"إن كل أديب لا يستقي مادته وروحه من حياة الشعب فليس أديبا.. ولا هو بكاتب للأدب.. وعلى ذلك.. فلا بدّ من أن تعرف ماذا يقول الشعب؟.. وكيف يعيش الشعب؟.. وكيف يحكي حكاياته وأقاصيصه؟.. ولا بّد للمنتجين من دراسة الأدب والحياة بين البيئات المختلفه للناس" (د. طه حسين).
هذا هو الدكتور طه حسين ينفي أن يكون ثمة شعار يقول (الأدب للحياة) باعتبار أن كل أدب على هذه الحالة.. ثم يقول للأدباء: ادرسوا البيئة، واتخذوا موضوعاتكم منها، واستقوها من حياة الشعب وروحه.
والكاتب الراحل الأستاذ أحمد رشدي صالح (1).. واحد من الذين اتخذوا هذا الشعار منهجا، فدرس وبحث، فأنتج - بقدر ما سمحت به سنوات عمره - أبحاثا أخرجها عبر وسائل النشر المتعددة (2). منها هذا الكتاب الذي نقدمه وإن كان غزير المادة، وعر المسالك، من الصعب أن نلم درره في العجالة، وبالقدر الذى تسمح به هذه المساحة التي اقتطعناها من صفحات هذه المجلة العريقة.
والكتاب جاء في مئتي صفحة من القطع الكبير (3)، تضمنت أربعة فصول، تندرج تحتها عناوين فرعية كثيرة.
ويقرر الكاتب - في مستهل بحثه - أن دراسة الأدب التي تقوم على الاعتقاد بوجود صلة وثيقة بين الأدب والحياة، هي تلك التي تبدأ بالمعرفة العلمية، ومن هذا المنطلق، نراه وقد بدأ بالتعريف بالفولكلور ومدارسه، وأهمية معرفته بالنسبة لدراسة الأدب الشعبي.. فيقول: يرى بعض دارسي الأدب أن نستبدل بالفولكلور "الأدب الشعبي" ويرى آخرون أن نستخدم اللفظة بشكلها الأصلى الإفرنجى، والمسألة ليست مجرد خلاف على الترجمة أو النقل كيف يكون، بل هى تتعلق بمدلول الكلمة، فهذا (إيوري سوكولوف) يعتبر أن الفولكلور والأدب الشعبي شيء واحد، لأن الشعر الشفاهي محور كل منهما، ويعارضه (بول سبيو) فيرى أن الفولكلور أوسع كثيرا من الأدب الشعبي، لأنه يضم التقاليد والعادات والمعتقدات ودراسة الفنون والآداب الشعبية.
غير أن سوكولوف وسبيو لم يخرجا عن ميدان العامية وتراث العامة، في حين أن بوخارين مثلا يتوسع فيقول بأن أدب مكسيم جوركي وأسلوبه الفصيح الذي استخدمه يدخلان في نطاق الفولكور. والألمان استخدموا في مقابل (فولكلور) لفظة تدل على دراسة الحياة الفكرية والآداب لدى الشعوب المتأخرة، أو استخدموا لفظة ثانية Volks Dichtung تدل فحسب على العلم الذى يبحث في هذه الحياة الفكرية وتلك الآداب الشعبية، لكنّ رشدي صالح يرى أنه لا انفصال بين الأدب الشعبي وبقية فروع التراث الفني، وأن هذا الأدب وذلك التراث، ينبغي ألا يقتصر البحث عنهما في المجتمعات المتأخرة، والقبائل البدائية، أو العشائر المعزولة عن تيار الحضارة، بل يعنى بالأدب الشعبي عامة.
مع البداية
ويقول رشدي صالح إن كلمة "فولكلور" نادرة في الكتب العربية، والعلم ذاته جديد علينا، فلنبدأ من البداية.
كان (ج- تومس) الانجليزي أول من استخدم كلمة Folklore وذلك في خطاب نشرته مجلة (أثينيوم) في 22 أغسطس 1846م، ولكن تومس لم يكن هو مؤسس ذلك العلم الحديث، بل الأصح من هذا، أنه في أثناء الحركة الرومانيسية خلال القرن التاسع عشر، ذاع في أوروبا الناهضة، الميل إلى الأساطير والأغاني والأقاصيص الشعبية، ففي السويد مثلا، أقبل الناس على كتاب "جرونتفيك" (الأغاني الشعبية والحكايات العامية).
