دراسة المجتمع المحلي ( علم الاجتماع الحضري ) -كتبهاحرفوش مدني
1-جوانب من التراث السوسيولوجي للمفهوم:
ارتبط مفهوم المجتمع المحلي شأنه في ذلك شأن معظم المفاهيم السوسيولوجية التي اشتقت منه لغة الحياة اليومية بمعاني كثيرة ومتعددة.
وتنقسم التعريفات إلى قسمين رئيسيين:
تعريفات وجهات النظر التقليدية أو الكلاسيكية:
تعريف روبرت ماكيفر : المجتمع المحلي هو وحدة اجتماعية تجمع بين أعضاءها مجموعة من المصالح المشتركة، وتسود بينهم قيم عامة وشعور بالانتماء، بالدرجة التي تمكنهم من المشاركة في الظروف الأساسية لحياة مشتركة.
تعريف روبرت بارك: “أن المجتمع المحلي في أوسع معاني المفهوم يشير إلى دلالات وارتباطات مكانية جغرافية، وأن المدن الصغرى والكبرى والقرى بل والعالم بأسره تعتبر كلها رغم ما بينها من الاختلافات في الثقافة والتنظيم والمصالح.. الخ، مجتمعات محلية في المقام الأول”.
تعريف لويس ويرث: أن المجتمع المحلي يتميز بما له من أساس مكاني إقليمي يتوزع من خلاله الأفراد والجماعات والأنشطة، وبما يسوده من معيشة مشتركة تقوم على أساس الاعتماد المتبادل بين الأفراد، وبخاصة في مجال تبادل المصلحة.
تعريف آموس هاولي: “إن التحديد المكاني للمجتمع باعتباره منطقة جغرافية أو مساحة مكانية يشغلها مجموعات من الأفراد محاولة تعسفية للتعريف, وإنه من الملائم أن ننظر إلى المشاركة في الإيقاع اليومي والمنتظم للحياة الجمعية على أنها عامل أساسي يميز المجتمع المحلي ويعطي لسكانه طابع الوحدة، إن المجتمع المحلي أكثر من مجرد تنظيم لعلاقات التكافل بين الأفراد، وأن الحياة الجمعية تشتمل على قدر من التكامل السيكولوجي والأخلاقي إلى جانب التكامل التكافلي أو المعيشي، وأنه يتعين على الباحث أن ينظر إلى الجوانب السيكولوجية والأخلاقية على أنها مظاهر متكاملة، وليست مختلفة أو متميزة لحياة المجتمع المحلي، خاصة وأن الأنشطة المعيشية وما يرتبط بها من علاقات تكافلية تتداخل وترتبط بمجموعة المشاعر والأحاسيس وأنساق القيم والمعايير الأخلاقية وغير ذلك من موجهات السلوك والتفاعل اليومي”.
تعريف تالكوت بارسونز: المجتمع المحلي هو جمع أو حشد من أفراد يشتركون في شغل منطقة جغرافية أو مساحة مكانية واحدة كأساس لقيامهم بأنشطتهم اليومية.
تعريف بلين ميرسر: المجتمع المحلي هو تجمع لأشخاص تنشأ بينهم صلات وظيفية، ويعيشون في منطقة جغرافية محلية خلال فترة محددة من الزمن، كما يشتركون في ثقافة عامة، وينتظمون في بناء اجتماعي محدد ويكشفون باستمرار عن وعي بتميزهم وكيانهم المستقل كجماعة.
تعريفات وجهات النظر المتطورة أو الأكثر حداثة.
قدم موريس شتاين عدداً من الانتقادات التي وجهها للتطور التقليدي للمفهوم “إن انتشار الحضرية أفقد الأفراد إحساسهم وشعورهم بالمجتمع المحلي كما أن مقومات التنظيم الاجتماعي التقليدي في كثير من المجتمعات المحلية الأمريكية قد تقوضت نتيجة لتعرضها للمؤثرات الخارجية التي أفقدت الأفراد شعورهم بالانتماء إلى مجتمعاتهم المحلية، والتي مكنت من إحلال الانقسامية والجزئية محل الشمولية فطورت مجتمعات محلية فرعية –معادية لبعضها البعض- بدلاً من الشعور التقليدي بالانتماء والتعاون المحلي، وباختصار فإن القومية والعالمية قد غدت سمة العصر التي تؤكد وباستمرار خاصية الاعتماد المتبادل بدلاً من خاصية الاستقلالية والاكتفاء الذاتي، التي كانت من أهم مقومات التصور التقليدي لمفهوم المجتمع المحلي إن تقدم وسائل النقل والاتصال وما ترتب عليه من اعتماد متبادل بين المجتمعات المحلية ارتبط بالعديد من المصاحبات النفسية التي أدت إلى ضياع أو فقدان المجتمع المحلي السيكيولوجي.
