أسس وقواعد الرواية والدراما من القرآن .. فتحى حسان محمد

وضع القرآن الكريم بصفة العموم الأطر للضحك في سياقه الإنساني الصحيح بإرجاعه إلى واهبه ومانحه سبحانه وتعالى بوصفه نعمة ينعم بها على من يشاء لمن يضحكه من الطائعين النبلاء فى أخلاقهم وحاجاتهم ، والعظماء فى أعمالهم وأهدافهم ، والفقراء فى حالهم ومآلهم . ولمن يضحك عليهم من المعاندين من السادة الوضعاء ، والجبابرة الجهلاء ، والطغاة الأغبياء ، والعظماء الفسدة ، والوجهاء المعاندين ، بالسخرية منهم والحط من قدرهم والخسف بكرامتهم  كما سنبين ، وكذلك خلق أناسا لديهم المقدرة على توليد الضحك لينعم بها على آخرين يحتاجون إلى الضحك ويستحقونه ، والضحك هو فطرة فطر الله الناس عليها ، وخصها الإنسان دون سواه من مخلوقاته ؛ لأن الضحك هو المطهر من الحزن والعلاج الناجع للروح والدواء الشافي للأفئدة ، وجاء فى قصص القرآن أكثر خصوصية وتوضيحا عندما ندرك الهدف من القص لرسول الله صلى الله عليه وسلم , كما سبق أن ذكرنا ووضحنا بالآيات الكريمة فى بداية الكتاب وفى غيره من المواضع  ، والضحك نعمة كبرى تستوجب الشكر، ولا يكون الشكر الصحيح إلا باستخدام النعم كما أراد الله وفق منهجه وتشريعه دون إفراط يخل بالوسطية التي يدعو إليها الإسلام ، أو تفريط ينفر من الضحك ويحيله إلى غير مقصده , وكأنه نقمة ومنقصة لا تليق بمن كرمه الله وفضله على جميع ما خلق ، وفيه يفقد الإنسان كرامته عندما يغشى عليه من كثير الضحك الذى يفقد الروح السيطرة على الحواس والإدراك ، وهذا ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع تقنينا للضحك بعدم المبالغة والتواصل فيه ، من أجل أن يحافظ على كرامة الإنسان ، ويحفظ له مكانته فى كل وقت وحين , حتى أثناء اللهو واللعب والتفكه والمزاح والهزل المعقول  ، يجب أن يبتغى فى الضحك الوسطية حتى يكون للنفس المقدرة على التحكم فى تصرفات الجسد  وأفعاله حتى لا تخرجه من وقاره وهيبته وتحط من قدره0 والضحك بعمومه ومقاصده الكلية ما هو إلا عنوان السرور والسعادة والغبطة والحبور التى تنشدها النفس الإنسانية السوية , لأنها علاجها وأدوات توهجها واحتمالها على ما تواجهه من صعوبات وصراعات وإخفاقات وأحزان وأزمات ، ولكل حظه منها لا مفر  ولا مهرب ؛ فمنها ما هو فرض من الله واقع لا محالة يسبب الحزن لا ريب مثل الابتلاء الذى سبق أن وضحناه  .

