لدى دخولي إلى جامعة بوردو في بداية دراستي الجامعية تعرضت وبعض الزملاء لاختبار نفسي أذكر من أسئلته سؤالين كان لهما الأثر في حياتي المهنية لاحقاً . الأول : ترى إمرأة تركب سيارة رجل ما ( غير زوجها ) يومياً ، ما هي برأيك العلاقة بينهما ؟ وكان جوابنا جميعا على السؤال بأنها على علاقة به . ومما لا شك به أن محلل الاختبار قد وضعنا يومها في خانة الهوس الجنسي لأنه لم يراع البيئة التي قدمنا منها حديثاً في حينه .
أما السؤال الثاني فكان : يقسم الناس إلى طيبين وأشرار فهل توافق على هذا التصنيف ؟ أيضاً أجبنا جميعاً بنعم ! ومما لا شك به أن المحلل قد وصفنا بأننا من أصحاب الميول المحافظة .
بعد نهاية دراستي . عاودتني ذكرى هذا الاختبار وسرعان ما وجدتني أفكر بأن الناس صنفان ، صنف يعتقد بأن الناس يقسمون إلى طيبين وأشرار ، وصنف لا يعتقد بأنهم يقسمون إلى طيبين وأشرار ، وأنا أصبحت من الصنف الثاني . فقد علمنا الاختصاص بأن الإنسان ذاته يمر بحالات عقلية مختلفة يصل اختلافها أحياناً لدرجة حدوث انقلابات سلوكية متطرفة . فها هي الأحداث تشير إلى ارتفاع نسب الجريمة لدى المرأة أثناء فترات الحيض . وها هي الأبحاث تشير إلى اختلافات المزاج وتقلبه لدى الإنسان بحسب أيام الشهر ( دورة بيولوجية ) كما تشير الأبحاث نفسها إلى إمكانية إجراء تعديلات سلوكية جذرية لدى أي شخص عن طريق تعكير إيقاعاته البيولوجية اليومية ) مثل حرمانه من النوم أو من الضوء أو من السمع ….الخ) . دون أن ننسى التغيرات السلوكية المتطرفة التي تصاحب حالات السكر والإدمان على أنواعه . ويكفيك لذلك أن تراقب مدخناً نفذت سجائره .
في المقابل نرى أبحاثاً أخرى تشير إلى إمكانية استغلال هذه المعارف لتربية أطفال عباقرة وتدريب رجال من نوع السوبرمان .
غير المتخصصين يمكنهم مشاهدة فيلم " البرتقالة المعدنية " الذي يشرح استخدام التقنيات السيكلوجية لعلاج المجرمين أي لتحويل المجرم إلى إنسان مسالم . فإذا ما تمت مشاهدة الفيلم فإن المشاهد يخرج بإنطباع مفاده ضرورة الإبقاء على المجرم مجرماً وعدم علاجه ، فهذا العلاج وإن كان يقوم الإنحراف إلا أنه يعتدي على إنسانية الشخص حتى يكاد يفقده إياها . وبالتالي فإن العقاب ، مهما بلغت قسوته ، يبقى أكثر إنسانية من هذا العلاج .
فهل يستحق المجرم الشفقة ؟ القانون من جهته يقر مبدأ الأسباب التخفيفية . أما الطب النفسي فإنه يقدم عرضاً للأسباب البيولوجية والنفسية المسؤولة عن دفع الشخص لارتكاب الجريمة . ولكننا في كلتا الحالتين نلاحظ الغموض في تحديد هذه العوامل . الأمر الذي يجعل الجمهور يطرح أسئلة متكررة حول هذا الموضوع وهذه الأسئلة التي سنحاول الإجابة عليها فيما يلي :
1- ما هي علاقة الوراثة بالسلوك الإجرامي ؟
- لقد تمت ملاحظة زيادة السلوك العدواني لدى أشخاص يعانون من اضطرابات عضوية معينة كمثل السلوك الإنفجاري لدى مرضى الصرع ونوبات الهياج الفصامي وبعض الإضطرابات الكروموزومية وخصوصاً تعدد كروموزومات الذكورة . كما بينت أبحاث الهندسة الوراثية عدة تشوهات كروموزومية متصاحبة مع مظاهر السلوك العدواني . ولكن تجدر الإشارة إلى أن وجود هذه الإضطرابات لا يعني ضرورة ظهور المظاهر العدوانية فهناك حاملين لها دون مظاهر .
2- هل يلد المجرم مجرماً ؟
- قام الباحث الفرنسي " ترويا " بدراسة شجرة عائلة الأديب ديستيوفسكي فوجد فيها تعاقب مجرمين وقديسين فكان بعض أسلافه قديسين والبعض الآخر مجرمين ( حتى إن عمته قتلت زوجها بالسم .
- ولقد استند عالم النفس ليوبوك سوندي إلى هذه الملاحظة وشبيهاتها ليجزم بهذا التعاقب وليطرح فرضية مفادها أن الأساس البيولوجي هو واحد في كلتا الحالتين . وإنما الفرق في الخيارات القدرية التي يختارها الشخص . فالتطرف المزاجي في عائلة ديستيوفسكي كان يسخر حيناً لخدمة المثاليات فينتج قديساً وحيناً آخر ضدها فينتج مجرماً لكن هذه الفرضية تدفعنا للقول باحتمال أن يكون الشخص عينه قديساً ومجرماً في آن معاً .
