الأكاديميات لم توجد الفن ولكنها حاولت تقنينه بعد ما اكتشفته في مظاهر الطبيعة ونشاطات الإنسان. منذ خلق اللّه الإنسان طبعه على حب الجمال وميّزه بذلك عن الحيوان. يخطئ من يعتقد أن الإنسان العصري يتميز عن أسلافه بحسه الفني وذوقه الرفيع. الإنسان الفطري فنان يعيش الفن ويمارسه في جميع شؤون حياته: لغته جميلة موقعة، حركاته رشيقة، قسمات وجهه معبرة، عيناه يضيئهما بريق الدهشة، يحب الألوان الزاهية والأشكال الهندسية، ولا يؤدي عملاً من الأعمال إلا بمصاحبة الغناء، يرقص لأدنى سبب، ويقول الشعر في كل مناسبة.
نعم تختلف الجماعات التقليدية عن المجتمعات المتحضرة في أنها في الأغلب الأعم لا تعرف مبدأ الفن للفن، أو ما يسمى الفن الخالص، حيث أن الفن عندها لا ينفصل عن شؤون الحياة الأخرى ونلمسه في كل حرفة من الحرف. العامل في أداء عمله والصانع في إتقان صناعته كل منهما فنان ينشد الجمال والكمال. لذا نجد الفن عند الجماعات التقليدية فناً فطرياً بسيطاً يعبر عن روح الجماعة. أما في المجتمعات المتحضرة فإنه ينشأ التخصص في الفن والتكسب من ورائه ويصبح مجالاً معقداً فيه تشعب وتنوع. في البادية مثلاً نجد معظم الفتيات يُحسِنّ الغزل والنطي والنسيج، ومعظم القرويات يحسن نسج الخوصيات وفن التطريز. ومعظم الرجال في هذه المجتمعات يجيدون الرقص والغناء التقليدي الذي تصحبه آلات بسيطة مثل الطبل أو بدون آلات في معظم الحالات. لا يمكننا أن نتصور تماثيل منصوبة في أسواق القرية، ولا متاحف. لا تحف ولا لوحات معلقة في الأكواخ وبيوت الطين. القصيدة المنثورة مفهوم لا يرد بتاتاً على ذهن الرجل الأمي. هذه من مظاهر المجتمعات المتحضرة التي تنظر إلى الفن كنشاط متخصص قائم بذاته. هذا الرجل المتحضر يفتض حضارات الشعوب البدائية باسم الفن. الأصنام التي كان يعبدها الرجل البدائي وصور القديسين التي يتوسل بها أهل الريف تحولت إلى تماثيل تزين بها ساحات المدينة. التمائم والأحجار الكريمة التي استخدمها الأقدمون لدرء العين والحسد والأرواح الشريرة أصبحت مجرد حلي تزدان بها معاصم الغانيات.
أشياء الرجل البدائي المسكين التي تعب في صنعها واستخدمها في تسيير شؤون حياته يجمعها هذا الرجل المتحضر ويضعها في صناديق زجاجية مغلقة ليحدق بها ويتفكه بالنظر إليها. ما نشاهده من مسرحيات وغناء ورقص كان عند الإغريق والأمم التي سبقتهم مرتبطاً بالطقوس والشعائر الدينية. لو بعث الإنسان البدائي ورأى كيف تبتذل أشياءه وتمتهن مقدساته في المتاحف والمسارح لاستصرخ الآلهة ودعا بالويل والثبور.
الفن عند الجماعات التقليدية مهما كانت طبيعته، مرئياً أو مسموعاً أو حركياً، يرتبط ارتباطاً مباشراً بالحياة وله وظيفة ملموسة ودور بارز في المجتمع. أي نشاط إنساني أو مظهر من مظاهر الحياة التقليدية هو عمل يقصد به سد حاجة معينة بطريقة فنية تتناسب مع الذوق العام. لو كان الكساء مثلاً يقصد به مجرد ستر العورة ووقاية الجسم من الحر والقر لما تفننت الشعوب في تصميم الأزياء ولما اختلف اللبوس حسب اختلاف الحالة والمناسبة. في مجتمعات الصيد والرعي نجد الإنسان حالما يحط رحاله ويلجأ إلى ظل كهف أو شجرة ليجعل منه سكناً مؤقتاً يبادر قبل كل شيء إلى تهيئة المكان وترتيبه بشكل يتناسب مع ذوقه الفطري وحسه الجمالي. وما أشد حرص الإنسان بعد أن يستقر على تشييد القصور الفخمة التي تزينها العقود والأقواس والشرفات والطلاء وغيرها من الديكورات التي لا داعي لها لو كان الغرض منها نفعياً بحتاً. هل للنقوش التي نضعها على الأبواب والمصاريع والنوافذ والمشربيات أي دخل في صد الريح ودفع الخطر الخارجي ومنع الناس من ولوج الدار؟ إنه الحس الفني الذي جبل عليه الإنسان، غريزة وهبها الله له مثل اللغة، وهي لا تقل عن اللغة في دلالاتها النفسية وإيحاءاتها الرمزية. الفن هو استنباط النظام والتوازن اللذين يسيران الكون والطبيعة ثم إسقاطهما على إبداعات الإنسان الفكرية ومنتجاته المادية.