المعنى الأول للملهاة هو الضحك     {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى }النجم43  ] والمعنى أنه سبحانه وتعالى أضحك من شاء فى الدنيا بأن سره وأفرحه عند طاعته ونجاحه فى الابتلاء ، وأبكى من شاء بأن غمه وأحزنه عند معصيته وعناده وسقوطه فى الامتحان0 إذن الفرح وعنوانه الضحك عكس الغم وعنوانه الحزن ، وما يجلى الحزن ويذهبه ويمحقه هو الضحك ، وبعبارة أخرى فإن الضحك هو الذى يطهر من الحزن واليأس ، وإن السرور هو الذى يعالج من الغم والنكد 0 السعادة والحزن يخصان الروح أو النفس المتحكمة فى المادة الحاملة لها وهو الجسد ، فعند السعادة تؤثر الروح فى قسمات الجسد حيث عنوانه الظاهر المعبر الكاشف لتأثير الروح عليه حال فرحها وحزنها ، أوله الناصية  وهى الجبين أعلى الرأس من عند بداية منبت الشعر إلى أعلى العينين ويشمل الجبين كله ، حيث هو المرآة العاكسة البارزة التى توضح التأثير للروح وتحدد خلجاتها وأفعالها غير المحسوسة فتجعلها محسوسة ومرئية ، حال السعادة تتوهج وتسطع وتتلألأ وتنبسط وتتسع ، وفى الحزن تظلم وتقطب وتسود وتطوى وتنكمش 0  ومن العينين والشفتين والوجنتين تجعله مستبشرا مشرقا نديا متفتحا متوهجا مشبعا بحمرة من جراء جريان وتدفق الدم فى شرايينه وأوردته من جراء عمل القلب على كماله وصحته وعافيته  , وهو ما يسبب الحمرة  ويجعله صبوحا بشوشا طيبا عاكسا ذلك على الناظرين والرائين ، مما يوحى لهم ويكسبهم انطباعا بالسعادة التى سرعان ما يكتسبونها ، وتكون الروح والمستجيبون لها تعطى الروح للجسد الآخر بشارة وإشارة للتبسم والسعادة والإقبال والتقارب والتجاذب الحلو المليح ، مما يعطى جمالا للقاء وطراوة للحديث وفسحة للين وحسنا فى التعامل ، وكأن السعادة عطر فواح تشمل وتغطى وتكفى صاحبها ، وتتعداه لتؤثر فى الآخرين ، وهو مكمن نبلها وعظمها ، مما يكسبها ميزة وتفردا وحبا واحتراما واعتزازا ؛ لأن الروح تنشدها وتبذل فى سبيلها الكثير وإن كان بغير الدرجة القصوى من الجدية ولكنه لا ينفى نبل الهدف والمقصد 0 تحمل الجسد السعى والبذل والعمل على تحصيلها حيث توجد مولداتها وبواعثها وبنوكها وخلاياها الملهمة المحققة لها ، حتى تتحصل عليها ؛ لأنها العلاج لها من جراثيم التلوث وبكتيريا الحزن ودمامل اليأس وتقيحات الإحباط وبذور القنوط  ؛ فالروح حين تعافيها وصلاحها وشفائها يتعافى ويصلح الوعاء الحامل لها وهو الجسد ، وهى التى تسعى إلى الكمال الذاتى تنشده وتبتغيه وهو مكمن عظم الحاجة ونبل  الهدف ، وحين مرضها وإجهادها تتسبب فى مرضه وإجهاده ، وما يؤكد ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب" [ رواه البخاري ومسلم ] , والقلب كما أثبتنا أن خلاصته عقله ، بمعنى أن فى القلب عقلا ، وأن فى المخ عقلا أيضا , كما أكدنا وأثبتنا فى الكتاب الأول ، وقلنا إن عقل القلب هو البوصلة المحددة والمنظمة لعقل المخ ، وأنه مفروض له السيطرة لأن له الحكم على ما ينتجه عقل المخ ، والقلب والمخ يقودان الروح والجسد أيضا ، والجسد له علاج من أدوية يشخصها أطباء متخصصون ، والروح لها علاج آخر فعال ، أوله القص أو الحكى أو المحاكاة سواء كان روائيا أو دراميا أو صحافيا ، ودراميا أكثر فاعلية وأشد تأثيرا نظرا لأدواته الكبيرة وزيناته الجميلة التى تغذى العين والأذن وتنفذ إلى القلب وتمتع الروح ، وهى مواد الإدراك والوعي للقلب والروح ، كما نعرف أن الهدف من القصص التى قصها الله لتثبت القلب   [ {وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }هود120] على الإيمان وعلى الحق والطهر والعفاف والرضي والقناعة والطاعة ، وتطهره من الخبث والغل والحسد والأنانية والمعصية والقنوط واليأس ، والموعظة هى العلاج لكل ذلك عند كل عرض أو إسماع واسترجاع لتكون لها فاعلية ؛ لأنها تفقد مفعولها المعالج بعد حين فى النفوس ، لذا يلزم تجديد القص وإعادة طرح الموعظة . بينما الذكرى هى تجديد وإعمال البوصلة الموجهة للعقل المتحكم فى الروح ويلزم طرحها وإعادة عرضها بصور شتى لأنها تفقد مفعولها بعد حين أيضا ؛ نتيجة للسهو والنسيان المخلوق بهما الإنسان وهو من جملة نعم الله علينا  مما يحتم علينا التذكر لما ينسى ، ومن وسائل التذكر الرائعة الجميلة المؤثرة فى النفس التى فطرها الله حب الحكى ، وجبلت على ذلك القص بأنواعه .


