قصّة قصيرة . بقلم سعاد بلحاج يوسف ـ تونس ـ

(( وجدان على خطّ التّلاشي ))
على جانب من الرّصيف البعيد الممتدّ على شارع طويل من شوارع المدينة ، كانت "وجدان" تسير وحيدة في نفس الطّريق الذي تسير فيه كلّ يوم . كانت الدّنيا مساء وكان برد الشّتاء يلفح الصّدور ويغمر الكون بجوّ ثقيل ... وكان النّاس في ذلك الطّريق المَزحوم يمرّون مسرعين واجمين لايلتفتون ولا يتكلّمون ، صامتين كأنّ أشباح المدينة قطعت ألسنتهم ، أو كأنّهم بصمتهم يمضون إلى تفاصيل حياتهم اليوميّة المحمومة مستهزئين بالوجوه و بالوجود … أقدام تدبّ ، تظهر ثمّ تغيب، لا تعرف من أين تطلع عليك ولا إلى أين تمضي ... وجوه شاحبة ضاعت ملامحها وعيون غشّاها ضباب الشّتاء ... 
كان ضباب الشّتاء في ذلك المساء كثيفا يحجب كلّ شيء حتّى مشاعر النّاس وأحلامهم ... كان يغمر المباني بصبغة رماديّة حزينة ويحوّل واجهاتها البلّوريّة إلى حُجب لا يعرف العابرون ما تخفي وراءها ، فقد كانوا لا يلتفتون حتّى للنّظر إلى صور وجوههم منعكسة على صفحاتها البلّوريّة...
على امتداد الطّريق ظلّت " وجدان " تسير و تلاحق بعينيها القلقتين هياكل العابرين من بعيد ولا أحد يكترث لوجودها ... أحسّت كأنّها في عالم قَصيّ لا يشاركها الوجودَ أحد ... صارت خواطرها القلقة تتصاعد مع إيقاع خطوها السّريع وكان خطوها ، وهي تنتعل حذاء قديما تآكل كعبه إلى حدّ النّخاع ، يُحدث في الفضاء رجعا صاخبا كأنّه القعقعة حين تنذر بخطب عظيم ... كانت من حين لآخر تهتزّ بجسمها المتعب متعثّرة في بعض الحفر فلا تكاد تجد موطئا لقدميها ... تتوقّف قليلا ثمّ لا تلبث أن تتمالك وتواصل سيرها السّريع محدثة نفس القعقعة ولا أحد ينتبه لخطوها ...
تلك الحفر اللّعينة كم حاولت تفاديها ؟ لماذا تنصبّ أمامها كالفخاخ يوما بعد يوم ؟ لماذا لا تتجاهلها كما يتجاهل النّاس بعضهم ويتجاهلون ذواتهم على هذا الطّريق المزحوم ؟
... هذا الطّريق قطعته آلاف المرّات صار مدارا لخطوها و صارت تعرّجاته كأرقام على قرص ساعة تمرّ عليها خطواتها مرّا موقوتا ... حفظت تفاصيله وخبرت تعرّجاته ، صارت شيئا منه من كثرة ما عرفته ولا تزال حفره تفاجئها ...

كانت "وجدان " شابّة غضّة لا يفارقها الصّفاء ، في ملامحها صورة تذكّرك بشّيء خبيّ يسكن في دواخلك ، تعبر بك إلى الصّميم وتبعث فيك عبق الحياة ... لكن مع ملامح وجهها المليح ترى تعابير التّعب مشوبة بالقلق والغربة والحنين ... لقد جرّبت الأوجاع في هذه المدينة المخبولة بحفرها اللّعينة و مبانيها الحزينة وأناسها التّائهين ... صارت جزءا منها و من حياتها المحمومة...
نسيت أوجاعها لحظة حين أحسّت برذاذ من المطر يداعب أطرافها ... انتشت و ظهرت على أساريرها تباشير الارتياح وهي تحسّ بلمسات الماء تداعبها ، مسحت على وجهها و شعرها وانتظرت معانقة خيوط المطر، لكن لا مطر يأتي غير الرّذاذ المتلاشي مع برد الشّتاء الثّقيل ... 
هبّت رياح خفيفة حوّلت الرّذاذ إلى قطرات كأنّها خلجات الوجد يتساقط بشحّ ... تلاطمت القطرات على الرّصيف فرسمت مع ركون المساء بقعا داكنة كأنّها لطخات مبهمة على لوحة لم تكتمل ...
تراخت " وجدان " ثمّ توقّفت عن السّير متأمّلة كأنّها تتشوّق إلى اكتمال اللّوحة ... لكن كيف المكتمل في هذا الفصل الشّحيح ...؟
واصلت سيرها وهي تقرع بخطوها على الرّصيف وتحمل بالجهد أشجانها و لا أحد يبالي ...
تآلفت قرعات خطاها مع وَلوَلات عصافير المساء واتّخذت طابعا مميّزا...صارت نغما حزينا استأنست به ومضت على إيقاعه تحكي لنفسها عن مشوار التّعب والشّجن والحنين ، ومع كلّ خطوة ينفجر فيض من خواطرها فيأخذها إلى قرار بعيد ... ذكريات تنساب في تعرّجات كتعرّجات هذا الشّارع الممتدّ أمامها ... خيوط متشابكة وصور متداخلة لازال لهيب بعضها متأجّجا في صدرها وأخرى حوّلتها السّنين إلى ضباب بارد دفنته مع برد الشّتاء ... فيض من الوجدان يذوب مع خليط من الأوجاع ...

