كتبت : سحر خليفه حسين
لو تحدثت عمارة الإيموبيليا لحكت جدرانها العشرات من القصص والحكايات التي وقعت بها وكان أبطالها من مشاهير الطرب والتمثيل والأدب وعالم المال. وتظل رغم مرور السنوات ورحيل النجوم عنها، شاهدة على عصر من الجمال. إنها عمارة «الإيموبيليا» التي تميزت بين البنايات العتيقة في وسط القاهرة، والتي شيدت عام 1940 عند نقطة التقاء شارعي شريف وقصر النيل، فالبناية التي تعد الأضخم في وسط العاصمة المصرية، لم تحظ بشهرتها الكبيرة كونها كانت السكن المفضل لمشاهير المجتمع من السياسيين والفنانين والرياضيين في حقبة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي فقط، ولكن لقدرة البناية على الاحتفاظ بين جدرانها بتفاصيل الواقع المصري خلال تلك الحقبة الزمنية، مما جعل البعض يطلق عليها «عمارة الزمن الجميل». وعلى الرغم من احتفاظ البناية برونقها الخارجي، إلا أن تغيراً كبيراً طرأ على ما تضمه من سكان، فبعد أن كانت مسكنا لأكثر من 30 فنانا من أشهر النجوم المصريين والعرب، باتت اليوم أشبه بمبنى «مجمع التحرير» الذي يضم بين جنباته العديد من المصالح الحكومية، حيث تحولت إلى قبلة للعديد من المكاتب والشركات التي تعمل في مجالات مختلفة. بنيت عمارة الإيموبيليا على مساحة شاسعة من الأرض تبلغ 5444 مترا مربعا، وهي عبارة عن مبنى له جناحان يتوسطهما فناء فسيح به حديقة بنافورة، وتطل على الفناء الواجهات الداخلية للجناحين حيث الهدوء، وتتكون البناية من برجين أحدهما بحري ويتكون من 11 طابقا، والآخر قبلي ويرتفع لنحو 13 طابقا ويضم البرجان 370 شقة. وقد تضافرت في بنائها عدة شركات، حيث طرح مشروع تشييدها في مسابقة معمارية وتلقت الشركة العمومية 13 مشروعا قامت بفحصها خلال30 يوما، ثم منحت الجائزة الأولى لمشروع المهندسين المعماريين ماكس أدرعي، وجاستون روسيو، بينما حصل المهندسان أنطوان نحاس، وجاك بورديه لاشربونيير على الجائزة الثانية. وقد بدأ العمل في إنشاء العمارة في 30 أبريل(نيسان) 1938 وتكلف بناؤها مليونا و200 ألف جنيه مصري. وهو مبلغ ضخم جداً بمقاييس العصر الذي بنيت فيه. ومع بدء تأجير الشركة المالكة لشقق العمارة، نشرت إعلاناً في الصحف لتشجيع الناس على السكن بها من خلال التركيز على عدد المصاعد الموجود بها والذي يقدر بنحو 27 مصعدا و15 مصعدا كانت تقسم إلى ثلاث فئات «بريمو» للسكان، و«سوكندو» للخدم، وآخر للأثاث. كما تناول الإعلان قوة أساسات البناية التي لا تؤثر فيها الهزات الأرضية، بالإضافة إلى إعفاء الساكن من دفع إيجار العمارة لمدة ثلاثة شهور تبدأ من لحظة توقيع عقد الإيجار الذي كانت قيمته تبدأ بستة جنيهات، وترتفع إلى تسعة جنيهات، وأخيراً 12جنيهاً، بحسب مساحة الشقة. وهي أيضاً مبالغ إيجارية عالية بقيمة النقود في تلك الفترة التي لم يكن يتجاوز فيها سعر إيجار شقة بمساحة 140 مترا على جنيهين أو ثلاثة. وبالطبع أغرت البناية العديد من الفنانين للسكن بها ليصل