الوجه الثانى للملهاة هو الإلهاء عن الحزن بالفرح

 وهو أعظمها بما له من عمل جدى ، الحزن هو مرض الروح ووباؤها ومبعث تلوثها وأدرانها واضطرابها وخللها وخروجها عن طورها الطبيعي إلى غيره , مما لا يمكنها القيام بواجباتها ومسئولياتها خير قيام ، وأقله إصابتها بالإحباط واليأس وكره الحياة وما فيها ، وإن لم يكن لها علاج ستصل بنفسها وبالجسد الحامل لها نحو الهلاك التام ، أو ينعكس مرضها سلبا على الجسد ويؤثر فيه بدرجة كبيرة تصيبه هو الآخر بالمرض والضعف عن القيام بواجباته الحتمية المطلوبة منه ، مما يتطلب التطهر من هذه الأوبئة وتلك الشوائب والاضطرابات ، والعلاج هو إصلاح للخلل حتى إعادته إلى طبيعته ، ويكون العلاج هو الفرح والسعادة 0 وما يؤكد ذلك من فعل حقيقى حدث لرسول الله محمد- صلى الله عليه وسلم - عندما ذهب إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الإسلام فسخروا منه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم وصبيانهم ليضربوه ويهينوه حتى أدموا قدميه الشريفتين ، فعاد منكسرا حزينا وقال دعاءه الشهير : ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس برحمتك يارب العالمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي  فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي من ذنوبي أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن يحل بي سخطك أو ينزل علي عذابك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله ) فأراد الله أن يخفف عنه ويسره وييسر عليه ويفرحه ويغبطه ويطمئنه ، لم يرسل له جبريل يقص عليه من القرآن مشهدا من مشاهد إخوته من الأنبياء السابقين لتثبت قلبه وتطمئنه وتسرى عنه ، بل إن الله أسرى به إليه  {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الإسراء1 ] فكانت نعم التسرية وعظيم الفرح وبهاء السعادة التى لا تدانيها أخرى ، ولا يستطيع الحصول عليها إلا رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -

ولكن فعلنا نحن وأنت أيها المؤلف لا نملك تلك الأدوات ، ولكنك مستخلف من الله فى حدود قصتك بما منحك من موهبة خصك بها دون سواك ، فاستعن بالله حينما تريد إخراج بطلك من حزن شديد دبر له فعل مستحيل وقوعه إن تحقق يسعده ، وانسب الفعل إلى الله ، وأعد مشاهديك وهيئ لهم أن ما سيحدث من فعل مستحيل سيتحقق من إرادة الله ومشيئته ، حينها لن يعترض أحد وسيكون مقنعا أيما إقناع ، ولا يحق لناقد أن يعترض على ذلك ؛ لأن الله تعالى هو الذى يطلب ذلك ويحققه حال اللجوء إليه فى الحقيقة ، كما علمنا وأخبرنا بذاته العلية فى قصة سيدنا موسى عندما كان موسى وبنو إسرائيل محصورين ما بين البحر من ناحية وفرعون وجنوده من ناحية أخرى وقالوا : إنا هالكون لا محالة ومن ثم الحزن والرعب والخوف يسيطر عليهم ، ولكن الله يقول لموسى اضرب بعصاك البحر فينفلق البحر عن طريق يابس ويمرون منه آمنين ، وتحدث المفارقة المضحكة إنه نفس الطريق ولكن يغرق فيه فرعون وجنوده ، مفرح سار لقوم ، محزن مولد للضحك من آخرين بسبب السخرية منهم والتحقير من جراء الغباء المستحكم.


المعنى الثالث للملهاة  اللهو: 


   {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ }الجمعة11  ] والمعنى إذا رأى بعض المسلمين تجارة أو شيئًا مِن لهو الدنيا وزينتها ذهبوا إليها وتركوك أيها النبي واقفا على المنبر تخطب 0 قل لهم يا محمد  ما عند الله من الثواب والنعيم أنفع لكم من الطبل والزمر والرقص المصاحب لأعمال التجارة ، أو أثناء التجارة كما نلحظ ذلك فى أسواق الجملة حال المزادات فى زمننا هذا ، والله وحده خير مَن يرزق ويعطى ،  فاطلبوا منه - تعالى - واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة0 وهنا لم يحرم الله التجارة ولا اللهو ولكنهما بمنزلة أقل عند وجوب مواعيد الفرائض ، وتظل الطاعة لله ورسوله التى تتوجب أداء العبادات المفروضة فى مواقيتها مثل الصلاة وخطبة الجمعة هى الأجل والأعلى ، وتأخير التجارة والتوقف عن اللهو أوقات تلك العبادات المحددة بوقت معلوم هذا أفضل وأنفع 0 واللهو معناه الأول اللعب والمرح والترويح والترفيه عن النفس مما يحملها على السعادة والفرح ، 

