إن من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل لهم من الأعمال الصالحة ما يكفر سيئاتهم ويمحو خطاياهم ويدرس ذنوبهم لأن الحكمة الإلهيّة اقتضت أن يكون العباد خطائين، صح في الحديث عن أحمد والترمذي من حديث أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون” وثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم”، لأن هذه المكفراتِ أعمال صالحة، والأعمال الصالحة حسنات والحسنات كما ذكر الله تعالى يذهبن السيئات، إلا أن شريعتنا شريعة الرحمة نصت على أعمال معينة ومحددة أول هذه الأعمالِ وأفضلُها التوبة إلى الله تعالى· لقد جعل الله في التوبة ملاذاً مكيناً وملجأ حصيناً، يلجه المذنب معترفاً بذنبه مؤملاً في ربه نادماً على فعله غير مصر على خطيئته يحتمي بحمى الاستغفار يُتبع السيئة الحسنة فيكفر الله عنه سيئاته ويرفع من درجاته· والتوبة الصادقة تمحو الخطيئات مهما عظمت حتى الكفر والشرك {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ }· وقتلة الأنبياء ممن قالوا: إن الله ثالث ثلاثة وقالوا: إن الله هو المسيح بن مريم – تعالى الله عمَّا يقولون علواً كبيراً لقد ناداهم المولى بقوله: {أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }· فتح ربنا أبوابه لكل التائبين يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل وخاطب عباده في الحديث القدسي: “يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم” وفي التنزيل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً } ومن ظن أن ذنباً لا يتسع لعفو الله فقد ظن بربه ظن السوء· كم من عبد كان من إخوان الشياطين فمنّ الله عليه بتوبة محت عنه ما سلف فصار صوّاماً قوّاماً قانتاً لله ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه· من تدنس بشيء من قذر المعاصي فليبادر بغسله بماء التوبة والاستغفار، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين· جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أذنب عبد ذنباً فقال رب إني عملت ذنباً فاغفر لي فقال الله: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي، ثم إذا أذنب ذنباً آخر فذكر مثل الأول مرتين أخريين حتى قال في الرابعة: فليعمل ما شاء، يعني ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنباً استغفر منه غير مصرٍ· وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم على علو شأنه ومنزلته وعظم قدره وعلى الرغم من أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يقول كما صح عند مسلم: “يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مئة مرة” ويقول كما في البخاري: “إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة” بل إن الله جلَّ وعلا يحب هذه التوبة ويفرح بها، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله [: “لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلِّها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمةً عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح”، رواه مسلم· وإنما يفرح سبحانه بتوبة عبده لمحبته للتوبة والعفو ورجوع عبده إليه بعد هربه منه، وعن أنس وابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لو أن لابن آدم وادياً من ذهبٍ أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب”، متفق عليه· فالتوبة إذن هي الرجوع من معصية الله إلى طاعته لأنه سبحانه هو المعبود حقاً، وحقيقة العبودية هي التذلل والخضوع للمعبود محبة وتعظيماً، فإذا حصل من العبد شرود عن طاعة ربه فتوبته أن يرجع إليه ويقف ببابه موقف الفقير الذليل الخائف المنكسر بين يديه· والتوبة واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها ولا التسويف بها، لأن الله أمر بها ورسوله، وأوامر الله ورسوله كلها على الفور والمبادرة، لأن العبد لا يدري ماذا يحصل له بالتأخير، فلعله أن يفاجئه الموت فلا يستطيع التوبة، ولأن الإصرار على المعصية يوجب قسوة القلب وبعده عن الله عزَّ وجلَّ وضعف إيمانه، فإن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان ولأن الإصرار على المعصية يوجب ألفها والتشبث بها، فإن النفس إذا اعتادت على شيء صعب عليها فراقه وحيئنذٍ يعسر عليه التخلص من معصيته ويفتح عليه الشيطان باب معاصٍ أخرى أكبر وأعظم مما كان عليه· ولذلك قال أهل العلم وأرباب السلوك: إن المعاصي بريد الكفر ينتقل الإنسان فيها مرحلةً مرحلةً حتى يزيغ عن دينه كله، نسأل الله العافية والسلامة· والتوبة واجبة على الدوام فإن الإنسان لا يخلو من معصية، ولو خلا عن معصية الجوارح لم يخل عن الهم بالذنب بقلبه، وإن خلا عن ذلك لم يخل عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله تعالى، ولو خلا عنه لم يخل عن غفلة وقصور في العلم بالله تعالى وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص، ولا يسلم أحد من هذا النقص، وإنما الخلق يتفاوتون في المقادير، وأما أصل ذلك، فلا بدّ منه· ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : “إنه ليغان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة” ولذلك أكرمه الله تعالى بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ، فأما غيره فكيف يكون حاله؟ ومتى اجتمعت شروط التوبة كانت صحيحة مقبولة· قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ }· وكان من دعائه كما جاء في الصحيحين: “اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فأغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم” هذا ما تيسر ذكره وللحديث إكمال في المرَّة القادمة بإذن الله تعالى والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته· * خطيب جامع السهلي – المشرف على مراقبة البرامج بإذاعة القرآن الكريم

alayman

اللهم ما اجعله خالصا لوجهك يا كريم وانفعنا به واجعله فى ميزان حسناتنا

  • Currently 34/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
11 تصويتات / 107 مشاهدة
نشرت فى 21 مارس 2011 بواسطة alayman
alayman
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

116,750