عددهم الى نحو 30 فناناً وفنانة منهم نجيب الريحاني ومحمد فوزي وأنور وجدي وليلى مراد ومحمود المليجي ومحمد عبد الوهاب وماجدة الصباحي، التي لا يزال مكتبها موجودا بها حتى الآن ولا تزال تتردد عليه، هذا بخلاف المطربين والمطربات الذين كانوا يترددون بصورة شبه دائمة على العمارة نظرا لوجود العديد من مكاتب الإنتاج الفني والسينمائي بها مثل مكتب عبد الحليم حافظ وأم كلثوم. كما سكنها كبار الأطباء المعالجين لكافة الأمراض في ذلك الوقت، بالإضافة إلي عدد من أشهر الكتاب والصحافيين ومن بينهم الكاتب الكبير فكري أباظة والذي يعد من أول سكانها، والأديب توفيق الحكيم. وقد كان للبناية نظام تدفئة خاص، حيث كان يتم وضع نفايات الشقق في مواسير ضخمة تصل إلى «بدروم» العمارة، حيث تحرق وتمد كافة الشقق بوسائل تدفئة عبر مجموعة مواسير ضخمة موجودة حتى الآن، لكن النظام نفسه توقف. وتحتوي البناية علي موقف كبير يسع لأكثر من100 سيارة. ولضخامة المبنى الذي كان يطلق عليه اسم الهرم الرابع، فإن عملية تنظيف العمارة كانت تتم عن طريق عربات المطافئ التي كانت تقوم بغسلها مرتين في الشهر للحفاظ على جمالها ورونقها. يذكر انه تم تصوير فيلمين سينمائيين بعمارة الإيموبيليا، أحدهما بكراجها وهو فيلم «حياه أو موت» للفنان عماد حمدي والفنانة مديحة يسري، وفيلم «قصه ممنوعة» لمحمود المليجي وماجدة. ومن الطرائف المتعلقة بالبناية أن مصاعدها كانت تتعطل كثيرا ويتعرض مواطنوها للخطر، وهو ما أوحى للمخرج صلاح أبو سيف بفكرة فيلم «بين السماء والأرض» الذي حقق نجاحا كبيرا في عام1961. وقد ارتبط اسم الفنان أنور وجدى بالبناية بدرجة جعلت البعض يظن خطأ أنه مالكها، إلا أن الحقيقة أن هذه البناية كانت من ضمن ممتلكات عبود باشا الذي كان يعد واحداً من أغنى أغنياء مصر في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، حيث كان يملك عددا من البواخر وشركة للسفن ومصانع حرير وشركات سكر وزيوت، كما كان رئيسا للنادي الأهلي. لذلك خصص مكتبا داخل العمارة لاستقبال أشهر لاعبي النادي الأهلي في ذلك الوقت مثل صالح سليم وعادل هيكل وطارق سليم وغيرهم، وكان يحضر لهذا المكتب لاعبو الزمالك أيضا وكان كل الناس يصطفون لتحيتهم، وقد تم تأميم العمارة بعد صدور قوانين التأميم في ستينات القرن الماضي، فامتلكتها شركة الشمس للإسكان والتعمير. عم مصطفى عامل المصعد بعمارة الإيموبيليا، هو أقدم من عرف البناية وعمل بها وما زال يذكر الكثير من الذكريات عنها، وقد قال لـ«الشرق الأوسط»: كان عبود باشا رجلا شديد الثراء، حتى أنه عندما أراد تزيين ممرات العمارة بالرخام، استعان بشركة إنجليزية للحصول على صنف مميز ونقي وحفر اسمه عليه. لم يكن الرخام فقط هو المميز، بل السكان أيضاً فقد كان غالبيتهم من الأجانب وعلية القوم من المصريين سواء كانوا فنانين أو من ذوي مهن أخرى. ولكن الآن الجميع هجرها بعد أن عانت العمارة من الإهمال الشديد بعد قوانين التأميم.