 {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }يوسف12 ] ويرتع كما ذكر الطبرى " يتلهى أو ينشط أو يلهو أو يسعى" ويلعب  والرتع هو المعنى الثانى للهو أو السعي أو النشاط وعنوانهم اللعب غير المقنن المفرد  أى يخص شخصا بلا شروط ولا أسس ولا قوانين ولا ضوابط ، ففيه من السعة الكثير ومن الحرية الأكثر حسب ما تقتضيه متطلبات الروح وقت الرتع الذى يسمح به وقت الراتع حسب المزاج الشخصى له ، دون فرائض ولا قوانين  ولا سلوك معين ينظمه ويهذبه إلا بما تلزم به الروح نفسها ويستطيع الجسد تنفيذه من جهد متطلب ، وينصرف معنى اللعب غير المقنن إلى العمل غير الجدى , كما ينبغى أن يكون ، بما عليه حال المستوى العام لما عليه الكثير من الناس النبيل منهم والوضيع ، الغنى منهم والفقير، بقصد التفريج عن النفس وإمتاعها ، وهو يخص صغار السن أكثر من كباره ، ولا تزال كلمة الرتع – ارتع - تستعمل فى الواحات بصورة كبيرة إلى وقتنا هذا وينصرف مقصدها كما سبق توضيحه 0 أما ( يلعب )   اللعب هنا هو اللعب المقنن سواء لمفرد أو لجمع من الشخوص يستلزم الضبط والربط وشيئا من الجدية ، وهو يوثق لعمل يتدرب فيه الجسد بقصد صحته وتنشيطه وتمرينه ، وتهذيب الروح على الليونة وتدريبها على الطاعة ؛ لأن اللعب الجمعي صار مقننا ومتعددا له صور شتى ، ووضعوا له من القواعد والشروط والأسس ما يضمن تحقيق الغاية القصوى منه وهو إمتاع الجماهير العريضة ، وهو ملحوظ ومعروف بشكل كبير فى زمننا هذا ولا اختلاف على عظم ونبل هدفه ، وهو لعب فيه الاحتراف الذى يحتم الجدية فى أدائه والقيام به ، وفيه ما هو غير ذلك يكون أدنى وأقل منزلة ولكن المقصد منه مثل سابقه   واللعب على إطلاقه وعمومه يحتمل الخسارة والمكسب بين اللاعبين ، كما يحتمل الحلال والحرام ، وهو ما يعود على الروح إما بالسعادة والفرح حال المكسب ، والحزن والغضب حال الخسارة  ، كحال العمل بالتجارة التى تحتم بائعا ومشتريا ، والذى يحتمل أيضا الخسارة والمكسب والحلال والحرام وهو بصورة أوضح لا خلاف عليها ولا لبس فيها ، ويا سبحان الله العلى القدير حيث ربط اللهو بالتجارة أو قرنهما ببعضهما البعض ، وكأنهما وجهان لعملة واحدة الأصل فيهما الخسارة والمكسب وكلاهما حلال ، ولكن تبقى للتجارة المنزلة الأعلى والأجل من اللعب بتقديمها عليه ، والتجارة عمل جدي لا هزل فيه ولكنه يحتاج إلى الليونة والمناورة والمداعبة والتيسير والتفكه وطول البال والتعود على الصبر الذى يمد الروح بالنفس الطويل ، وينصرف نفس التحليل على الرتع واللعب لأنه مقرون به ، بمعنى أن الرتع واللعب هو عمل جدي أيضا ولكن ليس بالجدية التامة الكاملة ؛ لأن منا ما ينتقصه ولا يعهده ولا يحبه ، لذا لم يمنح الشرعية الكاملة التامة على جديته من الجميع من الناس ، بدعوى أنه ترفيهي كمالي لا أساسى عند البعض منا ، من الممكن أن يفعله شخص دون الآخر ، وليس على تركه حساب أو على إتيانه عقاب غير بعض الانتقاص من قدر شخص الفاعل ، بدعوى عدم الجدوى الكبيرة المثمرة النافعة له وللآخرين ، وتظل المنفعة والجدوى لشخص الفاعل وتتعداه إلى غيره فى القليل الناشئ من المشاهدة والفرجة كحالنا فى زمننا هذا  ، كما يحتمل من هزل حتمى تجنبا للحدة التى تفقد اللعب ميزته وخاصيته وبواعثه ، ولكن الهزل للرتع أقرب له من اللعب 0 يقول الشيخ يوسف القرضاوى :  ) كما نجد في نصوص السنة:  إن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم في مسجده ، وأذن لعائشة أن تنظر إليهم وهي متعلقة به ، كما سمح للجاريتين أن تغنيا وتضربا بالدف في بيت عائشة ، وكان موجودا ، وذلك في يوم عيد  معللا ذلك بقوله : " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة , إني أرسلت بحنيفية سمحة ) [ مسند أحمد ، رقم 23710 ] والفسحة تعنى وقتا من اليوم أو خلافه تنصرف إلى ما يحتاجه الجسد من تمرين وتغيير لخلاياه المريضة أو المعطوبة ، وللنفس من تفريح وتيسير من بعد تعب وإجهاد ، مما يؤكد أن الرتع والمرح واللعب علاج للنفس وتقوية للجسد0

