وصيته لأمير المؤمنين (عليهِ السَّلام)
يا علي: إن من اليقين أن لا تُرضي أحداً بسخط الله ولا تحمد أحداً بما آتاك الله ولا تذمّ أحداً على ما لم يؤتك الله، فإن الرزق لا يجره حرص حريص ولا تصرفه كراهة كاره، إن الله بحكمه وفضله جعل الرَّوح والفرح في اليقين والرّضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط.
يا علي: إنه لا فقر أشد من الجهل ولا مال أعود من العقل(1) ولا وحدة أوحش من العجب ولا مظاهرة أحسن من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا عبادة كالتفكّر.
يا علي: آفة الحديث الكذب وآفة العلم النسيان وآفة العبادة الفترة(2) وآفة السماحة المن وآفة الشجاعة البغي وآفة الجمال الخيلاء وآفة الحسب الفخر.
يا علي: عليك بالصدق ولا تُخرج من فيك كذبة أبداً ولا تجترئن على خيانة أبداً، والخوف من الله كأنك تراه، وابذل مالك ونفسك دون دينك وعليك بمحاسن الأخلاق فاركبها وعليك بمساوئ الأخلاق فاجتنبها.
يا علي: أحب العمل إلى الله ثلاث خصال: من أتى الله بما افترض عليه فهو من أعبد الناس، ومن ورع من محارم الله فهو من أورع الناس، ومن قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس.
يا علي: ثلاث من مكارم الأخلاق: تَصل من قطعك. وتعطي من حرمك. وتعفو عمن ظلمك.
يا علي: ثلاث منجيات: تكُفّ لسانك. وتبكي على خطيئتك. ويسعك بيتك.
يا علي: سيد الأعمال ثلاث خصال: إنصافك الناس من نفسك. ومساواة الأخ في الله وذكر الله على كل حال.
يا علي: ثلاثة من حُلل الله(3): رجل زار أخاه المؤمن في الله فهو زور الله وحقٌّ على الله أن يكرم زوره ويعطيه ما سأل، ورجل صلى ثم عقَّب إلى الصلاة الأخرى فهو ضيف الله وحق على الله أن يكرم ضيفه، والحاج والمعتمر فهما وفدا الله وحق على الله أن يكرم وفده.
يا علي: ثلاث ثوابهن في الدنيا والآخرة: الحج ينفي الفقر. والصدقة تدفع البلية. وصلة الرحم تزيد في العمر.
يا علي: ثلاث من لم يكن فيه لم يقم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله عز وجل, وعلم يرد به جهل السفيه. وعقل يداري به الناس.
يا علي: ثلاثة تحت ظل العرش يوم القيامة: رجل أحبّ لأخيه ما أحب لنفسه. ورجل بلغه أمر فلم يقدم فيه ولم يتأخر حتى يعلم أن ذلك الأمر لله رضى أو سخط. ورجل لم يعِبْ أخاه بعيب حتى يصلح ذلك العيب من نفسه، فإنه كلما أصلح من نفسه عيباً بدا له منها آخر، وكفى بالمرء في نفسه شغلاً.
يا علي: ثلاث من أبواب البر: سخاء النفس. وطيب الكلام. والصبر على الأذى.
يا علي: في التوراة أربع إلى جنبهن أربع: من أصبح على الدنيا حريصاً أصبح وهو على الله ساخط, ومن أصبح يشكو مصيبة نزلت فيه فإنما يشكو ربه. ومن أتى غنياً فتضعضع له ذهب ثلثا دينه. ومن دخل النار من هذه الأمة فهو من اتخذ آيات الله هزواً ولعباً.
يا علي: أربع إلى جنبهن أربع: من ملك استأثر(4). ومن لم يستشر يندم. كما تدين تدان. والفقر الموت الأكبر، فقيل له: الفقر من الدينار والدرهم؟ فقال: الفقر من الدين.
يا علي: كل عين باكية يوم القيامة إلا ثلاثة أعين: عين سهرت في سبيل الله، وعين غضت عن محارم الله. وعين فاضت من خشية الله.