... كانت صغيرة لا تفقه الكثير حين ألقى بها أهلها إلى المدينة أرادوا أن تعمل لتساعد على سدّ الحاجة وقد كانوا في أشدّ الحاجة إلي المال . تلك الحاجة اللّعينة ... ذلك البلاء العظيم ... 
كانت أوّل أوجاعها في تلك النّظرات اللّهيبة التي ودّعت بها أمّها ... أحسّت كأنّ حبال الوجد التي تشدّها إلى الوجود بدأت تتلاشى على صدرها ولم يبق منها إلاّ خيط رقيق من نسج أحلامها الغضّة حول ما ستلقاه في خضمّ الحياة التي تنتظرها ...
كان كلام أبيها وهو يقطع بها الطّريق في ذاك الشّارع يغمرها بالأماني ولكنّه لم يدفع عنها ذلك القلق الذي بدأ يجتاحها منذ دخولهما باب المدينة ...
حدّثها عن الحياة الرّضيّة التي تنتظرها وعن المال الذي سيخلّصهم من الحاجة و الفقر و لم يحدّثها عمّا وراء تلك الواجهات التي امتدّت أمامها وخطفت بصرها المتطلّع إلى المجهول ...
شدّتها واجهة لأحد المباني القديمة وقد كانت منزوية تكاد لا ترى... أربكتها ... توقّفت أمامها واجلة ... أحسّت كأنّها تمنّيها بشيء عظيم ... تأمّلت ، فرأت عليها صورة وجهها المليح بإشراقه ووداعة ملامحه ... سُرّت وحلمت وارتقبت فيض المباهج ... لكنّ يد أبيها التي كانت تجرّها إلى موعد تجهله جذبتها بقوّة حتّى أوجعت معصمها وواصلا الطّريق ... ظلّت بعد ذلك تمرّ أمامها كلّ يوم وما خطر لها أن تنظر فيها مرّة أخرى لا لكونها لم تعد تعنيها بل لأنّها صارت تتجاهلها كما يتجاهل النّاس ذواتهم في شوارع هذه المدينة ...

أفاقت "وجدان" فجأة عندما اصطدم جسمها بكتف أحد السّائرين فضاعت سلسلة الحوادث التي بذلت جهدا لتمسك بها ... 
بقيت تتأمّل ما بقي من مشوارها وتنظر بامتعاض إلى الطّريق الطّويل الممتدّ أمامها ... لقد كرهت هذا الطريق و كرهت جريان مشوار حياتها على خطّ يذوب فيه كلّ يوم شيء من وجودها . خطّ التّلاشي ... يبتلع حقيقة البشر ويحجب عنهم حتّى ذواتهم ... فماذا لو تجرّأت و غيّرت هذا الطّريق ؟ 
جعلت تقلّب بصرها في كلّ ناحية فإذا بحنين يأخذها إلى قرار بعيد ، إلى شيء دفين ساكن بداخلها ... في تلك اللّحظة هَفَت إلى صورتها ، اشتاقت لرؤية ملامح وجهها من جديد ...
توجّهت ببصرها نحو إحدى الواجهات . نظرت . أصابها الذّهول . لم تر صورتها . لقد تلاشت صورتها . ارتبكت . شعرت بالهول . راحت تفرك عينيها ... تتحسّس جسدها بيديها ... تغيّر وقفتها... تتنقّل بين الواجهات ... لكن لا شيء يثبت وجودها . لقد ذابت وجدان . ذابت في مدينة الابتلاع و الضّياع .

برقت السّماء فجأة فبعثت ضياء باهرا بدّد الضّباب أمام عينيها و لفّ الأرض بالسّماء . انعكس الضّياء على واجهة لأحد المباني القديمة المنسيّة في إحدى زوايا الشّارع فانبثق من وراء الزّجاج وميض غامض بدأ يتوضّح شيئا فشيئا فإذا بها صورة وجهها وقد تجلّت ... تذكّرت تلك الواجهة . إنّها هي ... هي بعينها ... تلك التي استوقفتها ذات مرّة ...
وبلهفة وشوق قلّبت ببصرها تبحث عن باب المبنى ونفذت إلى الدّاخل .
يا للرّوعة ...؛ رواق مضيء يعبق بعطر الحياة البكر... حياة كأنّها خلقت لتوّها ... على الجدران و من كلّ ناحية ، عُرضت لوحات من فنّ الوجود السّخيّ ... تأمّلت ، فانتعشت واستيقظ فيها عبق الحياة ... لقد رسم الرسّام صورتها وجعل في كلّ لوحة احتفاءً بوجدان ... سرّت و ارتاحت ...تجلّت لها من خلال فتحة الباب قناديل تضيء ثنايا فسيحة ، هناك ، بعيدا عن خطّ التّلاشي .

بقلم سعاد بلحاج يوسف .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 264 مشاهدة
نشرت فى 2 ديسمبر 2015 بواسطة alankaa

مجلة رابطة العنقاء للابداع الادبي

alankaa
بسم الله الرحمن الرحيم -أهلاً وسهلاً بكم معنا في هذا المنتدى الثقافي الأدبي ..و الذي يرعى الإبداع الأدبي بكل صوره من حيث الاهتمام بالمبتدئين الموهوبين والتفاعل مع المبدعين الكبارِ ليرتقي الجميعُ ،، ..اهلاا و مرحبا بكم . »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

111,321