3- بين المجرم والقديس ؟
يجيب سوندي على التساؤل المطروح أعلاه بالقول بأن قابيل قتل أخاه هابيل وبأننا جميعاً أولاد قابيل لذلك فإن نزعة العنف والرغبة بإلغاء أعداءنا (أي الرغبة في القتل واعية أم لا واعية ) موجودة لدينا جميعاً لكن قسماً منا يسمو بغرائزه وبهذه النزعة فيكون هابيلياً وقسم آخر منا يستسلم لمشاعره السلبية ( حقد ، ثار غضب ، كراهية ….الخ ) فتتعذى لديه الميول القابيلية .
ويخلص سوندي إلى القول بأن البذور الهابيلية موجودة لدى المجرمين كما أن الميول القابيلية موجودة لدى القديسين .
4- إيذاء الذات الانتحار..
كثيرون يفهمون وجود دوافع تشجع الشخص على ممارسة العنف ضد الغير لكنهم لا يفهمون بحال ممارسته هذا العنف على ذاته . لذلك فإنهم يميلون إلى اعتبار العنف الموجه نحو الذات نوعاً مختلفاً من العنف التقليدي الموجه ضد الغير . لكن هذا الاعتبار خاطئ . فإيذاء الذات يقع في لحظة لا يكون فيها الشخص راضيا عن نفسه . وبعنى آخر فإنه يكون عرضة للإنشطار بين الأنا وبين الذات المعنوية والجسدية . وهذا الإنشطار يحول الذات آخر مرشح لأن يتلقى غرائز الأنا العنيفة .
في العودة إلى الأديان تجد تركيزاً على تحريم إيذاء النفس ( خاصة الانتحار) حيث الروح أمانة الخالق وليست ملكاً لصاحب الجسد لذلك نجد من المفيد أن نعرض التصنيف السيكاتري لحالات إيذاء الذات وهو التالي :
أ) سلوك عدواني محدد تجاه الذات مثل تعذيب الذات رفض الطعام .. الخ .
ب) سلوك انتحاري - تمثيلي بهدف جلب الأنظار وتعويض عدم الاهتمام
ج) الحالات نظيرة الانتحارية عندما يكون الانتحار غير مقصود مثل التسمم اللاارادي وغيره.
د) حالات الانتحار كنوع من أنواع التضحية بالذات لأسباب مثالية .
ه) حالات الانتحار الفعلية .
5-حالات العنف من وجهة الطب النفسي :
يصنف الطب النفسي حالات العنف في الخانات التالية :
أ- حالات عنف صريحة وتقسم إلى :
· عنف جسدي كدمات رضوض . تكسير .. الخ.
· عنف معنوي كلامي شتائم .. الخ
· سلوك هجاني مصاحب للأذى .
· مواقف سلبية مؤذية رفض الطعام أو الكلام
ب- حالات عنف مستترة وتقسم إلى :
· عنف مستتر بمحاولات السخرية والتحقير .
· عنف مستتر بمحاولات الحماية .
· عنف مستتر يصعب استشفافه ويظهر فجأة .
6- العنف لدى المرضى النفسيين :
صحيح أن احتمال ارتكاب أعمال العنف يرتفع عند المرضى النفسيين لكن هذا الإرتفاع لا يصل إلى درجة خوف الجمهور من هؤلاء المرضى . ولدى هؤلاء أيضاً نلاحظ تقسيماً سيكاتريا لحالات العنف وهذا التقسيم بحسب رأينا هو :
أ- حالات عنف صريحة :
· الرغبة في الشجار والعراك الجسدي .
· هوس المحاكم يميل مرضى البارانويا إلى رفع الدعاوى القضائية لأتفه الأسباب.
· محاولات إيذاء الذات .
· محاولات إيذاء الآخرين .
ب- حالات عنف مستترة :
· اتهامات هذيانية موجهة للمحيط والمتعاملين مع المريض .
· رفض الفحص والعلاج عدوانية تجاه المعالج
· محاولات السخرية والتحقير .
ج- حالات عنف متوقعة في الأمراض التالية :
· السلوك الصرعي الإنفجاري إيذاء الذات والغير .
· النوبات الفصامية الحادة إيذاء الذات والغير
· النوبات الإكتئابية إيذاء الذات غالباً .
· اضطرابات الشخصية الحادة عنف معنوي غالباً
بهذا نأمل أن تكون قد اختصرنا موقف الاختصاص من موضوع العنف والجريمة لكننا لم نتطرق إلى الأبعاد الأخلاقية للموضوع . فقد تعرض اتباع الديانات السماوية لممارسات عنيفة متنوعة منذ ظهور هذه الديانات وكان من الطبيعي أن يقاوم هؤلاء الأتباع العنف الموجه ضدهم بأساليب صريحة أو مستترة حتى بات مبرراً طرح السؤال عن تصنيف إنساني للعنف .. بمعنى آخر هل ترفض الإنسانية العنف رفضاً كلياً ؟ أم أنها تبرره في حالات معينة ؟ وما هي هذه الحالات ؟
ساحة النقاش