-1 اعتبر النابغة ان جمع المؤنث السالم هو من قسيم جمع القلة ، و القلة في مورد الكرم مذمومة ، و هو قصد بذلك كلمة (الجفنات) و هو جمع جفنة ، و هو وعاء يوضع فيه الطعام للظيوف و الطارقين ليلا . وقد ورد هذا الجمعُ ولا يُرَادُ به القِلَّة ، قال تعالى : ( وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جَنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ... ) ، فهنا لفظة ( جنَّات ) وإنْ كانت جمعَ مؤنث سالم فهي لم تُشْعرْ بالقلة بل العكسُ صحيح .
وقال تعالى : ( وهم في الغُرُفات آمنون ) ، وكذلك جمع الغرفات لم يُشْعِرْ بالقلَّة .
فجمع المؤنث السالم لا يأتي غالبا للقلَّة كما في الآيتين ، فإنَّ كرمَ وفضلَ الله عظيمٌ وكثيرٌ لعباده المتقين في الجنَّة ، مالا عينٌ رأيت ، ولا أذنٌ سمعتْ ، ولا خطر على قلب بشر .
فإنَّ كلمة ( الجفنات ) في بيت حسان - رضي الله عنه - من هذا السبيل ، الذي لا يُراد به القِلَّة كما ذهب النابغة الذبياني .
2 – والمؤآخذة الثانية على غرار الجفنات ، ولكن لكلمة ( أسيافُنا ) وهي على وزن ( أفْعال ) وهي من جموع القِلَّة ، ولكن ايضا نردُّ مؤآخذتَه بقول الله تعالى فيما أعدَّه لعباده المؤمنين في الجنَّة : ( تجري من تحتها الأنهارُ ... ) ، فكلمةُ ( أنهار ) في الآية الكريمة لم يُفْهمْ منها القِلَّة أبدا ، بل اللهُ الكريم المنَّان ذو الفضلِ الواسع .
3 – المؤآخذة الثالثة : هي أن حسَّان افتخر بمن ولدتْ نساؤهم ولم يفتخر بآبائه وبقومه ، ونقول وبالله نستعين : ان حسّان – رضي الله عنه – في نفس القصيدة افتخر بآبائه وأشاد بهم ، ورفع من مكانتهم :
لَنا حاضِرٌ فَعْمٌ ، وبادٍ كَأَنَّهُ
..... شَماريخُ رَضْوَى عِزَّةً وَتَكَرُّما
أَلَسنا نَرُدُّ الكبشَ عن طِيَّةِ الهوى
..... ونقلبُ مُرَّانَ الوشيجِ مُحَطَّما .
بكلِّ فتىً عاري الأشاجع لاحهُ
..... قِرَاعُ الكُمَاةِ يَرْشِحُ المِسْكَ والدَّما
إذا استدبرَتْنا الشَمْسُ دَرَّتْ مُتُوْنُنَا
..... كَأَنَّ عُرُقَ الجَوْفِ يَنْضِحْنَ عَنْدَما .
فانظر الى هذا الفخر بقومه ، وكيف جعلهم أُسودَ الشراة يلطمون كبشَ القوم لطما ؟! بل جعل العرق الخارج من أجسادهم بمثابة المسك ، فكانوا يعتقدون قديما أن دمَ الملوك له ريح المسك ، فهو يرفع قومه الى درجة الملوك .
وبعد هذا الفخر بقومه أشار الى نجابة نسائهم ، وأنهن منجبات معرقات لا يَلِدْن الا الابطال والملوك ، فأيُّ عيبٍ على حسَّان إنْ أشاد بنجابة نسائهم ، وأنَّهُنَّ كريمات منجبات ؟!
والى عهد قريب كان البدو يتزوجون الفتاة التي إخوتهُا فرسانٌ صناديد ؛ عسى أن يُعْرِقْنَ وينجبنَ كماةً صناديد حروب ووغى ...
