذة، يساعد الطفل أن يظهر قدراته، المكتسبة في مجال آخر، بهدف التكيّف، مروراً باللعب الرمزي الذي يغني اللغة إنتهاءً باللعب المنظم على أساس قاعدة جماعية حيث يصبح التكيُّف والخضوع للقوانين مسألة تعلُّم إجتماعي. إنّ اللعب المنظم كما لخّص سماتَه Henriot مستعيداً وصف بياجيه، هو "مؤسّسه تستلزم التعاون وتُثير الإلتزام".
وبإختصار، "إنّ اللعب هو إتجاهٌ نحو المستقبل، يستشرف العلاقات الإجتماعية ويؤدي إلى اللغة".
إنّ ما يهمنا من الموضوعات الآنفة الذكر، هو التأكيد على تلازم مسألتين هامتين ولعب الأطفال: التعلم والتعلم الإجتماعي من جهة، والتعبير والإبداع من جهة ثانية.
والسؤال المطروح هو: إلى أيّ مدى يعمد المربّون والأهل على إستغلال هذا التلازم وتنمية مسألة التعلم والإستكشاف ومسألة التعبير والتعبير الإبداعي لدى الطفل إلى حدودها القصوى؟ وطبيعي أن يبقى السؤال بلا جواب راهن، نظراً لما يتطلّبه هذا من بحث أو أبحاث ميدانية من قبل مجموعات عمل تحاول أن تسبر أولاً ما هو سائد في الموقف من لعب الأطفال وما هي طريقة تعامل الأطفال مع الألعاب التي بحوزتهم أو طؤسثة بعيهم، حسب مراحل العمر والدراسة (ما قبل المدرسة) وحسب البيئات والفئات الإجتماعية. وبعدها يمكن تحليل إستراتيجيات العمل التربوية البحتة (في دور الحضانة والروضة والمدرسة) والتربوية الإجتماعية (الأهل، سوق الألعاب، مصادر ثقافة الأطفال: الوسائل السمعية/ البصرية، أدب الأطفال ومشتقاته، المجتمع المحلي بعلاقته المتشابكة وما يشكّه من مصدر أساسي مؤثر في طريقة اللعب وفي التعامل مع الألعاب)..
وفي هذا المجال لا يسعنا سوى أن نسجّل بعض الملاحظات الأولية التي قد تلقي الضوء على المشكلة.
- من الملاحظ أنّه في البيئات المدنية خاصة، تكثر الألعاب (جمع لعبة) (jouets) وتتراكم لدى أطفال الفئات المتوسطة وما فوق من حيث مستوى الثقافة والدخل. وكلما اتجهنا صعداً في الهرم الإجتماعي، كلما إزداد عدد الألعاب واختلفت أنواعها والعكس صحيح كلّما اتجهنا نحو الأدنى. وهذا لا يعني أنّ أطفال الفئات الدنيا يلعبون قليلاً، وإنما فقط أدوات لعبهم "المسوّقة" قليلة. كذلك الحال بالنسبة للأرياف حيث لم تغُز سوق الألعاب بيوت المقيمين هناك؛ علماً أنّ نشاط الأطفال اللعبي يكاد يفوق نشاط أي طفل متخم بألعاب السوق.
إنّ الألعاب الموجودة في السوق "محلات كبيرة وصغيرة، مكتبات (في جزء منها)، عربات متجولة" يرسم الإستهلاك لكل طفل يرى، باتت تشكل عند إقتنائها من قبل الطفل، رمزاً للمكانة الإجتماعية والثقافية أيضاً بالنسبة للأهل وذلك حسب الكثرة والوفرة والتنوع

المصدر: د. هيام المولى

ساحة النقاش

هدى علي الانشاصي

alenshasy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

10,398,171