لأشهر التى مضت من عمر الثورة المصرية سمحت لنا بأن نتفرس فى وجوهنا كما تبدت فى مرآة الحقيقة، الأمر الذى كشف عن اننا جميعا خرجنا مشوهين من رحم النظام السابق.

(1)

 الفكرة المفتاح فيما أتحدث عنه اننا جميعا ابناء بيئة اجتماعية وسياسية واحدة، وان اختلفت مشاربنا ومرجعياتنا الفكرية والسياسية. وهذه البيئة خضعت طوال الثلاثة أو الأربعة عقود الأخيرة لنظام اقترن فيه الاستبداد المقيم بالفساد المستشرى. وللاستبداد طبائعه المدمرة. فهو مؤذن بفساد العمران. بمعنى الاجتماع البشرى، عند ابن خلدون. وهو أصل كل فساد آخر عند عبدالرحمن الكواكبى، وقد فصَّل فى ذلك فى كتابه الشهير الذى تحدث عن تلك الطبائع. ونوه فى مقدمته إلى أهمية أن «يعرف الذين قضوا نحبهم أنهم هم المتسببون لما حل بهم، فلا يعقبون على الاغيار ولا على الأقدار».

 

ليس منا إذن من نجا من التأثر بأجواء المرحلة السابقة. وليس بوسع أى أحد أن يدعى أنه كان معصوما من أصدائها. بالتالى فلا محل للتساؤل عن وجود ذلك الفساد من عدمه، ولكن السؤال قد يصح إذا ما انصب على درجة التأثر بتلك الأجواء. وهو ما يسوغ لى أن أقول إننا جميعا أفرادا وجماعات خرجنا من النظام السابق بيوتنا من زجاج، قد تختلف فيه درجة الهشاشة ولكنه يظل زجاجا فى نهاية المطاف.

 بوجه أخص، فإن طول عمر النظام السابق، الذى استمر ثلاثين عاما، وفر له فسحة كافية لتفكيك المجتمع واعادة تركيبه من جديد بالمواصفات التى ارتآها مناسبة له. رأينا ذلك بصورة جلية فى مؤسسات السلطة وجهازها الإدارى، كما رأيناه فى الكيانات السياسية التى ظهرت فى تلك الفترة، بل رأيناه أيضا فى تراجع منظومة القيم السائدة فى المجتمع.

(2)

 إن بعض أنصار النظام السابق وأبواقه ما برحوا يتحدثون عن الأسواق الكبيرة (المولات) التى ظهرت فى عهده والمنتجعات والجسور التى انشئت، وشبكة المترو التى امتدت وأعداد المشاركين فى الإنترنت ومشترى الهواتف النقالة وغير ذلك. وهذا قد يكون صحيحا، إلا أنه يظل منسوبا إلى محيط العمران الإنشائى إذا صح التعبير، لكنه أبعد ما يكون عن العمران الاجتماعى والبشرى. بكلام آخر فإن البنايات والمشروعات التى نفذت لا تعد دليلا كافيا على التقدم، وإنما هى بعض مظاهر التقدم الذى ينبغى ألا يقاس بالمشروعات الاستهلاكية والانشائية وحدها، ولكنه يقاس أساسا بمدى ايجابية منظومة القيم الحاكمة للمجتمع فى المجالات المختلفة.

 ان ما تتحدث عنه هذه الأيام وسائل الإعلام وما تلوكه ألسنة الطبقة السياسية المصرية، عن الاستحواذ والاقصاء والتهميش وإهدار أحكام القضاء وسلطة القانون. هذه العناوين كلها ليست طارئة فى فضائنا السياسى، ولكنها من مخلفات ومواريث النظام السابق. أو قل انها جزء من ثقافة تلك المرحلة التى لم نتخلص منها بعد. فى هذا الصدد أزعم أن الذين مكنوا من موقع فى ظل النظام السابق مارسوا ذلك الذى ينتقدونه اليوم، إلا من رحم ربك بطبيعة الحال. لا أعنى نظام مبارك وحزبه الوطنى فحسب، ولكننى أعنى أيضا مختلف الجماعات والقوى السياسية التى حالفها حظ التمكين، وقدر لها أن تدير منبرا أو جماعة أو منظمة فى تلك المرحلة. أتحدث عن شرائح الليبراليين والعلمانيين واليساريين الذين كان أغلبهم اما مرضيا عنهم من قبل النظام السابق أو متحالفين معه. صحيح أن مبارك سلم مقاليد السياسة والإدارة لجماعته الذين شغلوا المواقع الأساسية فى السلطة والحزب. إلا أنه سلم أبرز منابر الإعلام والثقافة لممثلى تلك الشرائح. وظل الاتفاق غير المكتوب بين الجانبين مستقرا على اقصاء الإسلاميين وتهميشهم حيثما وجدوا. عندى عشرات القصص التى تؤيد تلك المقولة، بعضها يتعلق بخبرات شخصية والبعض الآخر يخص آخرين أعرفهم، لكنى لا أريد أن أذكر أسماء حتى لا أحرج أحدا. لذلك سأكتفى بالإشارة إلى ثلاثة نماذج فقط، فقد حرِّمت جوائز الدولة التقديرية على أى مرشح من الإسلاميين حتى إذا لم يكن من الإخوان. وتم ذلك طول الوقت بتوافق بين مجموعة من المثقفين وبين جهاز أمن الدولة، وعبرَّ لى أعضاء فى إحدى اللجان الاستشارية لمشروع ثقافى خليجى كان يختار كل عام شخصية عربية يمنحها جائزته عن استيائهم من موقف اثنين من المثقفين المصريين أحدهما صار وزيرا فيما بعد دأبا على الاعتراض على أى شخصية إسلامية ترشح للجائزة، خصوصا من بين المصريين ولم يكن هناك تفسير لذلك سوى أن الاثنين من العلمانيين الأصوليين، الذين أصبحوا الآن يعظوننا فى ضرورة القبول بالآخر واحترامه.