يا علي: طوبى لصورة نظر الله إليها تبكي على ذنب لم يطلع على ذلك الذنب أحد غير الله.
يا علي: ثلاث موبقات، وثلاث منجيات، فأما الموبقات: فهوىً متّبع. وشح مطاع. وإعجاب المرء بنفسه. وأما المنجيات فالعدل والرضا والغضب. والقصد في الغنى والفقر. وخوف الله في السر والعلانية كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
يا علي: ثلاث يحسن فيهن الكذب: المكيدة في الحرب. وعِدتك زوجتك. والإصلاح بين الناس.
يا علي: ثلاث يقبح فيهن الصدق: النميمة. وإخبارك الرجل عن أهله بما يكره. وتكذيبك الرجل عن الخير.
يا علي: أربع يذهبن ضلالاً: الأكل بعد الشبع. والسراج في القمر. والزرع في الأرض السبخة. والصنيعة عند غير أهلها.
يا علي: أربع أسرع شيء عقوبة: رجل أحسنت إليه فكافأك بالإحسان إساءة. ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك. ورجل عاقدته على أمر فمن أمرك الوفاء له ومن أمره الغدر بك. ورجل تصل رحمه ويقطعها.
يا علي: أربع من يكنّ فيه كمل إسلامه: الصدق. والشكر. والحياء. وحسن الخلق.
يا علي: قلة طلب الحوائج من الناس هو الغنى الحاضر وكثرة الحوائج إلى الناس مذلة وهو الفقر الحاضر.
**وصية أُخرى إلى أمير المؤمنين (عليهِ السَّلام) مختصرة
يا علي: إن للمؤمن ثلاث علامات: الصيام. والصلاة. والزكاة. وإن للمتكلف(5) من الرجال ثلاث علامات: يتملق إذا شهد. ويغتاب إذا غاب. ويشمت بالمصيبة. وللظالم ثلاث علامات: يقهر من دونه بالغلبة. ومن فوقه بالمعصية. ويظاهر الظلمة. وللمرائي ثلاث علامات: ينشط إذا كان عند الناس. ويكسل إذا كان وحده. ويحب أن يحمد في جميع الأمور. وللمنافق ثلاث علامات: إذا حدث كذب. وإن ائتمن خان. وإن وعد أخلف. وللكسلان ثلاث علامات: يتوانى حتى يفرّط. ويفرط حتى يضيع. ويضيع حتى يأثم. وليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً(6) إلا في ثلاث: مرمة لمعاش. أو خطوة لمعاد. أو لذة في غير محرّم.
يا علي: إنه لا فقر أشد من الجهل. ولا مال أعود من العقل. ولا وحدة أوحش من العُجب. ولا عمل كالتدبير. ولا ورع كالكف. ولا حسب كحُسن الخلق، إن الكذب آفة الحديث وآفة العلم النسيان. وآفة السماحة المن.
يا علي: إذا رأيت الهلال فكبّر ثلاثاً وقل: الحمد لله الذي خلقني وخلقك وقدَّرك منازل وجعلك آية للعالمين.
يا علي: إذا نظرت في مرآة فكبّر ثلاثاً وقل: اللهم كما حسَّنت خَلْقي فحسِّن خُلُقي.
يا علي: إذا هالك أمر فقل: اللهم بحق محمد وآل محمد إلا فرجت عني.