ويشارك شتاين في تصوره السابق كل من ملفين فيبر ورونالد وارن فقد انتقد فيبر تصور أن المجتمع المحلي وحدة اجتماعية ذات ارتباط وتحديد مكاني، إن إنسان العصر الحديث، وبخاصة سكان الحضر يعيش في مجتمعات محلية عديدة كما أن هذه المجتمعات التي يرتبط بها وينتمي إليها لم تعد مجرد مكان محدد يلتزم به كأسلافهم بل أصبح أكثر ارتباطاً بمجتمعات المصلحة المتنوعة مهما اختلف أساس هذه المصلحة، ولم يعد الأفراد بحاجة إلى التركيز المكاني، ومن ثم لم تعد الحدود المكانية مؤشراً هاماً للعلاقات الوظيفية أو أساساً للنظام في المجتمع.
ويعتبر تعريف رونالد وارن من أحدث التعريفات “إن مصطلح المجتمع المحلي يتضمن بعداً سيكولوجياً وآخر جغرافي وثالث سوسيولوجي فهو من الناحية السوسيولوجية يتضمن المصالح المشتركة والخصائص المميزة للأفراد والروابط المشتركة بينهم كما هو الحال بالنسبة لمجتمع المصلحة، كما أنه من الناحية الجغرافية يشير إلى منطقة بعينها يحتشد فيها جماعات من الإفراد ومن وجهة النظر السوسيولوجية يرتبط البعدان السيكولوجي والجغرافي معاً ليشير المصطلح إلى المصالح المشتركة وإلى أنماط متميزة من السلوك يختص بها جماعات بعينها من الأفراد نظراً لاشتراكهم في نفس المنطقة أو المكان.
ملاحظة هامة:
ارتباط المفهوم واستخدامه في علم الاجتماع من تصورين مختلفين فمن ناحية نجد تصوراً يفيد الإشارة إلى جمع بشري محدد يشغل منطقة جغرافية معينة، ويتخذ من الاشتراك في المكان الواحد أساساً ترتكز عليه كل محاولة للتعريف أو التنميط أو الدراسة كما ينظر إلى البعد المكاني باعتباره متغيراً مستقلاً يفسر ما لنماذج المجتمع المحلي المختلف من خصائص متميزة ومن ناحية أخرى نجد تصوراً آخراً يؤكد البعد السيكولوجي ويعتبر الاتصال والإجماع أو الاتفاق شرطاً ضرورياً أو مقوماً أساسياً من مقومات المجتمع المحلي، ومن ثم يصبح المجتمع المحلي عبارة عن كل أخلاقي تندمج فيه عقول الأفراد، ومن خلاله فقط، تتاح الفرصة للأفراد للتعبير عن قدراتهم وإمكاناتهم بطريقة كلية وملائمة.
2 – محاولة لإعادة التعريف: وجهة نظر:
هناك اعتبارين تلقي الضوء لإعادة التعريف:
الاعتبار الأول: يختص بتقييم البعد المكاني:
المجتمع المحلي هو: “تجمع إنساني تقوم بين أعضائه روابط الاعتماد الوظيفي المتبادل ويشغل منطقة جغرافية محددة ويستمر خلال الزمن عن طريق ثقافية مشتركة تمكن الأفراد من تطوير أنساق محددة للاتصال والإجماع فيما بينهم كما تيسر لهم سبل التفاعل وتنظيم أوجه نشاطاتهم اليومية”.
