ترجمة : المنتصر الحملي
يومي اكتمل، سأغادر أوروبّا. سيحرق الهواء البحريّ رئتيّ، والمناخات الضّالّة سوف تدبغ جلدي. سأسبح، سأسحق العشب، سأصطاد، سأدخّن لاسيما، سأحتسي شرابا قويّا مثل المعدن الفائر، كما كان هؤلاء القدامى الأعزّاء حول النّيران يفعلونسأعود بأعضاء من حديد، ببشرة داكنة، بعين ساخطة : سيحكمون على قناعي بأنّي من عرْق قويّ. سأحصل على الذّهب : سأكون غفلا وشرسا. ستداوي النّساء تلك العودات العاجزة المتوحّشة من البلدان الحارّة. سأكون مشاركا في الشّؤون السّياسيّة.
لقد نجوت.أرتير رامبو، موسم من جحيم. يبدو أنّ الجمع بين الرّحلات وطقوس العبور يعود إلى زمن سحيق في تاريخ المجتمعات الإنسانيّة. إنّنا بالفعل نعثر في كلّ القارّات على روايات كبيرة تبرز «أبطالا» يقومون برحلات بحريّة يواجهون خلالها محنا جسديّة (هرقل وأعماله الاثنا عشر) وفكريّة (أوديب ولغز أبي الهول). وبمجرّد أن يتجاوز الأبطال هذه المحن يعودون عموما إلى مكان الانطلاق، ليتمّ الاعتراف بهم بصفتهم تلك (عودة أوليس إلى إيتاكا).
إنّ "أرنولد فان ڤـانّاب" هو أوّل من استعمل عبارة "طقس عبور". ومن وجهة نظره، يمرّ كلّ فرد بوضعيات عديدة خلال حياته، وتتّسم هذه التّحوّلات في الغالب بطقوس يُعَدّ لها بطرق مختلفة باختلاف المجتمعات (الولادة، المرور إلى سنّ البلوغ أو إلى موقع اجتماعيّ جديد، الزّواج، تجربة الأمومة أو الأبوّة، الموت). بشكل أعمّ، يمكننا أن نقول إذن إنّ طقوس العبور هي طقوس ترافق أيّ تغيير في المكان والحالة والموقع الاجتماعيّ والسّنّ.
لقد بيّن "فان ڤـانّاب" أنّ جميع طقوس العبور تتشكّل من ثلاثة أطوار :
الفصل، ذلك أنّ الفرد ينفصل عن وضعه السّابق، في علاقته بالبنية الاجتماعيّة أو بجملة من الشّروط الثّقافيّة («حالة»)، الهامش أو الفترة الاستهلاليّة، حيث يقع الفرد بين وضعيّتين، وتكون صفاته المميّزة مبهمة، ويمرّ عبر مجال ثقافيّ ليس له شيء- أو القليل فحسب - من خاصّيات الوضعيّة السّابقة أو اللاّحقة،
الانضمام الجديد أو الاندماج الجديد، إذ تكتسب الذّات الطّقسيّة وضعا جديدا، مستقرّا نسبيّا، تصبح لها بموجبه حقوق وواجبات إزاء الآخرين محدّدة بوضوح، ويفترض منها أن تتصرّف طبقا لمعايير محدّدة ولمرجعيات إيتيقيّة مفروضة على من يقاسمونها نفس الموقع الاجتماعيّ.
فماذا بقي اليوم من طقوس العبور تلك في مجتمعاتنا الّتي توصف بأنّها «مخيّبة للآمال»؟
كما يشير إلى ذلك جون ديدياي إيربان Jean-Didier Urbain، تندرج ممارسة الرّحلة دائما ضمن مغامرة رمزيّة، ضمن قصّة خياليّة قويّة، تترابط فيها المتتاليات الأساسيّة لسيناريو تلقينيّ : حكاية شخص يتحوّل، وفيها تتعاقب فعليّا من خلال الانطلاق والاستكشاف والعودة هذه المراحل الطّقسيّة الّتي يعرفها جيّدا علماء الأجناس : من فصل وتلقين وإعادة إدماج. وحسب جون بيار إيربان، عديدة هي الأنشطة السّياحيّة المعاصرة الّتي يمكن النّظر إليها من هذه الزّاوية، خصوصا باعتبارها «طقوس عبور».