قال علي (عليهِ السَّلام): قلت: يا رسول الله (فتلقى آدم من ربه كلمات) ما هذه الكلمات؟ قال: يا علي إن الله أهبط حواء بجدة والحية بإصبهان وإبليس بميسان(7) ولم يكن في الجنة شيء أحسن من الحية والطاووس وكان للحية قوائم كقوائم البعير، فدخل إبليس جوفها فغرَّ آدم وخدعه فغضب الله على الحية وألقى عنا قوائمها، وقال: جعلت رزقك التراب وجعلتك تمشين على بطنك لا رحم الله من رحمك، وغضب على الطاووس، لأنه كان دل إبليس على الشجرة، فمسخ منه صوته ورجليه، فمكث آدم بالهند مائة سنة، لا يرفع رأسه إلى السماء واضعاً يده على رأسه يبكي على خطيئته فبعث الله إليه جبرائيل فقال: يا آدم الرب عز وجل يقرئك السلام ويقول: يا آدم ألم أخلقك بيدي؟ ألم أنفخ فيك من روحي؟ ألم أُسجد لك ملائكتي؟ ألم أُزوجك حواء أمتي؟ ألم أُسكنك جنتي؟ فما هذا البكاء يا آدم؟ تكلم بهذه الكلمات، فإن الله قابل توبتك، قل: سبحانك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي، فتب علي إنك أنت التواب الرحيم.
يا علي: إذا رأيت حية في رحلك فلا تقتلها حتى تخرج عليك ثلاثاً، فإن رأيتها الرابعة فاقتلها فإنها كافرة.
يا علي: إذا رأيت حية في طريق فاقتلها، فإني قد اشترطت على الجن أن لا يظهروا في صورة الحياة.
يا علي: أربع خصال من الشقاء: جمود العين،. وقساوة القلب. وبعد الأمل. وحب الدنيا من الشقاء.
يا علي: إذا أُثني عليك في وجهك فقل: اللهم اجعلني خيراً مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون.
يا علي: إذا جامعت فقل: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني فإن قضى أن يكون بينكما ولد لم يضره الشيطان أبداً.
يا علي: ابدأ بالملح واختم، فإن الملح شفاء من سبعين داء، أذلها الجنون والجذام والبرص.
يا علي: أدهن بالزيت، فإن من أدهن بالزيت لم يقربه الشيطان أربعين ليلة.
يا علي: لا تجامع أهلك ليلة النصف ولا ليلة الهلال، أما رأيت المجنون يصرع في ليلة الهلال وليلة النصف كثيراً!
يا علي: إذا ولد لك غلام أو جارية فأذن في أُذنه اليمنى، وأقم في اليسرى فإنه لا يضره الشيطان أبداً.
يا علي: ألا أُنبئك بشر الناس؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: من لا يغفر الذنب ولا يقيل العثرة، ألا أُنبئك بشر من ذلك؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: من لا يؤمن شره، ولا يرجى خيره.
وصية له أُخرى إلى أمير المؤمنين (عليهِ السَّلام)
يا علي: إياك ودخول الحمام بغير مئزر فإنّ من دخل الحمام بغير مئزر ملعون الناظر والمنظور إليه.
يا علي: لا تتختم بالسبابة والوسطى، فإنه كان يتختم قوم لوط فيهما ولا تعر الخنصر.
يا علي: إن الله يعجب من عبده إذا قال: رب اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يقول: يا ملائكتي عبدي هذا قد علم أنه لا يغفر الذنوب غيري، اشهدوا أني قد غفرت له.
يا علي: إياك والكذب فإن الكذب يسود الوجه، ثم يُكتب عند الله كذاباً وإن الصدق يبيّض الوجه ويكتب عند الله صادقاً. واعلم أن الصدق مبارك والكذب مشؤوم.
يا علي: احذر الغيبة والنميمة، فإن الغيبة والنميمة توجب عذاب القبر.
يا علي: لا تحلف بالله كاذباً ولا صادقاً من غير ضرورة ولا تجعل الله عرضة ليمينك، فإن الله لا يرحم ولا يرعى من حلف باسمه كاذباً.
يا علي: لا تهتم لرزق غد، فإن كل غد يأتي برزقه.
يا علي: إياك واللجاجة، فإن أولها جهل وآخرها ندامة.
يا علي: عليك بالسواك، فإن السواك مطهرة للفم ومرضاة للرب ومجلاة للعين، والخلال يحببك إلى الملائكة، فإن الملائكة تتأذى بريح فم من لا يتخلل بعد الطعام.