الوجه الرابع للملهاة شخص  إلاهى

   قلنا فيما سبق إن الابتلاء سنة مؤكدة على جميع البشر ، وحال الابتلاء للإنسان صاحب النفس اللوامة البسيط ذى المكانة المتدنية من جاه وسلطان ،  والمنزلة المتواضعة من مال ورفعة، تجد اختباره من الله بسيطا وميسرا على قدر حالهم البسيط ليكون لهم المقدرة على احتماله والنجاح فيه ، ولم لا والله هو الرحيم بعباده يختبرهم كيف يريد وبما يريد وقتما يريد ، وما يؤكد ذلك ما جاء فى الحديث الشريف : عن ‏سعد بن أبي وقاص ‏ ‏قال ) :قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض وليس عليه خطيئة ) [ ابن ماجة  ، باب الفتن ، الصبر على البلاء ] والإنسان البسيط تجده فى تصرفاته وأفعاله غير متكلف ولا مزايد وأكثر إيمانا بقضاء الله وقدره وأكثر تحملا لنتائج بلوى تصيبه ، من جراء تعوده على ذلك ، ومن جراء حاله الصعب وجهاده العظيم من أجل تحقيق أدنى متطلبات الحياة ، فتجده حين البلية يصبر ويحتسب وسرعان ما يلجأ إلى الله الذى يلجأ إليه فى كل وقت وحين بعفوية وتقوى وتعود ، مما تساعده هذه الأدوات البسيطة ولكنها قمة ما نستعد به على النجاح فى الابتلاء الذى يرضى به البسيط وحمد الله عليه ، شاكرا لله عما لحق به وما هو فيه سائلا الله أن يمده بالصبر والتيسير فى آثار البلوى التى لا يتوقف عندها كثيرا ، إذ سرعان ما يهب يبحث عن أسباب سعادة أخرى أو أدوات نجاح ، فتجد الأمل بداخله كبيرا متجددا متواصلا ، ولا يقنط من رحمة الله التى يتمسك بها ، آملا أن تمده بأفضل وأحسن من أسباب وأدوات من التى سلبت منه بقوة الابتلاء  ؛ لأن متطلبات حياته لا تحتمل الانتظار فليس لديه رصيد من أى نوع ، يعينه على التلكؤ والاستسلام للحزن غير الصبر وقود الدفع لمعاودة المجابهة مع معترك استعادة ما سلب منه محافظا على طاعة الله الذى لا يبخل عليه لأنه عند حسن ظنه 0 وفى الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم  وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة ) ، وفى حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي ، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي ملإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ قَالا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا 0  [ رواه البخاري وفى صحيح مسلم ، رقم 4832 ] هذه العفوية من حسن الظن بالله عند البسيط هى أسباب نجاحه الأول فى الابتلاء ، ويمن الله عليه بأسباب سعادة جديدة أو أدوات نجاح أخرى ، أو ربما تكون هى بأكثر مما يتوقع وأسرع مما يتخيل ، تسبب السعادة والحبور والغبطة والفرح ، وتولد الضحك له و للآخرين العارفين به من جراء ما حدث له من مفارقة متقاربة كانت لتوها محزنة له وسرعان ما تحولت إلى مفرحة بطرق تستعصى على التصديق بمتطلبات التفكير العقلي الصرف ، ومدعاة ذلك ووجه الإقناع فيه حسن الظن بالله الذى أبداه ومعتاد عليه ، وأن التيسير والتفريج يحدث من الله القادر على كل شيء وعند حسن ظن عبده به0  وأكثر من ذلك يزيد الله به من هبة ورحمة يصيب بها الله من يشاء من عنده تكون مفاجأة غير متوقعة , مما تحدث فرحا كبيرا وسعادة بلا حدود تولد الضحك الكبير من جراء وقع المفاجأة السارة ، والدليل على ذلك من قصة سيدنا إبراهيم   حيث كانت زوجته السيدة سارة عقيما وكبيرة فى السن ، وتأتي زوجها الملائكة لتبشرها بالولد فضحكت من شدة المفارقة وجمال المفاجأة ، حتى إنها نفسها لم تصدق وتساءلت عن كيفية حدوث ذلك فأجابتها الملائكة