الاعتبار الثاني: يدور حول تطبيق المصطلح واستخداماته:
أ – كثيراً ما يشار إلى بعض المؤسسات على أنها مجتمعات محلية مثل “السجون والمستشفيات العقلية والأديرة والملاجئ والثكنات العسكرية” ومن اللائم أن نطلق على هذه الكيانات اسم “المؤسسات الشمولية العامة” ففي مثل هذه التسمية ما يشير إلى أنه بإمكان الفرد أن يقضي حياته بأكملها بين جدرانها.
ب – يشار في بعض الأحيان إلى بعض الوحدات الاجتماعية ذات الأساس المكاني الأكثر اتساعاً كالأقاليم والولايات والدول بل والعالم بأسره على أنها مجتمعات محلية وكثيراً ما نقرأ أو نسمع عن “مجتمع الأطلنطي، أو عن المجتمع العالمي” ويعكس استخدام المصطلح بهذا المعنى نفس الفكرة المألوفة عن “مجتمع المصلحة”، أو “المشاركة في وجهات النظر والاهتمامات”.
ويجب التأكيد على البعد الزماني إلى جانب التأكيد على البعد المكاني، بمعنى أن يشير مفهوم المجتمع المحلي إلى أن “مناطق بعينها ذات تفاعل يومي مستمر ومنتظم”.
3 – عناصر التعريف:
أ – عنصر الإقليم أو المكان المحدد: يشير إلى منطقة محددة ذات خصائص طبيعية أو مصطنعة فريدة ومتميزة يتوافق لها بالضرورة ما يطوره المجتمع من نسق خاص للتنظيم الاجتماعي، ويبدو من الصعب فهم وتفسير طريقة الحياة في المجتمع دون الرجوع إلى خصائص المكان كمتغير أساسي يميز المجتمعات المحلية عن بعضها البعض.
ب – خاصية الاستقلال والاكتفاء الذاتي:المجتمع المحلي عبارة عن جماعة مكتفية بذاتها من الأفراد، فيعتمد الأفراد على بعضهم البعض للقيام بالوظائف الأساسية كما ترتبط الأهداف الجمعية والنشاطات الفردية بتنوع واسع النطاق من الاحتياجات والمصالح والاهتمامات التي لا يمكن لمؤسسة أو تنظيم بعينة أن يواجهها أو يشبعها.
ج – خاصية الوعي الذاتي: وتعتبر من أهم الخصائص المميزة للمجتمع المحلي وتتضمن هذه الخاصية الاعتراف المتبادل بين الأفراد إلى جانب الشعور بالانتماء والتميز.
د – القيم والمعايير المشتركة: من أهم ما يميز المجتمع المحلي عن أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى ما يسوده من أنساق خاصة للقيم والمعايير إذ عادة ما يعاد صياغة الكثير من القيم المطلقة في الثقافة الكبرى في ضوء الرموز والأحداث ذات الدلالة والمغزى في السياق المجتمعي المحلي.
4 – مدخل متعدد الأبعاد لدراسة المجتمع المحلي: وجهة نظر:
أ – المجتمع المحلي كوحدة مكانية إقليمية:
أي أنه تجمع من أفراد يعيشون داخل منطقة جغرافية ذات خصائص معينة، وترجع أهمية هذا العبد المكاني إلى سببين رئيسيين أولهما أن العوامل المكانية تساعد في تفسير قيام المجتمع وبقائه وتنظيمه، وثانيهما أن أفراد المجتمع بما يطورونه من تنظيمات وميكانيزمات للتفاعل بينهم يعدلون وباستمرار من الوسط أو القاعدة المكانية التي يعيشون في إطارها وحدودها، معنى ذلك أن العلاقة جد وثيقة بين المكان وخصائصه ومتغيراته، وبين التنظيم الاجتماعي وطريقة الحياة التي يعيشها أفراد المجتمع.
ولعل السبب الرئيس لظهور المجتمعات المحلية يكمن في أن الإنسان لا يستطيع بحال من الأحوال أن يسمو أو يتجاوز حدود المكان أضف إلى ذلك أن إشباع الحاجات النفسية والاجتماعية للإنسان تتضمن بالضرورة الجوار أو الاقتراب المكاني.