يا علي: لا تغضب، فإذا غضبت فاقعد وتفكر في قدرة الرب على العباد وحمله عنهم وإذا قيل لك: اتق الله فانبذ غضبك وراجع حلمك.
يا علي: احتسب بما تنفق على نفسك تجده عند الله مذخوراً.
يا علي: أحسن خلقك مع أهلك وجيرانك ومن تعاشر وتصاحب من الناس تكتب عند الله في الدرجات العلى.
يا علي: ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلاً في حكمك، مقسطاً في عدلك محبباً في أهل السماء، مودوداً في صدور أهل الأرض احفظ وصيتي إن شاء الله تعالى.
الإصلاحات التي قام فيها الرسول(صلى الله عليه وآله) في المدينة (1هـ):8
استقبلت المدينة المنوّرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) استقبال الحب والإيمان .. استقبلوه بالأفراح والأناشيد ، فهو المصلح والمنقذ والهادي ، لقد انفتحت له القلوب والعقول قبل البلاد ، وأسلم الناس بالاستجابة إلى دعوة الفكر والحوار، وحين استقرّ الرسول (صلى الله عليه وآله) بالمدينة وجد أن كل عناصر الدولة ومقوماتها متوفرة بصورة فعلية ،الأرض والشعب والقانون والقيادة ،ولكي يتماسك البناء الاجتماعي والسياسي وينتشر الأمن والسلام وينتقل الناس من الفكر القبلي إلى فكر الدولة والمجتمع المدني المتحضر ، استبدل العلاقات القبلية بالعلاقات الإنسانية والعقيدية والقانونية
بناء المسجد:
إن المساجد في الإسلام لها شأن عظيم، ومكانة رفيعة، ففيها يعبد الله تعالى ويذكر فيها اسمه، { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح لها فيها بالغدو والآصال رجال...} ( النور : 36 )، ولم يكن المسجد قاصرا على الصلاة فحسب، بل هو مكان للحكم والقضاء، وإدارة الدولة وسياستها، وتجييش الجيوش وغير ذلك من المهام ، ولما كان المسجد بهذه المكانة فأول أمر بدأ به النبي (صلى الله عليه وآله) بعد وصوله المدينة بناء المسجد . (مسجد قباء)
وقد احتل المسجد مكاناً هاماً في تعليم المسلمين وتثقيفهم ، وتلاوة ما ينزل من القرآن (تفسيره)، وقد جلس فيه معلمون لتعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة .
وهكذا تنوع النشاط الذي احتضنه المسجد النبوي ما بين عبادة وعلم وخدمة اجتماعية وثقافية وعسكرية ، كما صار المسجد النبوي بالمدينة مناراً ومرشدا ومعلما بارزا في الحياة الإسلامية ، وتابعته المساجد الأخرى التي بنيت في المدن والأمصار الإسلامية على مر العصور.
وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله)عند وصوله إلى المدينة المنورة صلى حيث أدركته الصلاة ، ثم أمر ببناء المسجد في أرض كان فيها نخل لغلامين يتيمين ، من بني النجار ، وقد أشترها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وقام المسلمون بتسويتها ، وقطع نخيلها ، وصفوا الحجارة في قبلة المسجد التي كانت تتجه نحو بيت المقدس آنذاك.
أن رسول الله صلى الله عليه لما أخذ في بناء المسجد كان يبني معهم وينقل اللبن والحجارة بنفسه ، وما أعظم سرورهم وهم يعملون في بنائه ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يعمل معهم ، وجعل له ثلاثة أبواب باب في المؤخرة وباب يقال له باب الرحمة . والباب الذي يدخل منه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعل أعمتده من الجذوع وسقفه من الجريد ، ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين ، ثم أعيد بناء المسجد سنة 7هـ.