ولو أجلنا النظر في بيئتنا المحلية لوجدنا الحس الفني ماثلاً في كل صغيرة وكبيرة من حياتنا التقليدية، وذلك بعكس ما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة حين ينصرف الحديث إلى حياة صحراوية تسودها روح البداوة. نحن هنا لا نتحدث فقط عن الشعر والغناء والرقص بل أيضاً عن مظاهر الفن الشاخصة المرئية كما تتمثل في صناعات الأدوات التقليدية. لاشك أن هنالك الكثير من أدواتنا المحلية التي تخلو من أي مسحة جمالية وغايتها نفعية بحتة، خصوصاً تلك التي تستعمل في أعمال الحقل وفي البناء وغيرها، ربما لأن هذه الأدوات ليست للإستخدام البشري وإنما للأعمال العنيفة القذرة التي تتعلق بالتربة والطين والسماد وما إلى ذلك. أما الأشياء التي يستخدمها الإنسان مباشرة في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه وتنقلاته وغير ذلك من منافعه الخاصة فإنها قلما تخلو من اللمسات الفنية. بل إن اليد البشرية قلما تلامس شيئاً دون أن تضفي عليه مسحة من الجمال والسحر وتنفخ فيه من روح الإنسان.
ولارتباط الفنون التقليدية بالحياة فإن تغير الحياة يعني اندثار هذه الفنون وتلاشيها. في الخليج يندبون نهاميهم الذين ماتوا وانقرض معهم فنهم. في وسط الجزيرة تلاشت حياة البادية وتلاشى فنها. عازف الربابة الأصيل يكاد يكون معدوماً، أنغام وإيقاعات وحناجر وطبقات صوتية غابت عن الأسماع. لابد أن نحاول الإمساك ببعض خيوط الماضي قبل أن تذروها رياح التغيير. وما يروج الآن في الأسواق من أشرطة تحت مسمى الفن الشعبي ليست من الفن الشعبي في شيء. لانريد فقط أغاني شعبية بل نريد مسرحيات وأوبريتات استعراضية غنائية راقصة تنقلنا إلى أجواء الماضي وتبرز لنا علاقة الفن بالحياة ونشاطات الإنسان نريد مسرحة الماضي وعرض فنونه بأسلوب ذكي فيه خيال مبدع وتصوير جميل.
ترى هل سينتبه الرسامون والنحاتون والفنانون التشكيليون عندنا إلى هذه المعطيات؟ كثيراً ما نسمعهم يتحدثون عن استلهام البيئة المحلية. هؤلاء الذين يمضون سنوات الغربة الطويلة الكئيبة، ترى هل جلسوا بعد عودتهم ولو لساعة واحدة إلى صائغ أو صانع أو نجار ليتحدثوا معه عن سر هذه الحرفة وأصول هذا الفن الذي ورثه من فجر التاريخ؟ ترى هل لبسوا ثياباً داكنة وذهبوا إلى الميدان في البادية والقرية للتعرف على مختلف أنماط الفن المحلي؟!
ليس الاستلهام أن يضع الفنان أمامه شيئاً محلياً ويرسمه. لابد أن يعرف دقائق هذا الشيء وطريقة صنعه وشعور الصانع أثناء عملية الصنع، ولابد أن يعرف شعور الناس تجاه هذا الشيء وتقييمهم له، وأن يستوعب الذوق العام والحس الفني للجماعة ووظيفة الفن النفسية والعاطفية بالنسبة لهم. إذا استبطن الفنان هذه الأمور وتمثلها تمثلاً صحيحاً استطاع ان ينتج فناً ينبض بالحياة ويعبر عن وجدان الجماعة.