وفي النرويج .. قدم (لوندوان) ذخيرة من الأغاني الشعبية وانتشرت مجموعات (بيورذن ... و..مو) من الأقاصيص الشعبية، وفي بلاد شرق أوروبا تأثر دارسو الأدب بأفكار "روسو" وأتباعه وذلك في الاتجاه إلى الريف. وفي ألمانيا .. بدأ الأخوان Grimm تيار دراسة العامية.
مدارس الفولكلور
@ بدأ الفولكلور .. بالمدرسة الرومانسية، واعتبر الأخوان جاكوب لودفيج كارل جريم (1785 - 1863م) وويلهلم كارل جريم (1786 - 1859م) مؤسسي الدراسة الفولكلورية العلمية.
@ وتأتى المدرسة الميتولوجية التي ارتاد طريقها يعقوب جريم، فتتقدم على يد (كون) صاحب دراسة "تكوين الأساطير وتطورها"، و(شوارتز) مؤلف "أصل الميتولوجيا" ، و(مكس موللر) إنجليزي، واضع "محاضرات في علم اللغة".
@ المدرسة "الإثنوجرافية" التي عارض أتباعها المدرستين السابقتين.
@ ومن المدارس الأخرى التي تهمنا - كما يقول الباحث - المدرسة الوضعية لمؤسسها العلامة (جيمس فريزر) صاحب "الغصن الذهبي" و "الفولكلور والتوراة" حيث نشر مؤلفه الأول عام 1890م.
ثم يمضي معدداً تطور هذا العلم عبر سنوات وسنوات، متحدثا عن الفولكلور والاستشراق، ذاكرًا بعض جهود المستشرقين في هذا المجال، كما يتحدث عن المصريين الذين ساعدوا المستشرقين في دراسة العامية: إلياس بن بقطر السيوطي (1784 - 1821م).. ميخائيل بن نيقولا بن إبراهيم الصباغ (1748 - 1816م).. الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810م - ...؟؟). حتى يصل إلى العصر الحديث، حيث الثقافات الجديدة، والدراسات الأكاديمية وظهور المطبعة، وصدور الدوريات المختلفة التي كان من شأنها تثبيت دعائم هذا العلم.
الألم والأدب الشعبي
ويتحدث رشدي صالح عن انتشار الألم في فنون الشعب الأدبية، ويراه من خلال ظرورف حياته، وعوامل تاريخه، ونوع الأعمال التي يؤديها، ونصيبه من ثمراتها، ونوع العلاقات الاجتماعية التي قامت في الماضى وتعيش الآن، ونوع الظروف الفكرية والروحية السائدة .. والموال وسيلتها.
ويضرب الأمثال:
كل المجاريح طابوا .. بس انا فاضل
وطبيب لجراح دوا الناس.. وانا فاضل
أنا قلت ياطبيب: ما عندكشى دوا .. فاضل؟
عسس على القلب والتفت .. قال لي :
روح ياقتيل الملاح ماعاد لك دوا ..فاضل
وهذه المعاني تتداعى في سياق كلمات عادية، لكنها ذات بلاغة:
أكايد الصبر وجروحي عليَّ فُجر
انا خايف اجول آه ساكنين العوازل فُجر
آه لو سعفني طبيبي بالدوا في الفُجر
إلا رماني على شيمة .. بلفافات
والجرح نتن وكل الناس.. لفافات
أمر من الصبر إذا خصمى عليّ فات
تجدني أو جات أبكي م العشا.. للفُجر
يلاحظ من معنى كلمة فجر .. في الشطر الأول : فاجرة وقاسية، وفي الثاني : عبارة عن "في" و "جارى" أدغمهما الشاعر في كلمة واحدة، الشيمة في الشطر الرابع: التيار الجانبي.. المضاد لمجرى النيل الرئيسي، وبنفس الشطر كلمة: لفافات : دوامات، وفي الشطر الخامس : تلف وتدور، وفي السادس: بمعنى مرَّ وعدَّى (فات).