مما سبق نستلهم تعريفا مبدئيا للملهاة

   إن الملهاة عمل ليس بالجدي التام الكامل ولا بالهزل الوضيع المنتقص ، ولكنها بمنزلة منهما ، بمعنى تقريبى أنها عمل عادى ممكن غير مستحيل وهو المعنى الأقرب والأوضح والأجل لما أريد شرحه وتعريفه التعريف الجامع المانع السديد ، والعادي بما تعارف عليه الجميع واستقر فى العرف ، هو ما يقدر على فعله الكل وهو الممكن غير المستحيل ، ويشمل الجد والصعوبة والهزل واليسر , وهو ما عليه الغالبية العظمى من الناس ، السادة والأجراء ، الأغنياء والفقراء ، المتعلمون والجهلة ، العظماء  والوضعاء ، النبلاء والأراذل ، ولكني لا أريد أن أعبر بالهزل بالكلية ؛ لأن الهزل هو أبعد ما يكون عن روح الملهاة العظيمة النبيلة التى نبتغيها ، لأن الهزل ليس فيه من الجدية شيء ولا فيه احترام ولا توقير ولا تقدير ، بما استقر فى العرف أيضا ، والمناظرون للملهاة يعبرون به وهو وصف خاطئ جدا بدليل أنهم ينفقون وقتا ويحاولون جاهدين أن يحسنوا وصف الملهاة بأنها عمل هزلى 0 وتظل هنالك نسبة من الناس قليلة لا تعرف العبوس ولا الهزل ، فعلهم غير عادى وهم لا يعتد بهم عند الجميع ولا ينتقص من قدرهم أحد ، مع أن الناس تعتبرهم متكبرين ومتعالين 0     