وقيل له ألا تسقفه ؟ قال " عريشي كعريش موسى " وقال : " ابنوا لي عريشا كعريش موسى " وجعل يناول اللبن وهو يقول : " اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة ، فاغفر للأنصار ، والمهاجرين " وبنى بيته إلى جانبيه
وكان الناس ينقلون حجرا حجرا وعماريحمل حجرين حجرين ، فرآه النبي ( ص ) ، فمسح يده على ظهرعمار وقال : اللهم بارك في عمار: ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار ، وقال:" ويحك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية "، وآخر زادك من الدنيا صياح من لبن.
وقد حدد النبي (صلى الله عليه وآله) موقع المنبر ، وموقع مصلاه بدقة حيث اتخذ محرابا من بعده ، وكانت ثمة اسطوانة تحدد موقعه ، وصارت تمسى باسطوانة المخلفَّة أوالقرعة ، وقد وضع المصحف في صندوق عند هذه الاسطوانة في جيل الصحابة ، وعرف المكان ما بين البيت والمنبر باسم " الروضة " وكان (صلى الله عليه وآله)يقول :مابين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة.
المؤاخاة :
أوجد رسول الله نظام المؤاخاة قبل الهجرة حيث آخى بين المهاجرين في مكة بخمسة أشهر، وبعد أن تمت الهجرة آخى بين المهاجرين من مكة وبين أنصار المدينة وفيها آخى بينه وبين الامام علي بن أبي طالب(ع) ، وايضا آخى بينه وبين الإمام علي(ع) في خطبة الوداع(10هـ)
كان ( التآخي ) في الإسلام منهجا لرص صفوف المسلمين ، ونظم الرسول بنفسه عملية ( التآخي ) بين المهاجرين والأنصار، وكان صلى الله عليه وآله يراعي كل متطلبات التآخي ، فأن التقريب بين شخصين لم يكن ليجري اعتباطا ، بقدر ما كانت تراعي فيه شروط الانسجام النفسي والروحي .
وأقام مبدأ المؤاخاة ، بين المهاجرين والأنصار ، وأزال الخلاف والأحقاد التي كانت بين قبيلتي الأوس والخزرج في المدينة .
كان النبي (صلى الله عليه وآله) جالسا في مسجده إذ هبط الأمين جبريل عليه السلام ، فقال : يا محمد العلي الأعلى يقرؤك السلام ويقول لك إقرأ ، قال : وما أقرأ ؟ قال : اقرأ ( إن المتقين في جنات وعيون * أدخلوها بسلام آمنين * ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر المتقابلين )
فقال : يا جبريل فما هؤلاء القوم الذين جعلهم الله إخوانا على سرر متقابلين ؟ فقال : أصحابك المنتخبون الذين وفوا بعهدك ولم ينقضوا عهدك ، ألا وإن الله يأمرك أن تؤاخي بينهم في الأرض كما وآخى الله بينهم في السماء .
آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أصحابه حين نزلوا المدينة ، ليذهب عنهم وحشة الغربة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة ويشد أزر بعضهم ببعض فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة أنزل الله سبحانه إنما المؤمنون إخوة
وكان المسلمون حين المؤاخاة تسعين رجلا ، نصفهم من المهاجرين ، ونصفهم من الأنصار ، آخى بينهم على المواساة وعلى أن يتوارثوا بعد الموت دون ذوي الأرحام ، إلى وقعة بدر . فلما أنزل الله ( 8 : 75 ) وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله والتوارث إلى الأرحام .
وكان (صلى الله عليه وآله ) يؤاخي بين الرجل ونظيره فقد آخى بين أبي ذر وسلمان الفارسي ، كما آخى بين الزبير وابن مسعود و بين أبي بكر وعمر ، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وبين طلحة والزبير ، وبين أبي عبيدة الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ، وبين معاذ وثوبان ، وبين أبي طلحة وبلال ، وبين عمار وحذيفة ، وبين سعد بن أبي وقاص وصهيب ، وبين أبي أيوب الأنصاري وعبد الله بن سلام ، وبين أسامة وهند حجام النبي ، وبين معاوية والحباب المجاشعي ، وبين فاطمة بنت النبي وأم سلمة ، وبين عائشة وامرأة أبي أيوب ، وأخر ( صلى الله عليه وآله ) عليا لنفسه قائلا له : والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي ، أنت أخي ووارثي ، أنت أخي ورفيقي ، أنت أخي في الدنيا والآخرة.