موجز القول إن المتغيرات المكانية -سواء نظرنا إليها كمتغيرات مستقلة أو تابعة- عناصر أساسية لا يمكن إغفالها في الدارسة السوسيولوجية للمجتمع المحلي، وإن الاهتمام والتركيز على هذه المتغيرات كان سبباً في تطوير أحد المداخل الكبرى في دراسة المجتمع هو ما يعرف باسم المدخل الإيكولوجي، ومن علمائه المعاصرين آموس هاولي إذ يعرف المجتمع المحلي بأنه “تلك الرقعة المكانية التي يرتبط بها وفيها السكان والتي من خلالها يتم تكامل الأفراد مع بعضهم البعض استجابة لمتطلباتها اليومية وخصائصها”.
ب – المجتمع المحلي كوحدة للتنظيم الاجتماعي:
هناك ثلاثة مداخل:
1 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كجماعة اجتماعية.
2 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كنسق اجتماعي.
3 – مدخل لدراسة المجتمع المحلي كشبكة أو نسيج للتفاعل الاجتماعي.
يرجع تصور المجتمع المحلي كشكل من أشكال الجماعات الاجتماعية إلى هيللر حيث ذهب إلى أن للجماعة الاجتماعية عدداً من الخصائص الأساسية التي تعد من أهم مقومات بناء المجتمع المحلي، وهي احتوائها على تجمعات الأفراد وتحديدها لبناء الدور والمكانة وشمولها على مجموعة من المعايير التي يلتزم بها الأعضاء.
ويعد مدخل النسق الاجتماعي لدراسة المجتمع المحلي ترجمة معدلة لمدخل الجماعة الاجتماعية فالنسق الاجتماعي شأنه شأن الجماعة الاجتماعية يشتمل على أعضاء وبناء معياري ومحددات للدور والمكانة ومقاييس أو محكات للعضوية، ولو أن هذه المقاييس تأخذ في مدخل النسق الاجتماعي حدوداً اجتماعية ونفسية ومكانية في نفس الوقت ويعتبر رونالد وارن أحد مؤيدي هذا المدخل حيث يتصور المجتمع المحلي على أنه “نسق كلي يتكون من أنساق اجتماعية فرعية أصغر تقوم بدورها بعدد من الوظائف ذات الملائمة المكانية المتخصصة كالضبط والمشاركة والدعم والإنتاج والتوزيع والاستهلاك.. الخ”، ووفقاً لهذا المدخل يعتبر المجتمع المحلي الوحدة الأساسية للتنظيم الاجتماعي.
ويلتقي المدخل التفاعلي مع مدخل النسق الاجتماعي في نقطة هامة هي أن التفاعل لا يتم بين أفراد فحسب، بل يقع بين الجماعات والنظام والمؤسسات أيضاً، ولعل من أهم مشكلات هذا المدخل أن الظروف المحيطة بالمجتمعات المحلية في الوقت الراهن لا تتفق تماماً مع التعريفات التي حددت لمفهوم التفاعل من قبل الغالبية العظمى من علماء الاجتماع، فالتفاعل هو علاقة المواجهة المباشرة بين شخصين أو أكثر بحيث يتعين على كل فرد أن يضع الآخرين في اعتباره وتقديره عند قيامه بفعله، غير أن شمول أو احتواء كل أعضاء المجتمع في شبكة التفاعل على هذا النحو أمر يندر أن يتحقق إلا في أبسط المجتمعات المحلية وأصغرها حجماً خاصة وأن كبر الحجم وزيادة التعقيد وتنوع المصالح والاهتمامات قد تحول دون حدوث التفاعل على نحو مباشر وشمولي، ويميل بعض العلماء إلى الجمع بين مدخل الأنساق والمدخل التفاعلي، بحيث لا يقتصر تحليلهم إلى وحدات أو أنساق فرعية متفاعلة داخل المجتمع المحلي، ويشير رونالد وارن إلى محاور أفقية ورأسية للتفاعل أما المحور الأفقي فيتضمن علاقة الفرد أو الجماعة بالجماعة داخل مكان أو إقليم محدد، بينما يتضمن المحور الرأسي علاقة الفرد بالجماعات المحلية أو الأنساق الفرعية، أو علاقة الوحدات والجماعات المحلية بوحدات أو جماعات إقليمية أو قومية أكثر شمولاً، وباختصار يوفر هذا المدخل أداة تصورية أكثر ملائمة لوصف تفسير العلاقات المتداخلة بين مختلف الوحدات التي يتركب منها المجتمع المحلي.