يعتبر جون ديدياي إيربان إذن أنّ السّياحة طقس حديث، ويقسّمه إلى فئتين : الأولى تتعلّق برحلة حفظ الذّاكرة الجمعيّة وبنشرها، وهي شبيهة بالحجّ. والثّانية تتعلّق بطقوس التّلقين وتنتمي إلى السّياحة التّجريبيّة، سياحة المغامرة والاكتشاف ويمكن أن ننعتها بالسّياحة «الوجوديّة».
إنّ شغف قسم من الشّباب المنتمين غالبا إلى طبقات اجتماعيّة متوسّطة وعليا برحلات «التّلقين» يتّصل في أكثر الأحيان بهذه الفئة الثّانية. ومن المهمّ من جهة أخرى أن نلاحظ أنّ إحدى وظائف طقوس العبور حسب تيرنر Turner هي بالتّحديد حمل الأعضاء الجدد إلى اكتشاف أنّ الشّخص الكبير لا يكون كبيرا دون وجود أطفال صغار، وينبغي حينئذ على الكبير أن يجرّب ما معنى أن يكون صغيرا. هذا في جوهره شبيه بشبّان منحدرين من طبقات وسطى وعليا لا بدّ لهم اليوم من أن يعيشوا تجربة الفقر، حتّى يكونوا مسئولين «بطريقة شرعيّة» عن موقعهم الاجتماعيّ المستقبليّ.
في هذا الصّدد، من المهمّ التّذكير بأنّ لطقوس العبور في أغلب الأحيان وظيفة تدعيم النّظام القائم، حتّى لو وجب عليها لتحقيق ذلك انتهاكه تحديدا. كما لو أنّ المجتمع يخاتل نفسه من خلال هذه اللّحظات الخياليّة من الفوضى الّتي تسمح في الواقع بتأكيد شرعيّة النّظام الاجتماعيّ وبإدماجه.
في سياق الأفكار ذاتها، يمكننا أن نعتبر أنّ رحلات التّغلغل في بلدان العالم الثّالث، حتّى دون أن تطرح السّؤال مرّة أخرى عن التّفاوت المتّصل بالعلاقات بين الشّمال والجنوب، بوسعها أن تشارك في ما سمّاه بيار بورديو Pierre Bourdieu استراتيجيات التّنازل. فحسب بورديو، «بتنحّي المهيمِن مؤقّتا وبتفاخر عن موقعه المسيطر في سبيل أن يضع نفسه في مستوى محادثه، فهو يستفيد مرّة أخرى من علاقته القائمة على الهيمنة الّتي تستمرّ في الوجود حتّى وإن أنكرها. إنّ الإنكار الرّمزيّ (بالمعنى الفرويديّ لكلمة Verneiung)، أي وضع علاقة الهيمنة بين قوسين وهميين، يستغلّ علاقة السّيطرة هذه بقصد خلق الاعتراف بعلاقة الهيمنة الّتي يستدعيها هذا الإنكار».
وبمثابة الخاتمة، يمكننا أن نتساءل : أليست رحلات التّغلغل في البلدان السّائرة في طريق النّموّ بصدد أن تصبح شكلا جديدا من طقوس التّحوّل بين المراهقة وسنّ الرّشد عند الشّباب؟ كما يمكننا أن نتساءل عمّا إذا كانت هذه الرّحلات، وبعيدا عن الهوّة القائمة بين الشّمال والجنوب، لا تشكّل بالنّسبة إلى الشّباب المنحدرين من الطّبقات الوسطى والعليا أكثر من طريقة جديدة تقريبا للتّميّز وللاستثمار في شكل جديد من الرّأسمال الرّمزيّ، مع إخفاء التّوزيع المتفاوت للثّروات وللسّلطة وإعادة إنتاجه؟

المصدر: المقال بالفرنسيّة منشور على الموقع الألكتروني ITECO – مركز التّكوين من أجل التّنمية والتّضامن العالميّ- بتاريخ 21- جوان- 2005. http://www.alawan-sa.org/%D8%A7%D9%8...%88%D8%B3.html
ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

  • Currently 64/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
21 تصويتات / 801 مشاهدة
نشرت فى 28 أكتوبر 2010 بواسطة ahmedsalahkhtab

أحمد صلاح خطاب

ahmedsalahkhtab
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

636,843