الوثيقة:
خطا الرسول (صلى الله عليه وآله) خطوات سياسية سلمية أخرى في منهاج الدعوة الإسلامية ، وهي كتابة وثيقة السلام وعدم اعتداء وتثبيت الحقوق والواجبات بين المسلمين من جهة ، وبين المسلمين واليهود في المدينة من جهة أخرى ,وكانت الوثيقة عبارة عن ميثاق للأمن والسلام والتعايش في ظل العدل والتفاهم وتحديد الحقوق والالتزامات المتبادلة ،وان هذه الوثيقة التأريخية ذات الطبيعة الشرعية ، فإنّها أساس قانوني وتشريعي في الفكر الإسلامي لكونها صادرة عن الرسول(صلى الله عليه وآله)
وتشير أحداث التأريخ أنّ المسلمين وقّعوا معاهدات صلح ، وعقدوا العهود والمواثيق الكثيرة بينهم وبين الآخرين . . مثل ميثاق السلام الذي وقعه الرسول مع اليهود في السنة الأولى من الهجرة ، وصلح الحديبية ، والصلح مع أساقفة نجران والروم في معركة تبوك . . الخ ، والمواثيق ، والمؤكدة على احترامها من قبل المسلمين ، والمبرزة لجانب التعايش والسلام مع الآخر .
وحين وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة المنوّرة عمل على بناء المجتمع المدني ، على أسس ومبادئ للمواطنة والتعايش بين المسلمين وبينهم وبين اليهود . . غير أنّ اليهود نقضوا فيما بعد هذه الصحيفة وتآمروا على الرسول (صلى الله عليه وآله) والدعوة والدولة ، وخططوا مع قريش وحلفائها للقضاء على الإسلام.
يمكننا أن نستخلص من هذه الوثيقة المبادئ الآتية :
1 ـ إنّ أيدي المؤمنين جميعاً ومَن عاهدهم من اليهود على مَن بغى وظلم وأفسد ، ولو كان ابن أحدهم
2 ـ إنّ اليهود الذين أقروا هذه الصحيفة أمّة مع المؤمنين
3 - لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم
4 ـ إن أهل هذه الصحيفة من المسلمين واليهود بينهم النصر على مَن حاربهم ، وعلى مَن دهم يثرب فهم ملزمون بالدفاع عن المدينة ، وردّ الاعداء عنها .
5 ـ إنّ النصر للمظلوم
6 ـ على أطراف الصحيفة توقيع الصلح مجتمعين ممن يطلب منهم الصلح
7 ـ إن يثرب حرام جوفها على أهل هذه الصحيفة . . أي يحرم على الجميع أن يرتكب ما يخل بالأمن والسلام ، أو يرتكب الظلم والبغي والإثم والعدوان ، فهي مدينة أمن وعدل وسلام
8 ـ وانّه مَن خرج آمن ، ومَن قعد آمن في المدينة . . فالأمن حق للجميع
9 ـ إنّ الله ورسوله نصيران وحاميان لمن يفي بنصوص هذه الصحيفة ، وإنّ الله سبحانه والرسول (صلى الله عليه وآله) جار لمن ينفذ ذلك . . يعني انّ الدولة والأمّة والأفراد مسؤولون عن تنفيذ هذه المبادئ والعمل بها .
والدراسة التحليلية لهذه الصحيفة لا تكشف عن الاعتراف بالديانات الإلهية ، والتعايش مع معتنقيها بأمن وسلام وتعاون فحسب ، بل وتعطينا نظرية في حقوق المواطنة ، وأن هذه الحقوق هي للمسلمين وغيرهم ، ما زالوا ملتزمين بالروح التي حوتها هذه الصحيفة .