 النموذج الثانى يتعلق بقصة الدكتور نصر أبوزيد، الذى اعترضت حينها على فكرة محاكمته ولكن القضاء بمختلف مراتبه أدانه، بما فى ذلك محكمتا الاستئناف والنقض. حينذاك انهالت مقالات وتصريحات تسفيه القضاء واتهامه بالتحيز لصالح الإسلاميين واختراقه من جانبهم. وهؤلاء الذين ظلوا يكيلون الاتهامات للقضاء وقتذاك وجدناهم يتصدون للدفاع عنه ويشددون على ضرورة احترام أحكامه، حين أصدرت المحكمة الدستورية مؤخرا حكمها الذى دعت فيه إلى حل مجلس الشعب ذى الأغلبية الإسلامية.

 لاتزال تلك النخب تمارس إرهابها الفكرى فى ذات الاتجاه الأمر الذى دفع وزير الثقافة الحالى لأن يصرح لصحيفة (المصرى اليوم) فى حديث نشرته له فى 7/9 الحالى قائلا انه لم يستعن بإخوانى واحد فى أى موقع ثقافى. ويبدو أنه بذلك الاقصاء أراد أن يبرئ ساحته ويثبت أنه عند حسن ظن تلك الفئات به ليأمن من التشهير والاتهام فى وسائل الإعلام التى يسيطرون عليها.

 

(3)

لا أريد أن أبرز الاستحواذ الذى يتحدثون عنه هذه الأيام وهو ما أدينه وأستنكره إذا صح. ولكنى أردت فقط أن انبه إلى أن ثمة أمراضا من مخلفات النظام السابق توطنت فى الساحة الثقافية المصرية، فأصابت الجميع ولم يعد أحد مبرأ منها، وبسبب عموم البلوى، فليس لأحد أن يكابر ويعاير الآخر بما أصابه. ولكن واجب الوقت ونداءه هو كيف ان نعالج أنفسنا لنبرأ جميعا من تلك الآفات. وأولى مراحل العلاج ان يعترف المريض بمرضه.

 إن قسمة البلدين إلى معسكرين الأول انخرطت فيه ما سمى بالقوى المدنية، والثانى شمل التيارات الإسلامية التى عرفت باسم القوى الدينية هو صياغة حديثة أضفت نوعا من التقنين للحرب الباردة التى ظلت مستمرة طوال الفترة الماضية. وما استجد فيها ان الطرف الإسلامى اكتسب شرعية وخروجا من الظل إلى الضوء والنور. وقد ذكرت من قبل أنها صياغة خطرة ومغلوطة كرست التقاطع بين الطرفين وأغلقت باب التلاقى أو حتى التوازى بينهما. الأمر الذى يعنى أن الطرفين خرجا متخاصمين من خبرة النظام السابق. وبدت خصومة الطرف العلمانى والليبرالى واليسارى أشد. ليس فقط لأنه ظل تاريخيا منحازا إلى موقف الرفض الحاسم للإسلاميين، ولكن أيضا لأنه استشعر أن صعود الأخيرين يهدد احتكار الأولين للمواقع التى هيمنوا عليها طوال الوقت.

 هذه المفاصلة بين الطرفين ظلت مصدرا للتشوهات التى أصابتهما معا. ذلك ان خصامهم لم يتح لهم أن يعملوا معا، فلم يعرفوا بعضهم البعض ولم يثقوا فى بعضهم البعض. وبالتالى ظل سوء الظن مخيما على علاقاتهم. فقد ظن بعض الإسلاميين ان الآخرين متفلتون وضالون ان لم يكونوا كفارا ومطعونا فى إسلامهم وهى معان كرسها وضعهم فى موقف الضد من المتدينين. وشاع فى أوساط الآخرين أن الإسلاميين جهلاء ومتخلفون ويتاجرون بالدين. وتنطع بعضهم حتى وصفوهم بالمتأسلمين. (لاحظ أن بعض رسامى الكاريكاتير لايزالون يقدمون الإسلاميين باعتبارهم رموزا للتخلف والقبح والغباء وليس فيهم ما يدعو إلى التقدير أو الاحترام).