    وما سبق يجعل الملهاة فى منزلة عالية ولكنها ليست سامقة لتخلق الفرح والسعادة والغبطة والسرور، وتطهر من الحزن والغم والنكد والسقم والكآبة واليأس المقيت ، وبذلك يكون لها هدف عظيم 0 وفعلها العادي لا يعيبها بما تعارف واتفق عليه الغالبية العظمى من الناس الذين يأتونها ويفعلونها ، وما دامت كذلك فإن الفاعل المحقق لها  لا يبذل تمام البذل ويجاهد تمام المجاهدة لأنه يفعل ما هو عادى ليس به مسحة من المستحيل الذى يتحقق بما هو فوق العادي ليكون ممكنا ، وهو مبعث الإجلال وعظيم الاحترام والتوقير والتميز كبطل المأسملهاة وبطل المأساة العظيمة والإلهية 0 ولكن  لا ينكر عن الفاعل ذى الفعل العادي الممكن غير المستحيل بذله المحترم من أجل الحصول على حاجته وتحقيق هدفه اللذين يخصانه بمفرده لا يتعديانه إلى سواه ،   وإن توقف أو تراجع أو امتنع ليس عليه غبار ولا لوم ولا عتاب ولا اتهام بالفشل ، بدعوى أن حياته ستسير على طبيعتها التى يحققها عمله الآخر الجدى الحتمى الذى يتطلب جهدا كبيرا وعناء عظيما وعملا مخلصا دءوبا  ليسير حياته ويحصل على متطلباته الضرورية وأهدافه النبيلة السامية التى ينشدها ، كما ينشدها الجميع من الناس الأسوياء النبلاء الفضلاء ، مما تضفى على عمله الجدى الجلال والاحترام والإكبار ، ولجهده الكبير التوقير والاحترام ، والمحاسبة والاقتداء وكمثل أعلى يتعلم منه ،   مما يكون له عظيم الأثر بتوسيعه نطاق الإفادة تتعداه إلى غيره ، فإذا ما ذهب يلهو يجدد نشاطه , ويستعيد حيويته ويخرج من معاناته بفسحة من الوقت يلهو فيها ويلعب تكون لها نفس الإكبار والاحترام والإجلال , بدعوى أنها تؤدى منفعة كبرى بما لها من أثر عظيم تدعم وتساعد الجدى على جديته 0 مما يعنى أن فعل الشخص السوي الذى له حاجة عظيمة وهدف نبيل أن يسلك الفعلين الجدى والأقل منه جدية للتوازن وتتحقق متطلبات نفسه مع متطلبات جسده ويشفى ويقوى الاثنين على السواء ، مما يعنى أن الرتع واللعب أيا كان الأداء العملى لهما لا ينفيان أبدا عظم ونبل الهدف ولو ظل مقصورا على فعل الفاعل نفسه دون سواه لأن فى ذلك سلواه وعلاجا وتهذيبا لنفسه وتطهيرا وإصلاحا لبدنه ، وإسعادا وتسرية لروحه ، فما بالنا إن تعداه إلى الغير لاكتمل بذلك عظم القصد والحاجة ، ونبل التحقق والهدف  0 بهذا التعريف المبدئى الذى يخص الملهاة  ,ولكننا نبتغى أن نصوغ تعريفا للقصة الملهاة حتى تفي بغرضها من الإشباع الفطري والغريزي للإنسان الذى فطره الله على حب المحاكاة أو الحكى ، وهدفها المطلوب من إمتاع وتعلم وعظة ونصيحة كما علمنا الله ، ومن لديه المقدرة على الإبداع لابد أن يتعلم كما علمنا الله ونحاكى بخلقنا المصنوع خلق الله الحقيقى  ، وهى لا تتحقق من فعل غير تام ولا غير كامل ، بمعنى أن الملهاة حتى تحقق الغرض منها لابد أن يكون لفعلها طول معقول ليس بالقصير الذى يختزل فيبدو وكأنه نكتة ، والنكتة أو الطرفة تخرج تماما من طور أى نوع من القص الذى نحدد له علما تاما وهو مقصدنا ومرادنا ، ولذلك سنذهب سويا إلى القصة التى وصفها الله أنها من أحسن القصص وأقصد قصة يوسف فى سورة يوسف والتى استخرجت منها ما يزيد عن العشرين نوعا للقصة ولنتفحص معا هذه المشاهد منها ونتناول شخصية من يلي يوسف فى المكانة ، وهو ملك مصر الريان بن الوليد أعلى سلطة دنيوية وحكايتة مع حلم أزعجه ، إنه لشيء مضحك فعلا ، ومنه نتوصل إلى تعريف القصة الكوميدية.

تحياتى فتحى حسان محمد

من كتابى ( أسس وقواعد الدراما من القرآن الكريم )

مكتبة الازهرى ، الانجلو ، مدبولى ، الآداب ، حراء

المصدر: كتاب ( أسس وقواعد الدراما من القرآن الكريم ) تأليف فتحى حسان محمد
aldramainquran

أسس القصة بصفة العموم الروائية والدرامية: البداية - الابتلاء - الزلة - العقدة - الانفراجة - التعرف - النهاية القواعد : الصراع - الحبكة - التغير - الانقلاب - اللغة المكونات : الاحداث - المكان - الزمان - المؤثرات - الفكر - الفكرة

  • Currently 69/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
23 تصويتات / 708 مشاهدة
نشرت فى 31 مارس 2010 بواسطة aldramainquran

ساحة النقاش

فتحى حسان محمد

aldramainquran
أديب روائى ودرامى وكاتب سيناريو، مؤلف كتابيى أسس وقواعد الأدب والرواية من القرآن الكريم ، وأسس وقواعد الدراما من القرآن الكريم ، ومجموعة من سيناريوهات الافلام والمسلسلات التى فى عقالها. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

128,952