وهذا رسولُ الله – صلى الله عليه وسلَّم – يَفْخَرُبخاله سعد بن أبي وقَّاص الزهري – رضي الله عنه - فيقول : ( هذا خالي ، فليُرِني امرؤ خالَه ) .
فلا عيبَ ولا ضيرَ يلحقُ حسَّانا بافتخاره بمن ولدتْ نساؤهم .
هذه مؤآخذات النابغة على أبيات حسَّان – رضي الله عنه – وقد قام بعضُ الناس بمؤآخذات أخرى ، قال المرزباني :
( وقال قومٌ ممن أنكرَ هذا البيت : في قوله : يَلْمَعْنَ بالضحى ، ولم يَقُلْ بالدُّجى . وفي قوله : وأسيافنا يَقْطُرْنَ ، ولم يقلْ يَجْرِيْنَ ؛ لأن الجريَ أكثرُ من القطرِ ... ) .
وسوف نتناول هذه المؤآخذات إن شاء الله .
فاللمعان في الضحى دليلٌ على عِظَمِ الشيء الذي يصدرُ منه هذا اللمعان ، أما في الدُّجى فيلمع أحقرُ الاشياء حتى عيونُ القططِ والحشرات ، وقد مارسنا ذلك في الصيد ليلا فكنَّا نرى عيون الحشرات تلمع وتبرق فنظنها صيدا ( أرنبا ) !
ولا يجذبُ بصرَك للمعانه في الضحى الا ما كان عظيما لا يخفيه ويطمسه ضوءُ النهار .
وفي الليل يظهرُ ضوءُ الشمعة على صغره وحقارته .
وقولهم :
( يجرين أبلغُ من يَقْطُرْنَ ) في ذكر الدماء التي على صفاح السيوف ، وهذا من عدم التذوق لهذه الصورة ( يَقْطُرْنَ ) ، فإنَّ السيف الذي يقطرُ دما أشدُّ رهبةً في القلوب من السيف المغطَّى بالدماء ، وذلك لأسباب يعرفها من عرف الطعن والكرَّ والفرَّ وكان ذا خبرة بالسيوف وأنواعها ، فالذي يقطرُ يختلسُ الأرواحَ اختلاساً ، سرعة كلمح البصر ، مضاءٌ وخفَّةٌ متناهيتان بحيث لا يعلق به الا الشيءُ القليل وهذا دليل على جودة السيف وقوة الضارب به .
فإن السيف الذي يعلق به الدمُ الى درجة ( الجريان ) لسيفٌ كليلٌ هو أقربُ الى الخشب منه الى حديد اليمانية ، وقد سبقني الى هذا المعنى بحمد من الله عالم قديم دون ان اطَّلع على قوله الا بعد كتابة هذه السطور ، قال ابنُ يسعون :
( وأما قوله يقطرن فهو المستعمل في مثل هذا ، يقال : سيفُه يقطرُ دماً . ولم تَجْرِ العادةُ بأن يقال : يجري دماً ، مع أنَّ يقطرُ أَمْدَحُ ؛ لأنَّهُ يَدُلُّ على مضاءِ السيفِ وسرعة خروجه عن الضريبةِ حتى لا يكادُ يعلقُ به دمٌ ) . فالحمدُ لله على توفيقه !
واستحضر دليلا على السرعة والمروق من جسد الرمية حيث لا يَعْلَقُ به شيءٌ حديث الخوارج وسرعة مروقهم من الدين حين شبههم الرسول – صلى الله عليه وسلم – بالنبل السريع يمرقُ من أحشاء الرَّمية ولا يعلق به شيءٌ ، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :
(يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ، يَنْظُرُ صَاحِبُهُ إِلَى فُوقِهِ فَلَا يَرَى شَيْئًا ... ) .
فسرعة السهم جعلته لا يمسكُ شيئا من أجزاء الرَّميَّة !
ساعتان
المصدر: ابراهيم ميزي
نشرت فى 23 يوليو 2018
بواسطة akilameradji
أَبو فروة الظريف
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
22,577