ذلك التوجس المتبادل المسكون بالنفور وعدم الثقة، كان كفيلا بتعطيل وإفساد أى عمل مشترك بين الطرفين، حتى بدا ان كلا منهما ليس مؤهلا للتعاون مع الآخر، الأمر الذى لم يكن مستغربا ان يفشل الطرفان فى التفاعل فيما بينهما وان تصبح كلمة التوافق عنوانا فارغ المضمون.

إذا أردنا أن نتصارح أكثر فينبغى أن نعترف بأننا بعد الثورة حاولنا ان نؤسس نظاما ديمقراطيا فى حين أننا ظللنا نفتقد إلى الثقافة الديمقراطية، حيث لم نتعلم كيف نعمل معا، وكيف يمكن ان نستخلص من الآخر أفضل ما فيه لتنتفع به الجماعة الوطنية، بدلا من ان ننشغل بإبراز اسوأ ما فى الآخر لإقصائه ونفيه من الساحة الوطنية.

 

(4)

 الخلاصة اننا لابد ان نعترف بأننا مازلنا فى «حضانة» أو تمهيدية الديمقراطية. من ثم فحاجتنا ملحة لأن نستعيد ثقافة الممارسة الديمقراطية، فيتعرف بعضنا على بعض، بحيث يكمل كل منا الآن، ولا يتردد فى التعلم منه. بغير استعلاء أو استكبار. والحرص على التعلم واكتساب الخبرة يتطلب تواضعا للذات واحتراما وتقديرا للآخر.

 هذه الروح تستصحب اقتناعا ضروريا بأن الجميع شركاء فى الوطن، الذى هو أكبر من أى طرف بذاته، وبالتالى فإن النهوض بذلك الوطن يقتضى تفاعلا بين أطيافه واحتشادا لكل مكوناته. فى هذا الصدد أذكر بأننى دعوت من قبل إلى ترحيل مطلب تطبيق الشريعة المثير للخلاف، والاكتفاء فى الوقت الراهن بالاتفاق على مجموعة من المبادئ والقيم التى تحظى بالإجمال الوطنى، قياسا على ترحيب النبى محمد بفكرة حلف الفضول الذى عقده نفر من وجهاء قريش لحماية الضعفاء قبل الإسلام، وهو ما يجعلنى أدعو إلى خطوة أخرى على طريق تواضع الأهداف، مناديا بالكف عن الحديث عن مشروع «النهضة» الذى يبدو المصطلح فيه أكبر بكثير من قدرة وطاقة المجتمع الذى يمر بفترة النقاهة. بل أدعو إلى الاعتراف بأن جميع القوى السياسية والإسلامية فى المقدمة منهم ليست لديها استراتيجيات واضحة المعالم للمستقبل. ذلك ان تلك القوى لم تحلم يوما ما بأن تكون شريكة فى إدارة البلد، ولم يتجاوز حلمها طوال تلك المرحلة حدود إثبات الحضور ضمن مؤسسات النظام السابق. أما الإخوان فقد ظلوا مشغولين طوال الوقت بالدفاع عن الذات وأحكام الحفاظ على التنظيم فى مواجهة الغارات المستمرة التى ظلوا يتعرضون لها. وإذا صح ذلك فإنه لا ينبغى أن يكون سببا لإحباطنا، ولكنه يجب أن يكون حافزا لإقناعنا بحاجة كل منا للآخر، لوضع استراتيجيات النهوض المرجوة من خلال التجربة والخطأ. وهو ما لا يشين أحدا أو ينتقص من قدره. لأن المشين حقا ان يدعى أى طرف أن لديه استراتيجيات كاملة الأوصاف للحاضر والمستقبل والداخل والخارج، فى حين أنه لايزال يتعلم ويحاول التعرف على محيطه وعلى العالم من حوله.

 إن أولى خطوات علاج أى مريض أن يعترف بمرضه، وهو ما لا أراه حاصلا حتى الآن، رغم اننا لسا بالسوء الذى يعجزنا عن ذلك سنواصل الكلام فى الموضوع الأسبوع المقبل بإذن الله

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 89 مشاهدة
نشرت فى 19 سبتمبر 2012 بواسطة akhbar

شبكة ساقية دار السلام الإليكترونية

akhbar
»

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

58,930

الحلم الذى أصبح حقيقة

  ساقية دار السلام ... 

من فكرة بسيطة راودت رئيس نادى الأدب بدار السلام الشاعر حاتم السمان  إلى حقيقة على أرض الواقع  مهدت الطريق أمام إكتشاف أجيالا جديدة من المبدعين فى شتى المجالات وفى عام واحد فقط وبإمكانات أقل ما يقال عنها أنها ضعيفة أستطاعت أن تجذب إنتباه كل من سمع بها وأستطاعت أن تسرق كل  قلوب متابعيها.. عشقها أعضاءها فبادلتهم عشقا بعشق وحبا بحب...

أشرف السبع