ومن الأمثال الداعية للصبر على الألم، هذا الموال الخماسي الذي يختتم.. بأن الصبر مفتاح الفرج :
هلبت ياقلبي على طول الزمن ترتاح
وتنول اللى تهوى .. وفيه ترتاح
مصير جراحك على طول الزمن ..تبرا
ويجيلك الطب .. لا تعلم ولا تدرى
مثل سمعناه منقول عن ذوى الخبره
(الصبر يامبتلى عملوه للفرج مفتاح)
فنون الشعر
وفي نهاية المطاف .. يناقش الأستاذ رشدي صالح، فنون الشعر، متتبعها منذ الجاهليين وحتى العصر الحديث، مسترشداً بالكتب والدراسات الأكاديمية والرواد من أمثال : د. طه حسين، د. حسن إبراهيم حسن، د. فؤاد زكريا، د. سهير القلماوي، وغيرهم.
ويقرر أنه من المتفق عليه، أن فنون الشعر سبعة : (القريض، الموشح، الدوبيت، المواليا، الزجل، كان وكان، القوما) وقد يضاف إليها، الحماق، فتصبح ثمانية، ويقال إن ثلاثة منها ملحونة دائما: الزجل، وكان وكان، والقوما، أما المواليا فيحتمل الإعراب واللحن.
أغاني الحِداء
غير أن الباحث، أسهب في الحديث عن نوع داخل ضمن هذه الفنون، هو فن "الأغنية البكائية".. ويقول:
القالب البسيط للأغنية والبكائية التقليديتين، هو ما يعرف بالمزدوجة (اتحاد الأعاريض والأضرب في القافية - والأعاريض: جمع عروض، وهو الجزء الأخير من الشطر الأول من البيت)، وليس معنى اختلاف القافية، أو اختلاف الوزن في أحيان كثيرة خلال الأغنية الواحدة أنها لا تتصف بالوحدة كعمل فني، إذ التعويل إنما يكون على اطراد بنائها، وتماسك خيوط معانيها، هذا الأمر الذي تتصف به كثرة من أغاني الشعب، وإن كانت هناك أغان كثيرة مهلهلة السياق الموضوعي والأسلوب معا.
ومن الأمثلة.. تلك الأغنية البكائية المصرية الفولكلورية (وهي من أغاني الحِداء):
من طلعة الشمس وجاللى جوم
ما تشيل الفراش والحرير الرومي
عمر الولد لم اشتكى من عيب
من مصغره.. لما أتاه الشيب
لا جمال أبويا.. ولاهي جمالى
مكرى عليها على معايش إعيالي
شديت جمالى على أسواني
فوج الشعاري حريم ورجالي
إبكي على حالى وما جرالي
وابكي على بعدى من شراية مالي
(ويلاحظ أن المغني -هنا- يطلب أن نبكي على حاله وما حدث له، وعلى بعده عن زوجته التي يصفها بأنها "شراية ماله").
الهوامش:
(1) أحد روّاد حركة الفنون الشعبية، ولد عام 1920م.. ساهم في تحرير كثير من الدويات المصرية وأنشأ أول مركز للفنون الشعبية في مصر والعالم العوبي عام 1957م قام بالتدريس بالمعهد العالى للفنون المسرحية بالقاهرة، والدراسات العليا بكلية الآداب جامعة الإسكندرية. حصل على جوائر وشهادات تقدير من الهيئات العلمية المصرية والعربية، كان من أبرز كتاب الرواية العربية، وانتجت بعضها سينمائيا وتليفزيونيا.
(2) من أهم دراساته المنشورة في كتب: ترجمة كتاب "علم الفولكور" للعالم الإنجليزي الكسندر اكراب.. و.." الأدب الشعبي" ..و.. فنون الأدب الشعبي - الذي بين أيدينا.. علاوة على دراسات نشرت له باللغة الإنجليزية في الدوريات والموسوعات المتخصصة في علم الفولكور.
(3) نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1997م، ضمن سلسلة "القراءة للجميع " الأعمال الكاملة.
المصدر: مجلة الحرس الوطني : واحة التراث الشعبي
تاريخ: 01/08/2002
بقلم : السيد مسعد
نشرت فى 23 أكتوبر 2009
بواسطة ahmedsalahkhtab
أحمد صلاح خطاب
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
637,230