حيرة بالغة تلك التى تنتاب الإنسان حينما يواجه تلك اللحظة التى تكمن بين شقى رحى: الإعلام والإعلان. أيهما يصدق، بل كيف يمكن الفصل بينهما خاصة إذا كان الأمر يتعلق بحياته وصحته؟
هناك أمثلة فجة تبدو واضحة للإنسان العادى الذى ربما لا يمتلك أى خلفية ثقافية صحية واعية كالإعلان عن تلك اللاصقة السحرية التى تلصقها على كعبك فى الليل لتمتص كل السموم فتصبح معافى خاليا من كل مرض كالسكر وارتفاع الضغط وارتفاع الكوليستيرول والروماتويد! هذا بالفعل إعلان يتكرر بانتظام على القنوات الفضائية وإلحاح يجافى كل معايير الذوق العام وأخلاقيات المهنة.
هناك أيضا الإعلانات البراقة التى تجذب العين وتحيد العقل مثل الإعلانات عن الفيتامينات المختلفة وأثرها على حيوية الإنسان اعتمادا على قدر ضئيل جدا من المعلومات العلمية الصحيحة، لكن أخطر تلك الإعلانات التى قد تحتمى بالإعلام وتنفى عن ذاتها تهمة الإعلان. الموضوعات التى تمس صحة الإنسان وتستهدف عقله لتترك بصمات واضحة عليه تقوده لانتهاج سلوك معين أو تناول دواء بعينه دون غيره.
كيف يمكن للإنسان العادى أن يختار من بين ما يقرأ أو يرى أو يسمع المعلومة العلمية الصحيحة التى منها بالفعل يستفيد؟
الحيرة فيما يبدو ليست خاصة بنا وحدنا إنما هى حيرة يقع فيها الإنسان فى العالم كله على ما يبدو.
فى بدايات شهر أغسطس بدأت مستشفيات كندا وأمريكا تستقبل مئات الحالات من مرضى السعال الديكى وهو أحد الأمراض سريعة العدوى يصيب الجهاز التنفسى وتزداد خطورته لدى الأطفال الرضع حيث ترتفع نسبة وفياتهم رغم العناية الفائقة.
يعتقد الأطباء أن تزايد حالات الإصابة بالإلتهاب الرئوى من جراء السعال الديكى ترجع لأن الآباء يحجبون الآن عن تطعيم أطفالهم بلقاح السعال الديكى الذى يجب تناوله فى ثلاث جرعات تبدأ عند تمام الشهر الثانى من عمر الرضيع إلى جانب جرعة منشطة بين سن السابعة والعاشرة وأخرى فى أوقات انتشار المرض. تراجع الآباء عن تطعيم أطفالهم أمر حديث العهد بدأ بعد الحديث غير المؤكد عن أن تلك التطعيمات قد تكون أحد أسباب مرض التوحد. احتواء بعض التطعيمات على مركبات معدنية مثل الزئبق كان وراء تلك الشائعة التى شاعت وترددت فى الإعلام بوسائله المختلفة ومنها كتب مهمة عن التوحد.
لم يقف الأمر عن هذا الحد بل تعداه إلى أن إحدى الشركات الصناعية فى كندا نشرت إعلانا فى الصحف تعلن فيه عن نوع من الزيت (Oregano oil) زعمت فيه أن يحل محل تطعيم السعال الديكى!
تحرك أصحاب الشأن الصحى فى كندا فى نفس اليوم فصدر بيان يؤكد أن التطعيم هو السبيل الوحيد لإنقاذ الآلاف من الأطفال فى مواجهة الإلتهاب الرئوى السبب الأول لوفيات الأطفال الرضع أقل من عام من العمر.
وسحبت الشركة الإعلان ومازالت تنتظر عقابا رادعا.
فى العالم المتقدم تحمى الحكومات صحة الإنسان فى القضايا التى لا تحتمل الخطأ بينما المراجعة الدقيقة لمصادر المعلومات والخلفية الثقافية الواعية تتكفل بالباقى.